عدنان حسين أحمد
لا بدّ أن يتبادر إلى ذهن المتلقّي سؤال بدهي مفاده: ما هي طبيعة الشخص الذي جازفَ بأنّ يخبئ شخصًا مثل صدام حسين يطارده نحو 150 ألف جندي أمريكي منذ احتلال العراق في 9 أبريل/ نيسان 2003م حتى لحظة أسْره في 13 كانون الأول/ ديسمبر من العام ذاته؟ فالفيلم الوثائقي الاستقصائي المعنون "إخفاء صدّام حسين" للمخرج العراقي الكوردي هلكوت مصطفى المقيم في هولندا حاليًا هو فيلم عن علاء نامق الدوري وليس عن صدام حسين الذي عرفناه طوال 35 عامًا، وهي سنوات حكمة التي امتدت منذ عام 1968 وحتى سقوط نظام البعث عام 2003. وعلى الرغم من صرامة المخرج في أن يكون البطل في هذا الفيلم هو الفلّاح البسيط علاء نامق إلّا أنّ صدام كان يزاحمه على دور البطولة ويشاركه فيها سواء رضي علاء أو لم يرضَ غير أنّ هذه المشاركة كانت حيادية، فالمخرج لم يقدّم صدام حسين كبطل أو كضحية وإنما كإنسان عادي اضطر لمغادرة حياته الرغيدة المرفّهة في القصور الرئاسية الفخمة ثم وجد نفسه، بين ليلة وضحاها، في بيت ريفي لا يتوفر على أبسط الخدمات الصحية وكان عليه أن يتحمّل هذه التغييرات الجذرية التي حدثت في حياته على حين غرّة. لم يتورط المخرج بالسياسة لأنها ليست شأنه الخاص في هذا الفيلم الاستقصائي الذي يرصد 235 يومًا أمضاها صدام حسين حينما قرّر الاختباء والتواري عن أنظار الجميع باستثناءآت محدودة تقتصر على أشخاص مقرّبين له لا يتجاوزون عدد أصابع اليدين أبرزهم محمد إبراهيم عمر المسلط، وهو عقيد في جهاز الأمن الخاص، وثلاثة من أفراد حماية الرئيس المخلوع، وشقيق علاء، إضافة إلى نجليّ الرئيس اللذين زاراه مرة واحدة قبل أن يلقيا حتفيهما على أيدي القوات الأمريكية التي دهمت المنزل الذي يُقيمان فيه بمدينة الموصل. لقد دفع علاء المواطن الريفي البسيط ثمن وفائه وولائه والتزامه بالقيم العشائرية الأصيلة التي يُدافع أصحابها عن من يستجيرون بهم حتى وإن كلفتهم تلك الإجارة ثمنًا باهظًا مثل التضحية بالأرواح وتقديم الغالي والنفيس من أجل حماية المستجير العابر فكيف إذا كان هذا المستجير هو صدام حسين، الذي ملأ الدنيا وشغلَ الناس، شئنا أم أبَينا؟
فن الاختفاء في البراري
يُعد علاء نامق أنموذجًا للإنسان الريفي الذي يعتاش على الزراعة والصيد وتربية المواشي. وحينما يخرج للصيد كان والده يعلّمه دائمًا على كيفية الاختفاء في البراري وإيهام الطيور والحيونات البريّة بعدم وجوده الأمر الذي يسرّع في عملية صيدها. ثمة أسباب عديدة دفعت صدّام حسين لاختيار أسرة "النامق" كملجأ وملاذ يحتمي به من القوات الأمريكية التي كانت تبحث عنه في