عامر بدر حسون
كان جد انطون تشيخوف عبدا ايام كان العبيد يباعون مع الارض في روسيا.
وعمل الجد ليل نهار وحرم نفسه وعائلته من كل شيء حتى جمع مبلغا وذهب الى "السيد" ليشتري حريته وحرية عائلته.
وبعد ان اصبح حرا جاء السؤال: وماذا أفعل الان؟ الواقع انه لم يعش حرا بل عاش "سيدا" وقام باستعباد عائلته بالمعنى الكامل للعبودية! لقد بدا يتصرف وفق العقلية التي نشأ عليها او وفق "الثقافة السائدة" التي عاش في ظلها كما نقول اليوم. عانت عائلته من استبداده اكثر من معاناتها مع "السيد" القديم، وفرض عليها نظام عبودية غاية في القسوة! وعندما واجهته مشقات وتحديات الحرية (وهي الاعظم والاقسى في تاريخ التحولات البشرية) كان دائم التصريح ان نظام القنانة والعبودية هو الافضل له وللبشرية جمعاء! والقصة لها تتمة لكن اكثر قسوة!
فبعد وفاته كان ابنه الاكبر اكثر تجبرا منه، رغم انه انتقل للمدينة وامتلك هوايات فنية الى حد ما.. لكنه عامل عائلته بأقسى من معاملة الجد واقسى من معاملة "السيد" القديم. ووصل به الامر ان علّق في البيت "فرمانا" كتب فيه ما يجب على كل فرد عمله والعقوبات المترتبة على المخالفين.
ولعل انتقاله من الريف للمدينة جعله اكثر تمسكا بقيم العبودية الريفية لأنه اعتبرها اصل الاخلاق والقيم! ومن تعليماته: فلان يستيقظ في الخامسة فجرا وفلانة تكون صاحية قبله للقيام بهذا العمل او ذاك، ولم ينج حتى تشيخوف، الرقيق والذكي، من تلك الاوامر والعقوبات.. وتشيخوف هو من كتب لاحقا ان جده المستبد كان اقل قسوة من ابيه! وكانت احدى العقوبات تنص على عقوبة الضرب دون ان يُصدر المضروب اي صوت! واثناء تنفيذه احدى "االعقوبات" ارتفع صوت احد اخوة تشيخوف من الالم، فتجمع الناس ليخلصوه دون جدوى.. الامر الذي دفع صاحبة البيت الى مطالبته بالبحث عن مسكن اخر!
كيف تحول الجيل الثاني من "الاحرار" الى قساة اكثر من الجيل الاول واكثر قسوة حتى من "السيد" القديم؟!
للإجابة على هذا السؤال كُتبت الدراسات والابحاث في العالم بأطنان من الورق لمعرفة سر تمسّك الانسان بعبوديته او صعوبة التخلص من ثقافة العبودية وسلوكها، وخلصت الى استنتاجات مهمة (ساهم الدكتور علي الوردي فيها بكتاباته ومؤلفاته في العراق) ومن هذه الخلاصات:
ان العبيد ليسوا نوعا واحدا ففيهم العبد المتمسك بعبوديته وفيهم العبد التواق الى حريته. العبد التواق للحرية عندما يتحرر، يحاول ان يحرر من حوله، اما العبد الاخر فانه يستغل حريته ليكون "سيدا" يستعبد الاخرين!
وحتى اضفي على هذا الموضوع المحزن طابعا اقل مأساوية، اقول انه لا علاقة له بثقافة العبودية عندنا والتي عشنا فيها اكثر من نصف قرن!
صحيح ان غالبيتنا تتصرف كجد تشيخوف او كأبيه بعد ان اصبحوا احرارا..
وصحيح ان ثقافة العبودية رسّخت عند غالبيتنا احتقار الذات وانتظار قائد منقذ ومخلص.. وصحيح ان هذه الثقافة هي السائدة عندنا والتي نشأت عليها اجيال.
لكننا:
- غير شكل وما يصلح لغيرنا من البشر لا يصلح لنا!
فلا تقرأ هذه السطور بنيّة المقارنة.
وبالمناسبة فان عقيدة اننا "غير شكل" هي من تراث وثقافة العبودية!