هيلاري مانتل وسيرة توماس كرومويل والمان بوكر
24-أيلول-2022
بغداد ـ العالم
كتبت جريدة الاتحاد الاماراتية عن الروائية البريطانية هيلاري مانتيل التي وافاها الأجل في بيتها في إكسيتر منذ يومين اثر ذبحة صدرية مؤكدة إنها من بين أهم الروائيين الانجليز فقد فازت روايتها “قصر الذئب” عام 2009 بالمان بوكر متقدمة على روائيين منافسين أقوياء من بينهم الجنوب الإفريقي جيه أم كويتزي (نوبل للآداب 2003). وعندما فازت روايتها “هات الرفاق” بنفس الجائزة عام 2012 قال رئيس لجنة التحكيم، محرر الملحق الأدبي لصحيفة “التايمز” اللندنية بيتر ستوتارد: “إن مانتل تستحق هذا التقدير المزدوج استحقاقا فريدا”. ووصف الرواية ذاتها بأنها “مأثرة عظيمة” للأدب الانجليزي. بذلك لم تصبح هيلاري مانتل، الأم لثلاثة أبناء ذات الستين عاما، أول امرأة تفوز بالجائزة لمرتين فحسب بل هي أيضا أول روائي انجليزي ينضم لقائمة من الروائيين من الذين حازوا الجائزة لمرتين عبر تاريخها الطويل الممتد لأربعين دورة سنوية. الأول هو كويتزي ذاته الذي حاز (المان بوكر) أول مرة العام 1983 عن روايته “حياة وأزمنة مايكل كيه”، ثم عام 1999 عن روايته “خزي”، والثاني هو الروائي الاسترالي بيتر كاري الذي فاز بالجائزة لأول مرة العام 1988 عن روايته “أوسكار لويشيانا” ثم عام 2001 عن روايته “التاريخ الحقيقي لكيلي غانغ”. وروايتا مانتيل جزءان من ثلاثية تتعرض لفترة تراجيدية تاريخية جرت أحداثها في البلاط الانجليزي بدءا من العشرينات من القرن السادس عشر وحتى الستينات من ذلك القرن، حيث تتعقب حياة توماس كرومويل احد مستشاري الملك الانجليزي هنري الثامن، والمصير التراجيدي الذي انتهت اليه احدى زوجات هنري، وهي آن بولين. في “قصر الذئب”، لا وريث للملك هنري الثامن فيخلفه على العرش في الوقت الذي يرفض فيه البابا طلبه بطلاق زوجته ليتزوج بغيرها، لكن مستشاره الأول الكاردينال وولسي يشحنه بطاقة الجرأة اللازمة للإقدام على إجراء الطلاق ومخالفة رغبة البابا بوصف ذلك وسيلة أخيرة لولادة وريث للعرش من صلب هنري الثامن الذي بدا الأمر مدوّخا بالنسبة له. في هذه الأثناء تظهر الحاجة لشخصية رجل الدين الشاب الطموح كرومويل، التلميذ الأكثر نجابة في مدرسة الكاردينال السياسية، وابن الحداد الذي عاش حياة قاسية ونال معاملة صارمة من أبيه، والذي أبدى وعيا ينم عن عبقرية سياسية كانت مباغتة للطبقة الحاكمة آنذاك. وبقوة تخييلية ديناميكية تدير الروائية هذا العالم المليء بالدسائس والمكائد والأحداث ذات الطابع التراجيدي، فضلا عن الاستقطابات الحادّة على المستويين الاجتماعي والاقتصادي في مملكة بدا كما لو أنها موشكة على الأفول. تستمر هيلاري مانتل في اللعبة التاريخية ذاتها في “هات الرفاق” متعقبة المصير ذاته لشخصيتها الرئيسية كرومويل، الذي ليس بشخصية تاريخية على الأرجح أو أنه قد يكون كذلك حقيقة لكن دون الدور التاريخي الذي منحته إياه مانتل في روايتها الثانية. وإذا كانت “قصر الذئب” قد شهدت خروج شخصيات رئيسية وثانوية من المشهد الروائي بإماتتها