العوجة وتكريت والدور وما جاورها من قرىً ومناطق ريفية. ولعل أغرب هذه الأسباب أنّ صدام حسين قد رأى في المنام شخصًا ما أخبره بضرورة التوجه إلى أسرة "النامق" وقد سمع من قيس النامق أنّ شقيقه علاء صياد ماهر ويُحسن الاختباء، ويعرف طبيعة مدينة "الدور" جيدًا والمناطق المحيطة بها. أمّا السبب الآخر فإن علاء هو فلّاح عراقي يؤمن بمنظومة القيم العشائرية وأعرافها الاجتماعية التي ترفض تسليم اللاجئ إليها والمُستجير بها. تكشف واحدة من الثيمات الفرعية لهذا الفيلم أن صدام حسين يؤمن بالخرافات والأساطير أو الخزعبلات، إن صحّ التعبير، فهي جملة من الأباطيل والاعتقادات الواهية التي يجب أن يترفع عنها شخص يتسنّم منصب الرجل الأول في الدولة. ليس من المستغرب أن يقلق علاء، ويشعر بالخوف، ويضرب أخماسًا بأسداس لأنه بدأ يفكر منذ اللحظة الأولى التي التقى فيها بـ "السيد الرئيس" كما يسمّيه على مدار الفيلم وأخذ يتلاعب بمصيره ومصير عائلته المكونة من ثلاثة أطفال ورابع في الطريق وزوجة لا تسمح لها الأعراف بالسؤال عن اسم الضيف ومدة بقائه أو وقت رحيله. أنّ وجود صدام حسين بأية وضعية هي حالة درامية متشابكة لا تحتاج إلى توتر أو تصعيد وأن المُجير سيتحول من تلقاء نفسه إلى شخصية درامية مستديرة ومعقّدة. يجب الأخذ بنظر الاعتبار أن علاء النامق هو شخص لمّاح وذكي ويمتلك رباطة جأش واضحة سواء في قبوله لفكرة إجارة هذا الضيف الكبير أو في أثناء تنقّله بمدينة الدور التي يتواجد فيها الجنود الأمريكيون في الشوارع، ونقاط التفتيش، وبعض المناطق الحسّاسة. لقد استغرب علاء حينما مدّ الفراش لصدام حسين الذي نام سريعًا وكأنّ شيئًا لم يكن، فالبلد مُحتل والجنود الأمريكيون يبحثون عنه في كل مكان بينما يغرق هو في نوم عميق. يا تُرى، هل هذه هي حقيقته الدامغة أم أن النوم سلطان وقد هدّه التعب إلى أقصى حد بحيث فاجأ علاء الذي أصبح الآن، كما يدّعي، سائقه، وحارسه الشخصي، وطبّاخه، وسوف يصبح صديقه تدريجيًا، ويأمل بعودته إلى السلطة ليكون ذراعه الأيمن، كما يُخبرنا مُخرج الفيلم. يشكو علاء دائمًا بأنه لا يعرف ما الذي يدور بداخل صدام حسين، وكيف يفكر هذا الرجل، كما أنّ التقاليد العربية لا تسمح بسؤال الضيف فهم يتركون له حرية الكلام أو الصمت أو العزلة، فلقد كان صدام حسين، المُجرد من رتبته التي منحها لنفسه ونياشينه الكثيرة التي اصطفت على الجانب الأيسر من صدره، معزولًا ومتوحدًا إلى حدٍ كبير بعد أن نفض يده من الجميع إلّا باستثناءات محدودة جدًا تقتصر على حرسه الخاص وأسرة النامق التي وضع ثقته فيها ولعلها كانت خياره الأخير.
