وصلت إلى القائمة الطويلة ومرشحة للفوز بجائزة الشيح زايد لأدب الطفل والناشئة
21-تشرين الثاني-2023

عدنان حسين أحمد
تُعد رواية "فتى البرج العجيب والكواكب السبعة" انعطافة مهمة في حياة القاص والروائي شاكر نوري الذي أصدر حتى الآن مجموعة قصصية واحدة وإحدى عشرة رواية، إضافة إلى عدد من الترجمات والكتب الفكرية والحوارية. غير أنّ هذا التحوّل المفاجئ لم ينبع من فراغ وإنما دفعته حاجة فئة عمرية محددة قد تمتد من مرحلة الطفولة المتأخرة إلى سن الرُشد المكرّسة "للصبايا والفتيان" وهذا التكريس لا يقف حائلاً أمام قراءتها من قِبل الأطفال أو الناضجين أو الطاعنين في السن الذين يجدون ضالتهم المنشودة في قراءة هذا النمط من السرد الروائي الذي يجنح إلى شطحات الخيال كثيرًا ولا يُدير ظهره إلى الواقع كليًا. وهذه الرواية تزاوج بين الواقع والخيال حيث تتماهى الحقائق المؤسية مع الأحلام الجميلة المتشظية التي تشحذ ذهنية المتلقي وتحضّه على التفكير والعمل والابتكار، كما تحفِّزهُ على إثارة كم كبير من الأسئلة التي تجعله في حراك دائم يتفادى الوقوع في مثلث الكسل والسكينة والاسترخاء.
تتألف رواية "فتى البرج العجيب" الصادرة عن دار "المؤلف" في بيروت من 11 فصلاً زيّنها الكاتب برسوماته الشخصية ذات العلاقة المباشرة بثيمة الرواية الرئيسة وموضوعاتها الأخرى المتشعبة التي غطّت البرجين والعلامات الفارقة في الكواكب أو الأحياء السبعة التي يزورها الراوي العليم والمشارك الأبرز في صنع الأحداث الواقعية والحُلُمية على حدٍ سواء.
النَفَس التعليمي والوعظي
لا تخلو رواية الفتيان من النَفَس التعليمي والوعظي والإرشادي إن لم يكن هدفها الأول مع التركيز على عنصري الإفادة والمتعة إضافة إلى وخز المخيّلة واستفزازها وتثويرها. وقد نجح شاكر نوري في تقديم رواية محبوكة هادفة تشجِّع الفتيان العراقيين والعرب على وجه التحديد للإفادة من موروثهم العلمي الذي اجترحوه في ماضيهم التليد الذي لا يزال بعض شواخصه ظاهرة للعيان ويحثّهم على استعمال الحكمة أو وخزها وتثويرها في عقلهم الباطن وذاكرتهم الجمعية الحافلة بالابتكارات والإنجازات العظيمة التي تألقت على مدى خمسة عقود أو يزيد عندما كانت بغداد حاضرة الدنيا ومنارة العلم والحداثة والتنوير.
خلطة سحرية وأحلام مجنّحة
تتمحور أحداث الرواية على شخصية "أفنان" الرئيسة التي يلعب فيها دور السارد العليم والمشارك في صنع الأحداث، وثمة شخصيات ثانوية غالبيتها إيجابية مثل والديّ أفنان، والملك، ومؤرخ المملكة، وبائع الأعشاب والعقاقير، والمرشد السياحي، ودانا، الفتاة القادمة من الصحراء، والطفلين اللذين تشرف على تربيتهما،وحارس المُتحف، والصائغ الحكيم وغيرها من الشخصيات التي تظهر وتختفي بسرعة مثل الحوذي، والنَسر، وخطاف رَفاي وما إلى ذلك. كما يحيلنا الروائي إلى 11 شخصية أخرى يستدعيها من التاريخ القديم والحديث بينهم ملوك وشعراء وعلماء وأطباء وفلكيون ورسامون وموسيقيون يسجلون حضورهم بقوة في المتن السردي الذي خلقه الروائي الذي أجهد نفسه في البحث في بطون الكتب ليقدّم لنا هذه الخلطة السحرية من الحقائق الدامغة، والأحلام المجنّحة، والتمنيات الكبيرة سواء أكانت ممكنة التحقيق أم بعيدة المنال.
