هي مجرد شخبطة يا جدتي!
9-تموز-2023
عامر بدر حسون
وفي الخامسة من عمري كنت أظن ان الأرض مسطحة!
وان مصدر الهواء هي سعفات النخيل وغصون الأشجار، وانها كلما تحركت اكثر ازدادت قوة الهواء!
ولأنني كنت طفلا شبه مهجور ( بين تسعة إخوة وأخوات) فقد كنت ادعي المرض لدقائق لأحصل على لمسة وقبلة عابرة من امي.
وبسبب هذا الهجران وكون الارض مسطحة كنت اهرب في احلام اليقظة لأصل الى نهاية الارض!
وكنت، قبل ان اعرف الخوف، اجلس على حافة الارض وادلّي قدميّ في الفراغ واتطلّع في السديم اللانهائي.
لم اكن التفت للأرض بل كنت انظر في اللانهائي الذي يمتد امامي مبهما وغامضا وساحرا.
وعندما اصبحت شابا تعلقت بكتاب "الكون الاحدب" لمؤلفه عبد الرحيم بدر وهو كتاب اعتبرته مكملا لأحلام يقظتي رغم انه مليء بالحديث عن النظرية النسبية واينشتاين.
(وتدور الايام واتغرّب، وتصبح عندنا صديقة رائعة اسمها ليالي بدر وهي مخرجة معروفة ويمتد الحديث بيننا ذات مرة، فاعرف انها ابنة الكاتب الساحر عبد الرحيم بدر مؤلف "الكون الاحدب"!
واعتبرت، وما زلت، تلك المعرفة من مكافآت الحياة لأنها تدل على ترابط أي شيء بكل شيء:
حلم يقظة لطفل مهجور على حافة العالم دون دليل..
ثم يعثر في شبابه على الدليل في كتاب..
وفجأة، وفي ذروة وحشة غربته..
يلتقي بابنة مؤلف الكتاب)!
وفي الخامسة من عمري اصابني يقين هو اقرب ما يكون الى مس من الجنون.
فقد رأيت نجمة ذات غروب وبدأت اطاردها لظني انها قريبة مني، وما علي الا ان امد يدي والتقطها!
ركضت وقفزت في كل مكان خلفها، ودخلت الى البيت، وصعدت الى السطح.. فانتبهت امي لقفزي في الهواء..
فلاحقتني وأخذتني بحضنها وهي تبسمل وتحوقل.
ومنعني من الحركة حتى غفوت.. دون نجمة ودون عشاء!
وانتبهت وانا صغير جدا انني في بحثي عن الاهتمام في عائلة تتكون من 25 فردا كنت ابالغ في رواية الاحداث الدرامية لأمي عما صادفته في الحياة!
وكانت تسمعني وتبكي متاثرة!
فشجعني هذا على المبالغة والتأليف عن: (فقراء ساعدتهم وهم بحالة مأساوية او عن طفل تعرض للتنمر فساعدته والخ).
وانتهى الامر بأمي عندما ادعوها لسماع ما مررت به من قصص ان تقول لي:
- عوفني هسه.. ما بيّه حيل ابكي!
وعندما كبرت قليلا استبدلت تأليف القصص المثيرة للدموع بتأليف الاسئلة التي تجعل من حولي ينظرون لي شزرا او باحترام او باستهانة..
المهم ان الاسئلة كانت تخرب الجو..
وهي شبيهة بالأسئلة التي "ادسها" في منشوراتي حتى اليوم!
أسئلة ليس في ثقافتنا السائدة من جواب عليها سوى الحديث بيقين سياسي او قومي او طائفي ليس الا!
ويبدو اننا نقضي الجزء الاكبر من عمرنا ونحن نحاول لفت الانتباه لنا او الحصول على التقدير الذي نحتاجه.
لكن انتهى بي الامر وانا ادخل عامي ال 74 وانا اتمنى لو انني كنت نسيا منسيا، وهذه من علامات الشيخوخة او النضج!
وكنت قرات في شبابي قصائد محمد الماغوط وخفت، آنذاك، ان ينتهي بي التعب في اخر العمر ان اردد معه هذا المقطع:
"آه كم أتمنى لو أكونُ في قرية بعيدة
على سريرٍ غريب
وتحتَ سقفٍ غريب..
وامرأة عجوز لم تقع عيناي عليها من قبل
تسألني وهي تعصرُ منديلها المبلل فوق جبيني:
من أي بلاد أنت يا بني؟
فأجيبها والدموعُ تملأ عيني:
آه يا جدتي....!".