الرئيس المتمارض أو الأصمّ الأبكم
كلّما تنتشر القوات الأمريكية بمدينة الدور وتحلّق المروحيات في سمائها يلملم صدام حسين أغراضه البسيطة التي اصطحبها معه ويسلّم قِياده إلى علاء الذي يطلب منه أن يضع نظارته السوداء ويتلثّم باليشماغ ويدّعي المرض، ولعله يذهب أبعد من ذلك حين يؤدي دور الأصمّ الأبكم الذي لا ينبس ببنت شفة. لا يجد صدام حسين حرجًا في البوح لمُضيّفه بأنه قنبلة موقوتة وإذا انفجرت فإنها ستقتله وتقتل العائلة برمتها فيأتيه الردّ كعادة القرويين دائمًا:"ليحدث ما يحدث طالما أنك اخترتنا لحمايتك وأننا مستعدون للتضحية بالغالي والنفيس من أجل حمايتك". لم تكن أنشطة الأمريكان وأخبار عمليات الدهم التي يقومون بها بعيدة عن المُجير والمُستجير خاصة وأنّ الأمريكان بدأوا يبحثون عن أقرباء صدام ويطاردونهم في تلك المضارب علّهم يجدون الخيط الذي يفضي بهم إلى القائد المخلوع. تشير غالبية تصرفات علاء نامق، إن لم أقل كلّها، بأنه يحب صدام حسين، ويحترمه، ويحاول جهد الإمكان أن يحافظ على خصوصياته في اللجوء إلى العزلة، والتفكير العميق، والانقطاع إلى كتابة بعض التعليمات والأوامر التي يقدّمها للمقاومة العراقية ضد التحالف الذي تقوده أمريكا حتى أنه أقدمَ ذات مرة على حمل الرئيس على ظهره لكي لا يدعهُ يخوض في الأرض الطينية الموحلة التي تغطّيها طبقة ضئيلة من المياه. وعند العودة من الجزيرة التي اِخْتَبَآ فيها لبعض الوقت وحينما انسحبت القوات الأمريكية رفع صدام حسين بندقيته ليوجِّهها إلى جنود الاحتلال منعه علاء وأنزلَ فوّهة بندقيته إلى الأسفل بفعل غريزي لم يفكر به طويلًا لكنه لامَ نفسه على هذا التصرّف مع "السيد الرئيس" وكأنّ الرئاسة لم تغب عنه لحظة واحدة. من مخايل ذكاء الفلّاح والصيّاد علاء نامق أنه كان يحلل شخصية الرئيس ويستغورها ويقول بما معناه أن صدام حسين حينما يحدّق في عينيّ الشخص الواقف أمامه للحظات كان يعرف ماذا يدور في داخله. أي أنّ حدْسه لا يخذله أبدًا. يعترف علاء بأنه لم يجرؤ على مناقشة صدام حسين أو معارضته على أي قرار يتخذه لأنه، ببساطة شديدة، يخاف منه، ويخشى من ردود أفعاله الآنية المفاجئة. الغريب في الأمر أنّ علاء نامق لم يعرف إن كان صدام حسين دكتاتورًا أو أنه أمرَ بضرب الكورد بالأسلحة الكيمياوية، أو اضطهد الشيعة بحجة أنّ هناك قناة تلفازية واحدة تبثُّ لهم أخبار البلد. وكل الذي يعرفونه هؤلاء الناس البسطاء أن صدام حسين شخص "جيد جدًا"، ويعيش في القصور الرئاسية حياة مرفهة، وتحيطه الحمايات من كل حدب وصوب. غير أنّ هذه الحياة الباذخة أصبحت جزءًا من الماضي، وأنه يعيش الآن مع فلّاح بسيط في مزرعة صغيرة بينما يبحث عنه ليل نهار المئات من الجنود الأمريكيين. لقد شعر صدام حسين بصعوبة الحياة في هذا الملاذ المتواضع كما اعتقد أن الأمريكان يمكن أن يصلوا إليه في أية لحظة فلاغرابة أن يشعر علاء بالخوف والقلق على نفسه وعائلته وأشقائه، كما أنه لم يطمئن إلى أقربائه الذين يشتركون معه في الزراعة والري وجني المحاصيل، وهم بالنتيجة لا بد أن يعرفوا منْ هو هذا الضيف الذي يختبئ في مزرعة قيس النامق؟ وتحسبًا لدهم الأمريكان للمزرعة اقترح علاء أن يحفر خندقًا على شكل حرف T ويشيّده من الطابوق والخشب. أمّا فوّهة الخندق فقد غطّاها بفلّينة زرع فيها شتلة ورد لا تختلف عن بقية الشتلات الموجودة في المزرعة. كما شيّد له غرفه خاصة فشعر "الرئيس" ببعض الراحة وطلب من علاء أن يُحضر له محمد ابراهيم عمر المسلط وهو من أقرباء الرئيس وضابط في الحماية الخاصة، كما كان يدير العديد من الدوائر والتشكيلات الحساسة مثل المخابرات والاستخبارات والحرس الخاص ويموّل المقاومة ضد القوات الأمريكية، ولعل مشكلة العقيد محمد ابراهيم هي ظهوره إلى جانب الرئيس في آخر زيارة له في الأعظمية الأمر الذي يجعله هدفًا مُهمًا للقوات الأمريكية التي كثّفت فعّالياتها في الشهر السابع وحوّلت حياة المقاومين لها إلى جحيم لا يُطاق.