يمكن اختصار مادة الفصل الأول من الرواية بأنّ مُعلِّم الإنشاء قد طلب من تلاميذه أن يكتبوا صفحتين أو ثلاث صفحات عن "برج بابل" يبيّنون فيه مَنْ الذي بناه، وفي أي سنة شُيّد، وما هو ارتفاعه، ولماذا غضبت الآلهة من هؤلاء البابليين الأوائل الذين حلموا بالوصول إلى السماء الشاهقة؟ وقد اعتبر المعلّم هذا الموضوع امتحانًا لدرس الإنشاء. جدير ذكره بأنّ أفنان يحب درس الإنشاء ويعتبره مُتنفسًا يُريحه من صعوبة من دروس الكيمياء والفيزياء والرياضيات ومشقة المواد العلمية برمتها. لم تتحمل الآلهة بناء برج التحدي فضربتهم، وبلبلت ألسنتهم، وفرّقتهم في شعاب الأرض أيدي سبأ، وباتوا يتكلمون بلغات مختلفة بعد أن كان يجمعهم لسان واحد. وحينما وضع البنّاؤون اللمسات الأخيرة على "برج بابل" أودعَ الصنّاع والمَهرَة والخبراء خلاصة اختراعاتهم وابتكاراتهم في سردّابه السرّي تحت البرج على أمل الإفادة منها في قادم السنوات. يقدّم السارد العليم وصفًا دقيقًا ومُغريًا لطبقات البرج والناس الذين عاشوا هناك وتكيّفوا على الحياة التي لم يألفوها على وجه البسيطة فأُعجب المعلم بما سطّرته مخيلة أفنان المتأججة لكن المشكلة التي وقع فيها هذا الطالب الحالم أنه لم يجب على أسئلة الامتحان لأنه لم يذكر طول البرح، وأسماء بُناتِه، وعدد طبقاته وما إلى ذلك من معلومات يقينية محسوسة وإنما أطلق العنان لخياله الجامح ودوّن كل ما أوحت به قريحته المتوقدة إلى ما وراء الحدود المرئية أو المتخيلة لعامة الناس العاديين المتشبثين بأطراف الواقع القار الذي يمكن رؤيته بالعين المجردة. وحينما اعترض المعلمون جميعًا قرروا أن يرسلوا ورقة أفنان إلى وزارة التربية لتمنحه الدرجة المناسبة لإجابته على سؤال المعلّم في درس الإنشاء.

السكن في قلب الحبيبة
لا يخلو هذا الفصل الاستهلالي من مفارقة أخرى مماثلة حينما سأل المعلّم طلابه في امتحان سابق:"أينَ يقع بيت الشاعر ابن خلدون؟" فكتب أحدهم:"في قلب حبيبته ولاّدة"! وحينما رُفعت الإجابة إلى الوزارة قرّرت هذه الأخيرة أن تُعطيه درجة كاملة. يحلم أفنان بمقابلة ملك بابل في إحدى زياراته للبرج ويتجاذب معه أطراف الحديث، ويصحح معلومة خاطئة لدى الملك تتلخص بأنّ هذا البرج لم يشيّده أجداد الملك وأسلافه وإنما شيّده الفقراء بكدِّ يمينهم وعرق جبينهم من أجل تحدي الإلهة آنذاك. يوبّخ الملك مؤرخ المملكة لأنه صدّق أكاذيبه وادعاءاته رغم أنه كان يطلب منه على الدوام أن يكتب الحقائق حتى لو كانت تزعجه شخصيًا. أشرنا سلفًا إلى أهمية الجانب التعليمي في أدب الأطفال والفتيان، وما نستخلصه من هذا الفصل أن الملك قد قال مستخلصًا عبرة مهمة مفادها:"أنّ الناسَ قادرون على تحدّي الطغيان وإلاّ لما شيّد الناسُ هذا البرجَ الذي بدأوه بحلمهم وأكثر ما يُخيف الطغاة هو حلم الشعب". وعرفانًا بجميل أفنان أغدق عليه لقب "الفتى البابلي" الذي صدّقناه تمامًا وكأنّ حدث التكريم يقع على أرض الواقع وليس في فضاء الحلم المتخيّل. فلاغرابة أن يحصل أفنان، هو الآخر، على درجة كاملة في الامتحان رغم أنه شيّد برجه بالكلمات فـ "كل شيء يبدأ بالحلم، ثم الخيال وبعد ذلك بالإنجاز ". فقد أصبح هذا البرج أيقونة سحرية ومَضربًا للأمثال. ولعل مكافأة والديه لا تقل أهمية عن المكافأة الحلمية للملك أو مكافأة الوزارة التي منحته أعلى درجة في الامتحان.