غالبا، فإن "هات الرفاق” قد دخلت إلى متنها شخصيات أخرى رئيسية وثانوية لكنها ظلّت محصورة في دورها المنوط بها والذي يتمثل في إذكاء النار تحت الأحداث التي تصعّد من الأبعاد الدرامية لمصائر شخصيات تقترب من مصيرها المحتوم على نحو لا يبتعد كثيرا عن مصائر الشخصيات في الدراما الشكبيرية. وبحسب أحد النقاد فإن تقنية الكتابة الروائية لدى هيلاري مانتل تسمح لها أن تتلاعب بخفة في مصائر شخصياتها، إذ تترك لمخيلتها أن “تلعب” مع التاريخ الرسمي الانجليزي وتعيد تدويره وإنتاجه بذكاء وبحيث يبقى ما هو تاريخي في الرواية مثلما هو عليه إنما تجعله المخيلة الروائية هنا أكثر درامية وتراجيدية. والفارق بينهما، أي بين الروايتين، أن حضور الذات الراوئية ـ أي هيلاري مانتل نفسها ـ أكثر نصوعا حيث من الممكن العثور على جوانب شخصية في ماضيها وذكرياتها وقد تناثرت هنا وهناك، وتحديدا عند حديثها عن الشخصيات النسائية. أيضا رأى البعض من مراجعي الكتب أن مهارة هيلاري مانتل في الوصف والسرد هي في الرواية الثانية أكثر تألقا وإتقانا منهما في “قصر الذئب” إذ بدت منحازة للاختصار والتكثيف وأميل للإشارات المختزلة والإيماءات الموحية التي يتضمنها السرد وبما يكشف للقارئ الأبعاد الجوّانية لهذه الشخصية أو تلك عبر الاستفادة من أكثر من فن وتحديدا السينما، وليس الإرث السردي وطرائقه وأساليبه ومدارسه التي تعرفها هيلاري مانتل جيدا بوصفها ناقدة وكاتبة مقالة وتمارس كتابة مراجعات الكتب في حقل الرواية، رغم أنها في اختصاصها الأكاديمي قد درست علم الاجتماع. من الملاحظ إجمالا أن هيلاري مانتل لا تتخذ موقفا إيديولوجيا معلنا من التاريخ الذي تتعامل معه بالمعنى الروائي التخييلي ولا حتى بالمعنى السياسي المحض، بل إنه لم يمكن العثور عليه من مواقفها السياسية التي يمكن أن تحيلها إلى الجانب الليبرالي أو الجانب المحافظ تجاه ما يجري راهنا في بلادها أو في العالم، كسواها من المثقفين الانجليز الذين حازوا على جوائز مرموقة مثل هارولد بنتر مثلا لا حصرا. هيلاري مانتل، كما في أعمال سابقة، تتأرجح في صنيعها الروائي بين الذاكرة الشخصية والماضي الشخصي من جهة، ثم السرديات التاريخية الكبرى والمؤثرة من الجهة الأخرى، لكنّ المزج بينهما يتم بدهاء بالفعل. وربما يكون مفيدا هنا أن نذكر أن هيلاري مانتل، ذات الأصول الإيرلندية، قد عاشت حياة كاثوليكية صارمة في طفولتها حيث كانت البكر بين ثلاث أخوات، وانفصل أبوها، الذي لم تره منذ بلغت الحادية عشرة، عن أمها وتركها فقيرة مع بناتها اللواتي تفرقن في ما بعد على العديد من الأديرة، حيث يرجح البعض أن شخصية “كرومويل” كما هي في الرواية قد جاءت متأثرة بذكريات هيلاري مانتل البعيدة وبماضيها الشخصي. وخلال السبعينات والثمانينات كانت عرضة لآلام نفسية وغير نفسية اضطرت للتخفيف من بعضها بإجراء عملية جراحية في الثمانينات، بل إنها مكثت في المستشفى العام بعد فوز “قصر الذئب” بجائزة (المان بوكر) وكتبت بعض المذكرات التي نُشرت في لندن ريفيو أوف بوكس تحت العنوان: “لقاء الشيطان، أو