مكافأة مغرية ووشاه متربّصون
تغيّرت قناعات علاء حينما خصص بول بريمر مكافأة قدرها 25 مليون دولار أمريكي لمن يُدلي بمعلومات تؤدي إلى القبص على صدام حسين، ومكافأة أخرى قدرها 15 مليون دولار لمن يدلي بمعلومات تفضي إلى القبض على أيٍ من ولديه. فإذا كان علاء يخشى في السابق من القوات الأمريكية فإنه الآن يخاف من العراقيين جميعًا! وأكثر من ذلك فإنه بدأ يشكّ بأقرب الناس إليه ويتوخى الحيطة والحذر من الجميع على الرغم من قناعته التامة بأن الغالبية العظمى ملتزمة بالعادات والتقاليد العشائرية التي تُكرم الضيف، وتوفر له الحماية، وتفديه بالأرواح في أوقات الشدائد والملمّات. وأنّ الخيانة والغدر لم تخطران على باله أو المقرّبين منه أبدًا. لقد حسم علاء أمره منذ البداية فإذا خيّروه بين صدام والأمريكان فإنه سيقف حتمًا مع صدام حسين وينفِّذ قراراته بمقارعة المحتل الأمريكي. ذات مرة أخبره شقيقه قيس بأنّ القوات الأمريكية تتقدم بإتجاه المزارع فطلب من الرئيس أن يدخل إلى الملجأ لأنهم سيدهمون المزرعة وبعد إجراءات التفتيش غادروا المكان من دون أن يلفت نظرهم أي شيء غريب.
ثمة أحداث ومناسبات مهمة في هذا الفيلم من بينها زيارة ولديه عدي وقصي اللذين جلبهما العقيد محمد ابراهيم حيث أقام لهما الوالد وليمة دسمة خاصة وأنه لم يرهما منذ دخول القوات الأمريكية إلى بغداد وانفراط عقد السلطة تمامًا، وقد كشف هذا اللقاء عن لحظة إنسانية لم يرها العراقيون إلّا في حالات نادرة وهي بكاء صدام حسين أو ولديه اللذين تربّيا على القسوة والعنف والوحشية المفرطة. ويعود الرئيس إلى حدْسه الذي ينبئه بأنّ هذه هي المرة الأخيرة التي يرى فيها ولديه وقد صدقت نبوءته فبينما كان علاء يزور أحد أصدقائه يوم 22 / 7 / 2003 قرأ في المانشيت العاجل على شاشة التلفاز بأنّ عدي وقصي قد قُتلا في عملية دهم أمريكية وقد أظهر التلفار صورتيهما اللتين تدلان عليهما بوضوح كبير لا يرتقي إليه الشك مطلقًا. حينما عاد الرئيس إلى المزرعة بعد خمسة أيام أمضاها عند محمد ابراهيم عزّاه علاء بمصابه الجلل فبكى صدام وحمد الله لأنهما نالا الشهادة وهما يقاومان القوات الأمريكية. وبدأ الرئيس يسجّل خطابات المقاومة ويسرّبها إلى أبرز القنوات العربية الأمر الذي دفع القوات الأمريكية لأن تكثّف من عمليات البحث والتفتيش فاقترح علاء على الرئيس أن يتركا المنطقة كما ورد في الفيلم. وفي أثناء هذه اللقاءات تعززت علاقتهما الشخصية حتى صار بإمكان علاء أن يقول بأنهما قد أصبحا الآن صديقين ولا يجد حرجًا في أن يطرح عليه بعض الأسئلة المهمة من قبيل: لماذا حتلت القواتُ الأمريكية العراقَ؟ ولماذا دمّروا البلد؟ فيختصر الرئيس هذه الكارثة بأنهم كانوا طامعين في هذا البلد، وأدّعوا بأنّ العراق يمتلك أسلحة دمار شامل وما إلى ذلك من أعذار.