التعالق الميتاسردي
يتعالق شاكر نوري في الفصل الثاني بطريقة ميتاسردية مع ورود أول ذكر للبرج في التوراة، فبعد الطوفان العظيم قام أبناء نوح بتشييده لكنهم واصلوا بناءه إلى أعلى قمة في السماء فغضبت عليهم الآلهة وبلبلت ألسنتهم، وفرّقتهم في الأرض بددا إلى آخر هذه الحكاية التي أشرنا إليها سلفًا. ينعطف الروائي من تقنية الحلم أو التعالق النصيّ أو الميتاسرد إلى الواقعية النقدية حينما يقول على لسان المرشد السياحي:"ألا ترى معي أننا نتباهى بأمجاد البرج لكننا نخجل من حاضرنا؟" الذي ينتقده على مدار النص السردي حيث يصبح البلد بؤرة للتخلّف والتبعية والإرهاب بينما يشيّد بلد "الزاهرة" على الضفة الأخرى من البحر برجًا ساحرًا استلهموه من برج بابل وشيّدوه على غراره فجذب السوّاح من كل حدب وصوب ودرّ على بلادهم أموالاً طائلة حققت لهم السعادة والاسترخاء والعيش الرغيد لأنه يتسلّح بالحكمة التي نفتقر إليها الآن رغم امتلاكنا لكل المواد والخيرات في باطن الأرض وظاهرها. يقوم أفنان بزيارة برج بابل مع والديه ويحصل على لقب "الفتى البابلي" بعد أن شجّعه بائع الأعشاب والعقاقير إلى الصعود إلى قمة البرج، وهو نفس اللقب الذي حققه في حلمه ودفعه إلى أن يذهب في المغامرة إلى أقصاها. يحفّزه المرشد السياحي على زيارة "البرج الحالم" في بلد "الزاهرة" ويحيطه علمًا بطريقتين لا ثالث لهما وهما البواخر ذات النجوم الخمس أو الزوارق المجردة من النجوم حيث يضعه أمام ثنائية الغنى والفقر. فالموسرون يستطيعون السفر بالبواخر الأمينة والمريحة، والفقراء يمتطون الزوارق ويركبون المخاطر والأهوال وربما لا يعودون إلى أهلهم وذويهم. يتردد الأب في اتخاذ القرار لكنّ الأم المُضحية لا تجد ضيرًا في بيع حُليّها ومصوغاتها الذهبية التي اقتنتها قطعة إثر أخرى لكي تحقق حلم أبنها الباحث عن الحكمة والمعرفة والجمال.
التخاطر مع الملاك الحارس
ينتقل الروائي من فصل إلى آخر بسلاسة كبيرة، فبعد أن رهنت أمه حُليّها الذهبية سافر أفنان إلى "الزاهرة"، وبحسب أمه فإنّ الفقير هو ذلك الشخص الذي لا يحلم، ولا يؤمن بالمستقبل. لعل أهم ما في هذا الفصل هو تقنية "التلْبثة" أو التخاطر الذي يحدث بين أفنان وبائع الأعشاب والعقاقير الذي يهديه ويرشده إلى هدفه، فهو ملاكه الحارس الذي يحفّزه على أن يكتشف الأسرار بنفسه ويستمتع بطعم هذا الاكتشاف. وحينما يفتح عينيه من الكابوس ويجد نفسه على الشاطئ يتعرّف إلى دانا، وهي فتاة شابة قادمة من الصحراء ومسؤولة عن تربية ولدين ينتميان لأسرة ثرية تسكن في مواجهة البحر. فيسألها عن أقرب حي فتخبره بأنه "كوكب الشمس" وهي بداية للكواكب أو الأحياء السبعة التي سيمرّ بها جميعًا ويتعلّم منها الكثير. ولو وضعنا دعوة الشمس إلى وليمة الغداء جانبًا وأنّ أناس هذا الكوكب لا يدفعون فواتير الكهرباء، ولا يستعملون البترول، ولا يعانون من التلوّث وما إلى ذلك من معطيات يستفيذ منها ساكن هذا الحيّ فإننا، كقرّاء، سنجد أنفسنا أمام تعالقات نصيّة مع رسّامين وشعراء وموسيقيين عالميين أولهم الفنان الهولندي فان كوخ الذي تحتفي لوحاته بضوء الشمس الأصفر وألوانها البرّاقة، والشاعرة الأمريكية إميلي دكنسون التي كتبت العديد من القصائد عن شروق الشمس وغروبها، والموسيقي الروسي نيكولاي ريمسكي كورساكوف الذي ألّف أوبرا "ترنيمة للشمس" وهي الأوبرا الأخيرة التي أنجزها قبل وفاته. لم يكتشف أفنان الشمس إلاّ هنا، "فهي بالفعل كنز لا مرئي".