تلبية نداء الشيطان”. وفي سياق ذي صلة بكتابة هيلاري مانتل الروائية وحضور الذكريات والماضي الشخصي في صنيعها الروائي، وبقدر من الاستطراد، فقد تزوجت هذه الروائية من جيرالد ماكوين وعاشت فترة من الزمن بصحبته في بوتسوانا، ثم في مدينة جدّة حيث كان زوجها جيولوجيا، أي خبيرا في حقل التنقيب عن آبار البترول. أقامت مانتل هناك لأربع سنوات، وأنجزت كتابها الذي ينتمي إلى جنس المذكرات: “شخص ما مزعج” ونشرته في “لندن ريفيو اوف بوكس” أيضا، غير أنها استعادت تلك التجربة في روايتها “ثمانية أشهر في شارع غزة”. في هذه الرواية تعتمد هيلاري مانتل على ذكرياتها الشخصية وخبراتها المباشرة التي تراكمت عبر السنوات الأربعة تلك لتتحدث عن ذلك “التصادم” في القيم بين الثقافة الاسلامية من جهة والغرب الليبرالي من جهة أخرى، والتي تقوم باستكشافها عبر العلاقة الغامضة التي تربط بين عائلتين متجاورتين إحداهما أجنبية غربية والأخرى محلية عربية تعيشان في شقتين متقابلتين. عقب فوزها قالت هيلاري مانتل بالبوكر قالت إنها انتظرت حوالي عشرين عاماً لتحصل على هذه الجائزة، وها هي تحصل على اثنتين وإنها تشعر بسعادة غامرة تكاد تفقدها توازنها. أما فكرة كتابة ثلاثية عن توماس كرومويل فقد خطرت لها حينما كانت في العشرينيات من عمرها ولكنها لم تكن في وضع يسمح لها بالكتابة لأكثر من ثلاثة عقود. وردا على سؤال عن ما الذي سوف تفعله بالمال الذي فازت بِه بالجائزة (خمسين ألف جنيه إسترليني أي ما يعادل واحدا وثمانين ألف دولار) ردت ساخرة بأنها سوف تنفقه على المخدرات، وموسيقى الروك آند رول. ولكن جدياً قالت بأنها سوف تنفقه على تكاليف معيشتها. وقد ولدت هيلاري مانتل في البلدة جلوسوب الكائنة بمنطقة ميدلاند الشرقية (الإقليم الجنوبي الشرقي) بإنجلترا في 6 يوليو عام 1952. والتحقت بكلية لندن الاقتصادية ثم نُقِلَت إلى جامعة شيفيلد والتي تصنف ضمن أفضل 100 جامعة بالعالم وأفضل 20 جامعة بالمملكة المتحدة وحصلت على بكالوريوس في الفقه عام 1973. بعد التخرج، عملت مانتل بقسم العمل الاجتماعي بمستشفى للمسنين ثم كمساعدة مبيعات بمتجر كبير، وفي عام 1974 بدأت في كتابة رواية عن الثورة الفرنسية والتي نُشِرَت لاحقاً بسم “مكان أكثر أمنا”. وفي عام 1977 انتقلت مانتل مع زوجها إلى بوتسوانا، وهي بلد يقع جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا الجنوبية. وهي محمية بريطانية سابقة تعرف باسم بيتشوانا لاند واعتمدت بتسوانا اسمها الجديد بعد أن تم استقلالها ضمن دول الكومنولث يوم 30 سبتمبر 1966. وخلال العشرينات من عمرها عانت مانتل من مرض شديد الألم، تم تشخصيه في البداية على أنه مرض نفسي، وأخذت أدوية مضادة للذهان، والمفارقة أن هذه الأدوية أنتجت أعراض ذهان وهوس ولهذا رفضت مانتل استشارة الأطباء لعدة سنوات، ولكن في زيارتها لبوتسوانا قرأت كتاباً عن الوصفات الطبية وأدركت أنها تعاني من التهاب حاد ببطانة الرَحِم، وقد أكد التشخيص بعض الأطباء في لندن. وتسببت العملية الجراحية لها بجعلها غير قادرة على الإنجاب.