وبما أن مدة إقامة الرئيس قد طالت فكان على علاء أن يذهب إلى إحدى مستشفيات بغداد ويتعلّم زرق الإبر، وقياس ضغط الدم، والإسعافات الأولية لكي يتدارك الرئيس إذا مرِض. وذات مرة جلب له علاء الجريدة فلاحظ صورته مذيّلة بالمكافأة المجزية فأخذ يلاطف علاء نامق ويسأله إن كان يبيع الرئيس بهذا المبلغ الكبير أم لا؟ فما كان من علاء إلّا أن يرد الملاطفة الماكرة بأقوى منها حينما قال بأنه ينتظر أن يرتفع سعر المكافأة حتى يبيعه للقوات الأمريكية!
تكررت لقاء الرئيس بمحمد ابراهيم الذي يتواصل مع قيادات المقاومة الأمر الذي دفع القوات الأمريكية للقيام بالمزيد من عمليات الدهم والتفتيش التي أسفرت عن القبض على شقيق محمد ابراهيم الذي تعرّض للضرب والتعذيب لكي يعترف على مكان تواجد صدام حسين الذي لم يكن يعرفه حقًا. ونظرًا لتداعيات هذا الحادث اقترح علاء على الرئيس أن يمنع محمد ابراهيم من المجيء لأنهم سيتعرفون عليه من ظهوره الأخير إلى جانب الرئيس في زيارة الأعظمية.
مفاوضات العودة المشروطة
تتطور الأحداث تباعًا فيأتي محمد ابراهيم برسالة إلى الرئيس وتحوّل اللقاء إلى ما يشبه المشاجرة وتبيّن أنّ الرسالة موجهة من القوات الأمريكية فطلب من علاء أن يتوجه إلى ضفة نهر دجلة، وهناك قرأ الرسالة ثم حرقها ورماها في النهر، ومضمونها أنّ الأمريكيين يريدون مفاوضته ويعيدونه إلى رأس السلطة ما إن يوافق على مضمون الرسالة والاشتراطات الموجودة فيها، لكنه رفض أن يسلّم العراق للأمريكيين، كما يدّعي، وأنه مستعد للتضحية بنفسه من أجل بلده وشعبه.
بدأ الرئيس بالانتكاس "كما يذهب الفيلم" بعد هذه الرسالة وأصبح عصبي المزاج متوحدًا في غرفته لا يهتم بمظهره الخارجي، كما أخذ يُطيل لحيته حتى وصل به الأمر إلى البحث عن مكان بديل. وفي بداية كانون الأول / ديسمبر من عام 2003 شاهد علاء طائرات مروحية في الجو فذهب إلى عائلته لأن أبنه كان مريضًا وحينما عاد إلى المزرعة وجد الرئيس منفعلًا ويصرخ بصوتٍ عال لم يعهده من قبل. وحين جاء شقيقه قيس وأخبرهما بأنّ المنطقة مطوّقة بالهمرات فطلب من الرئيس أن يدخل إلى الملجأ فقبضوا على علاء وبدأوا يضربونه ويسألونه عن المكان الذي يتواجد فيه صدام حسين لكنه أنكر معرفته بذلك وقال بأنّ شقيق محمد ابراهيم قد جاء صباحًا وأخذه إلى مكان ما في سامراء.
لم يدم البحث عن صدام طويلًا ولم تنفع التمويهات التي أجراها علاء على فتحة المدخل فما إن رفع أحدهم فلّينة الزهور حتى انكشفت الفتحة الشهيرة التي عرضتها شاشات التلفزة مئات المرات ونادى عليه المترجم باللغة العربية فأجابهم مباشرة بأنه صدام حسين لكنهم شرعوا يضربونه بالقنابل الغازية الخانقة وسارعوا بإخراجه من الخندق لتنطوي صفحته إلى الأبد حيث أعلن بريمر أنّ القوات الأمريكية قد قبضت عليه وأظهر التلفاز صورة بشعة له لا يكاد يصدّق الناظر إليها بأنّ هذا الأسير هو صدام حسين نفسه الذي أرّق العالم لفترة غير قصيرة من الزمن.
لم تنتهِ قصة علاء عند هذا الحدّ فقد أودعته القوات الأمريكية في محاجر سجن أبي غريب حيث تعرّض هو وبعض السجناء الآخرين إلى السخرية، والإهانة، والحطّ من الكرامة الإنسانية؛ إذ كانوا يعاملونهم معاملة سيئة، ويجرّدونهم من ملابسهم كلّها. وحينما انفضحت سلوكية السجّانين الأمريكيين أعادوا التحقيق مع علاء واكتشفوا أنه مجرد فلّاح بسيط فقرّروا إخلاء سبيله بعد سبعة أشهر مريرة من السجن والترويع والإهانة.
يختم علاء شهادته التاريخية بأن هذا الحدث قد أصبح جزءًا من الماضي وتمنّى على الجميع أن يستفيدوا من هذه التجربة. أمّا علاء نفسه الذي عاش مع الرئيس نحو 235 يومًا "كما يذهب الفيلم أيضًا" وعرفه من كثب، وإن لم يتدخل في القرارات المصيرية فهو يراه بعقلية الإنسان البسيط الذي يعيش في قرية متواضعة كانت شبه مقطوعة عن العالم الخارجي، وأنه دفع ثمن استضافته للرئيس بسبب عاداته وقيمة العشائرية التي ترفض تسليم "الدخِيل" الذي يستجير بها. لم يحسم المخرج أمره ليخبرنا بالشخص الذي وشى بالرئيس العراقي السابق لكن أنظار المُشاهد الحصيف تتجه إلى محمد ابراهيم عمر المسلط الذي سبق وإن اختلف معه قبل بضعة أيام وارتفع صوت الرئيس بطريقة غريبة لم يألفها علاء خلال الأشهر الثمانية من وجوده في المزرعة، فإما أن يكون محمد ابراهيم قد باعه للقوات الأمريكية بثمن المكافأة المغرية أو اعترف عليه نتيجة التعذيب الذي تعرّض له على أيدي القوات الأمريكية الخاصة التي نفذّت عملية الدهم واسعة النظاق وأفضت إلى سجنه الانفرادي ثم إعدامه شنقًا حتى الموت في صبيحة 30 كانون الأول / ديسمبر 2006.
الخشية من الظهور الإعلامي
لم يعتمد المخرج في هذا الفيلم إلّا على شخصية علاء النامق التي يشكّك بها كثيرون، فلم يكن هو البطل الحقيقي في قصة "إخفاء صدام حسين" وإنما كان عنصرًا من عناصرها المتعددة. ويستطيع القارئ الكريم أن يعود إلى قناة "الوثائق والحقائق" التي يديرها المحامي سليمان الجبوري الذي التقى بغالبية الشخصيات من ذوي العلاقة بإخفاء صدام حسين طوال 235 يومًا وتوصل من خلال عشرات اللقاءآت إلى روايتين مهمتين فيما يتعلق بمن وشى بصدام حسين ودلّ القوات الأمريكية على مكان مخبئه؛ الأولى: أنّ الأمريكان يعترفون بأنّ الواشي هو العقيد محمد ابراهيم عمر المسلط؛ والثانية: هي رسالة من الرئيس المخلوع صدام حسين سلّمها إلى محاميه الشخصي يتهم فيها قيس النامق وأخوته واللواء حكمت عمر الدوري إضافة إلى الشكوك الموجهة إلى العقيد عبدالمالك شهاب ملا خليل الذي كان يراقب مزرعة النامق وقد أرسل له صدام مبلغ أربعة ملايين دولار بهدف إسكاته ومنعه من التبليغ. يعترف قيس النامق في لقاءٍ له مع المحامي سليمان الجبوري بأن شقيقه علاء التقى بصدام حسين في نهاية الشهر الخامس عندما جاء لكي يحلق له شعر رأسه الذي طال كثيرًا ثم تطورت علاقته بالرئيس لكنه لم يكن سائقه، وطباخه، وحارسه الشخصي، وصديقه لاحقًا، فصدام ظل يحتفظ بثلاثة من مرافقيه وأفراد حمايته، أمّا علاء النامق فهو شخصية ثانوية جدًا وقد استغل مرض شقيقه قيس وخطف منه بعض المهمات المنسوبة إليه. وقد دعاه المحامي سليمان الجبوري للإدلاء بشهادته لكنه لم يحضر بحجة أنّ الشركة النرويجية التي أنتجت الفيلم منعته من الظهور الإعلامي وسوف يتعرّض إلى المساءلة القانونية إذا ظهر في إحدى الوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة والمكتوبة.