على الرغم من أهمية اللقاءات التي عقدها أفنان مع الشخصيات الحية التي تعيش على متن النص إلاّ أنّ لقاءه بالصائغ الحكيم هو الأكثر أهمية لأنّ الحكماء نادرون في حياتنا. فهذا الصائغ يقول:"العالم كله يعشق الذهب، ولكن قلّة منهم من يفهم جوهره". فالمعادن أجساد وأرواح ولا يمكن تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب لأنّ "لكل معدن معدن طبائع، منها ما هو ظاهر، ومنها ما هو باطن". يقترح الحكيم على أفنان غرفة في منزله فيوافق من فوره ويخبره بأنه جاء لزيارة "البرج الحالم" الذي قيل بأنه يحاكي عظمة "برج بابل".
الأَسطُرلاب الأقدم في العالم
لا شك في أن الأَسطُرلاب هو الجهاز الذي استعمله الفلكيون الأوائل في تعْيين ارتفاعات الأجرام السماوية، ومعرفة الوقت والجهات الأَصلية وقد برع العرب في صناعته وتفننوا فيه فلاغرابة أن يمتلئ كوكب البحر بالأَسطُرلابات بمختلف أشكالها وألوانها في الشوارع والأزقة والميادين العامة، فالأَسطُرلاب هو قلب هذا الكوكب وعصبه النابض. ينطوي هذا الفصل على بعض القصص الشائقة والأقوال المأثورة التي ترتدي لبوس الحكمة من بينها أنّ "الحرب حريق نعرف متى تبدأ ولا نعرف متى تنتهي"، وقصة الصياد الذي عثر على أسطُرلاب نحاسي وباعه مع جماعته بثمن بخس إلى البلدية ثم تبيّن أنه الأَسطُرلاب الأقدم في العالم. وقصة "خُطاف رَفاي" المخلوق المخيف الذي يروّع ضحاياه ويلاحقهم إلى البرّ وخاصة النساء اللواتي يخرجنَ ليلاً.
يسعى شاكر نوري في رواية الجديدة "فتى البرج العجيب" لتطعيمها بالنَفَس العجائبي ففي "كوكب البذور" هناك معلومات مدهشة حقًا تلفت انتباه القارئ اليافع حينما يقرأ:"جُمعت هذه البذور من أصقاع العالم لتكون في مأمن في هذا القبو الزجاجي المُضاد للطائرات والقذائف والصواريخ والكوارث الكونية الطبيعية والنووية". ويزداد المتلقي دهشة حينما يقرأ بأن عدد البذور المحفوظة قد بلغ ثلاثة ملايين عيّنة ويخطط القائمون على هذا المشروع أن يحتفظوا بمليار بذرة! وفي السياق ذاته يقرأ أفنان في لوحة الإعلانات خبر الاحتفال بولادة العالِم الروسي الشهير نيكولاي فافيلوف المتخصص في أصول الوراثة النباتية وهو الذي أسس أول بنك للبذور سنة 1962م في معهد سان بطرسبيرغ وجمع نحو 60.000 عيّنة نباتية فيما جمع فريقه ما يقارب 250.000 عيّنة أخرى. لا يكتفي أفنان بعنصر الدهشة فقط وإنما يحث نفسه على التفكير والاستزادة العلمية، واستثمار علوم الآخرين وخبراتهم والإفادة منها لاحقًا في بلده الذي يمتلك كل شيء تقريبًا باستثناء الحكمة والتدبير. يخبر أفنان مُضيّفه بأنه تعرّف إلى دانا القادمة من كوكب الصحراء فينصحه بزيارة ذلك الحيّ والتعرّف عليه من كثب.
الصحراء مناجاة أبدية من النفس
يبرع شاكر نوري في اجتراح الثيمات التي تتبّناها شخصيات روايته حيث تقول دانا:"تُعلّمنا الصحراء ما نجهله عن أنفسنا، قصص الصحراء وحكاياتها لا تنتهي، لأنها مناجاة أبدية مع النفس". وكعادة الروائي في هذا النص السردي فإنه يعقد مقارنات دائمة بين بين كوكب الصحراء في "الزاهرة" وبين الصحراء العراقية التي أصبحت خطرة ومخيفة ووحشية ولا تُنظّم إليها السفرات السياحية لأنها أصبحت موئلاً لقطّاع الطرق واللصوص والإرهابيين. لم يشعر أفنان بالعزلة في "مملكة الرمال المليئة بالمعجزات"، ثم يعزّز مقولته العميقة بما قرأه ذات مرة بأنّ "مَن يزور الصحراء يخلد إلى التأمل". وعلى الرغم من القصص الخرافية الشائعة عن "القصر المسحور" إلاّ أن أفنان ودانا يزورانه ويغادرانه قبل حلول الظلام، وقد قيل إنه مسكون بالجن لأنّ أصحابه قطعوا شجرة معمّرة فيه. وهذه مقاربة ميتاسردية إضافة إلى بعض المقاربات المشابهة التي أشرنا إليها سلفًا.
لا تفقد الرواية حبكتها القوية في الفصول الأحد عشر كلها، بل أنها تتجلى تباعًا ففي كوكب البرح يُعيدنا أفنان إلى لجنة المعلمين ويتمنّى عليهم أن يروا "البرج الحالم" حتى يتيقنوا من أنّ خياله قد تحقق في "الزاهرة" فلاغرابة أن يدعوهم لبناء برجهم من الطوب الفخار إلى شاهق السماء لكي لا تغضب عليهم الآلهة من جديد، ويتشتتوا في الأرض، وتتبلبل ألسنتهم. ثم يتجه إلى دانا ويقول:"أهَمُّ ما في برجكم يا دانا أنه وحّد الناس واللغات والأجناس من حوله. هذه رسالته العظيمة". يلتقي أفنان بالملك ولكن لقاءه هذه المرة حقيقة وليس حلمًا فيسأله سؤالاً عاديًا جدًا مفاده:"ماذا تعلّمت من بلدنا؟" فيأتي جوابه دالاً ومعبّرًا وضاربًا في الصميم:"يا جلالة الملك، تعلّمتُ أنّ الكنوز موجوة فوق الأرض وليس في باطنها، وأنّ الشمس والذهب والبحر والبذور والصحراء والبرج والحكمة موجودة في كل مكان ولكن يجب التفكير باستخدامها". فيمنحه الملك لقب "فتى البرج العجيب" الذي يفرح به أفنان ويقول بصوت مسموع "أنّ بناء الملك للبرج الحالم يعادل ما قام به حمورابي ونبوخّذ نصّر". فكلاهما حكم بلاد الرافدين وجعلها أكثر قوة ومنعة وتأثيرًا، فالأول سن شريعة حمورابي، والثاني شيّد الجنائن المعلّقة التي تعدُ واحدة من عجائب الدنيا السبع.
شعلة الحكمة
أفردَ شاكر نوري فصلاً كاملاً لكوكب الحكمة ونعني به الصائغ الحكيم حيث يُعرب أفنان بأنه رأى البرج الحالم مثلما تخيّله ودبّجه في امتحان الإنشاء، وأنّ جميع الأقوام والأجناس قد سكنوا في طبقاته، وكانوا يزرعون في فسحة الأرض الموجودة أمامهم مادامت الشمس تشرق والمطر ينهمر. فيرد عليه الحكيم:"أنت حالم كبير يا أفنان مثل ملِكنا الذي يحلم كثيرًا، وما تراه لم يكن بالأمس سوى حلم لأن جلالته يجمع بين شجاعة الفارس وحلم الشاعر وحكمة الحاكم". ثم يضيف مقولة مهمة مفادها:"تنتهي البلدان عندما تنطفئ شعلة الحكمة فيها".
لا ينطوي "الوداع" أو الفصل الأخير على خلاصة الرواية وعصارتها فقد وزّع الروائي زُبدتها على الفصول السابقة، بل كرّر بعضها في أكثر من فصل، وترك قصة دانا وأفنان العاطفية من دون أن تتطور وتأخذ شكل الحب الملموس. ورغم أنها كانت تطمح برؤية برج بابل في الأقل وأنه وعدها بتنظيم رحلة لها في المستقبل القريب إلاّ أنّ تلك الرغبة تظل حلمًا كامنًا ومفتوحًا على احتمالات عديدة.
يختم شاكر نوري أحداث روايته العجائبية بصوت يتردد مع الريح والأمواج ويقول:"لا تنسَ درس الإنشاء ولا برج بابل الذي سكن طوايقه الناس بعد أن عجزوا عن النزول إلى الأرض، احكِ قصصك لطلبة مدرستكَ ولجنة المعلمين كما لا تنسَ يا أفنان أنّ الكنوز موجودة على سطح الأرض وليس في باطنها".
تمتلك رواية "فتى البرج العجيب" غالبية اشتراطات النص الروائي الناجح المكرس "للصبايا والفتيان" من ثيمة رئيسة، وشخصيات إيجابية، وأحداث مدهشة، ونهاية مدروسة، ولغة مضيئة ساطعة تغري المتلقي بقراءة النص الروائي دفعة واحدة تحقق للقارئ المتعة والفائدة والدهشة، وتشحذ مخيلته بكل ما هو عجيب وغريب وخارج عن المألوف.
جدير ذكره بأنّ شاكر نوري قد أصدر حتى الآن 11 رواية نذكر منها "نزوة الموتى" و "كلاب گلگامش" و "المنطقة الخضراء" و "شامان" و "جحيم الراهب" و "طائر القشلة" وستصدر له قريبًا رواية "الطاعون يا بغداد . . الطاعون". سبق لشاكر نوري أن حاز على ثلاث جوائز مهمة وهي: جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات عن كتابه الموسوم "بطاقة إقامة في برج بابل . . يوميات باريس" 2013م، وجائزة كتارا للرواية عن روايته " خاتون بغداد" 2017م، وجائزة الصحافة العربية في دبي، حقل الحوار الصحفي 2018م، وقد وصلت روايته "فتى البرج العجيب" لجائزة الشيخ زايد للكتاب 2023م الصادرة عن "دار المؤلف" في لبنان و "معالم للنشر" في الإمارات العربية المتحدة، وهي الرواية الأوفر حظًا في الفوز والتتويج لما تتوفر عليه من اشتراطات فنية وفكرية وجمالية.

النزاهة تحقق في قضية تهريب الذهب من مطار بغداد
18-تشرين الثاني-2024
الأمن النيابية: التحدي الاقتصادي يشكل المعركة المقبلة
18-تشرين الثاني-2024
الجبوري يتوقع اقصاء الفياض من الحشد
18-تشرين الثاني-2024
نائب: الفساد وإعادة التحقيق تعرقلان اقرار «العفو العام»
18-تشرين الثاني-2024
منصة حكومية لمحاربة الشائعات وحماية «السلم الأهلي»
18-تشرين الثاني-2024
مسيحيون يعترضون على قرار حكومي بحظر الكحول في النوادي الاجتماعية
18-تشرين الثاني-2024
الموازنة الثلاثية.. بدعة حكومية أربكت المشاريع والتعيينات وشتت الإنفاق
18-تشرين الثاني-2024
النفط: مشروع FCC سيدعم الاقتصاد من استثمار مخلفات الإنتاج
18-تشرين الثاني-2024
تحديد موعد استئناف تصدير النفط من كردستان عبر ميناء جيهان التركي
18-تشرين الثاني-2024
فقير وثري ورجل عصابات تحولات «الأب الحنون» على الشاشة
18-تشرين الثاني-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech