د. عبد الباسط تركي سعيد
عندَ تكليفي مسؤولية رئاسة ديوان الرقابة المالية عام 2004 وبما تتمتع به هذه المؤسسة من تاريخ عريق ومشرف بالإضافة إلى ما يخولها القانون من سلطات، فقد أثار اهتمامي محاولة التوصل إلى الطريقة التي تضمن بها مراقبة هذه المؤسسة وتقويم أدائها للحفاظ على تاريخها في الأداء الإيجابي المطرد الذي يجب أن تستمر عليه.. كانت تراودني دائما مقالة (من يقاضي القاضي ومن يراقب الرقيب).
لا شك في أن من يراقب الرقيب كإنسان فرد هو مجموعة المثُل والقيم التي يؤمن بها وما تربى عليها. اما المؤسسة والرقيب كموظف بالإضافة الى الاطار القانوني الذي يحكم حقوقه وصلاحياته، ما هي الآليات التي يمكن اعتمادها في مراقبتها لضمان استمرار وجودة أدائها الفعلي، وبعد ان فعل الديوان كل الإجراءات التي كانت قد ساهمت في تطوير الأداء المهني للرقيب وضمان حيادتيه واستقلاليته عند أداء مهامه، عندها تم تشكيل فريق من اصحاب الخبرة من المتقاعدين ممن سبق لهم إدارة قيادات دوائر الديوان، يساعدهم عدد من طلبة الدراسات العليا او ممن تخرجوا حديثاً من اعضاء الهيئات الرقابية للديوان؛ حيث يتم اعطاء نقاط تقود للتكريم أو للمحاسبة في ضوء الملاحظات التي يثبتها الفريق على التقارير التي تصدر عن الهيئات الرقابية وبعد استقرار العمل في الديوان وفقاً للكفاءات الذاتية الرائعة التي يمتلكها، أصبح الاتجاه جدياَ لإيجاد جهة تعنى بتقييم عمل الديوان. وفي هذا المجال هناك ما يعرف برقابة النظير أو (مراقبة التاج) وهو أن يقوم جهاز رقابي آخر مناظر بتقويم عمل الديوان، ومع إجراء المسح لكل تجارب الدواوين وأجهزة الرقابة العربية والبلدان النامية لم نجد أياً من هذه البلدان كان قد قام بهذه التجربة، وعندها بدأت دائرة الدراسات والشؤون الفنية التي كانت قد استحدثت على هيكلية الديوان بعد عام 2004 بمراجعة المعلومات المتوفرة عن الأجهزة الرقابية التي تتمتع بكفاءة فنية ومصداقية على مستوى العمل الرقابي عالمياً، والتي يمكن أن يقود تقويمها لعمل الديوان إلى تقدمه باتجاه أكثر كفاءة بالإضافة إلى العامل الحاسم والمهم وهو أن تعرف المؤسسة ذاتها (الديوان) أين تقع فعلاً من العمل الرقابي والمهني كما يجب وكما يفهمه ويتعاطى معه الآخرون ممن لم تمر بلدانهم ومؤسساتهم بتلك التي مرّ بها عراقنا من حروب وحصار، قاد الى قطيعة عن العالم الخارجي الى حد كبير، وبما يعزز الثقة بالمسيرة التي يعيشها الديوان ثانيا على كل المستويات.
وقد خلصت هذه المراجعة إلى ترشيح أربعة أجهزة رقابية يشهد لها بالكفاءة والموضوعية، وضمن العشرة الأفضل عالمياً وهي الجهاز الرقابي بالنمسا حيث تشغل الدولة المقر للمنظمة الدولية العالمية للأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة (الانتوساي) وجهاز الرقابة لكندا حيث تتمتع كندا بالإدارة المالية لنظام فدرالي إلى حد ما ومحكمة المحاسبة الهولندية والتي كانت معتمدة من قبل الاتحاد الأوروبي في عدد من المهام الرقابية على مستوى الاتحاد، وجهاز الرقابة النرويجي لمراجعة الطريقة التي يتعامل بها مع العوائد النفطية وشركات الإنتاج في القطاع النفطي، حيث يشار للنرويج باعتبارها من الدول الاستثنائية النجاح أوروبياً في ادارة هذا القطاع. وعند عقد المؤتمر الدولي للأجهزة الرقابية والمحاسبة (الآنتوساي) في المكسيك عام 2007 واطلاع الفريق الفني للوفد العراقي على البحوث والدراسات والمساهمات التي قدمت من قبل أجهزة الرقابة المختلفة في المؤتمر مباشرةً او ضمن ورش عمل فقد تم التركيز على نشاط محكمة المحاسبة الهولندية، للأنشطة التي قدموها عن تجاربهم على مستوي هولندا ومنجزاتهم الرقابية على المستوى الاوربي التي كان قد كلفهم بها الاتحاد الأوربي، عندها باشرنا الاتصال بالوفد الهولندي وعقدنا اجتماعا على هامش المؤتمر وأطلعناهم على رغبة العراق تكليفهم بهذه المهمة، ورغم ان طلبنا لم يرفض الا ان الاجتماع كان أقرب للمجاملة منه لاتخاذ الموقف الجاد إزاء طلبنا، وهذا كان طبيعياً فهم بالكاد يعرفون أي شيء عن ديوان الرقابة المالية في العراق، اضافة الى التصور العام غير الايجابي لدى الاخرين عن مؤسسات الرقابة في الدول النامية. ولكي يحقق العراق النجاح في طلبه فقد كان يتوجب بذل المزيد من الجهد لإقناعهم بجديتنا وامتلاكنا للقدرات التي تستطيع المشاركة بالتجربة بكفاءة... وبعد اتصالات مكثفة وفي كل المؤتمرات والاجتماعات اللاحقة التي تجمعنا معهم تمكنا من إقناعهم بأننا نسعى لهذه المحاولة بجدية وإننا حريصون على أن نكون محايدين تماماً في تأمين المستلزمات الفنية، عندها ابلغتنا محكمة المحاسبة الهولندية بموافقتها على تقويم عمل الديوان فيما يتعلق بالأسلوب الذي يمارسه في رقابة الاداء. (تأسست المحكمة في عام 1814 بموجب دستور مملكة هولندا آنذاك) وكانت المفاجأة أنها قد استحصلت موافقة الجهات الهولندية المعنية في أن تخصص مبلغ 400,000 يورو لتغطية تكاليف هذه المهمة وعندها تم توقيع الاتفاق بحضور السفير العراقي المعتمد في لاهاي وباشر الفنيون في كلا الجهازين بوضع خطة عمل مشتركه لتأمين متطلبات انجاز المهمة. أجرى الفريق الفني من المحكمة الهولندية منفردا لقاءات في عمان (لم يحضرها الديوان) مع عضوين من مجلس النواب للوقوف على مدى الاستفادة من تقارير ديوان الرقابة المتعلقة بتقويم الأداء باعتبارهم أهم الجهات المستفيدة قانونا من تقارير الديوان، ثم لقاءات وبنفس الطريقة مع عدد من المدراء العامين لدوائر حكومية ولشركات من القطاع العام للوقوف على رأيهم بآليات عمل الديوان، بالإضافة إلى مدى الاستفادة من التقارير المعدة بشأن دوائرهم وشركاتهم. كما قام الفريق الهولندي بالاطلاع على عدد من تقارير تقويم الأداء المنشورة على موقع الديوان الإلكتروني، وبالتوازي مع ذلك، كان الجهاز الهولندي ينفذ عددا من الدورات وورش العمل لتدريب فرق عمل وهيئات رقابية عراقية سواء في هولندا او المنطقة (بيروت وعمان) تتعلق بتقويم الأداء كما هو معمول به في المؤسسات الرقابية العالمية والمعتمدة من قبل (الأنتوساي). وبعد إنجاز المهمة اتصلت رئيسة محكمة المحاسبة الهولندية السيدة ساسيكيا ستغفلنگ (Saskia J. Stuiveling) وأعلمتني بإتمام المهمة بالنسبة لهم وقد انجزوا إعداد التقرير النهائي حول تقييم عمل الديوان، واستوضحت عن الجهات المعنية في الديوان التي يعنون إليها إرسال التقرير، قلت لها ان التقرير يجب أن يسلم إلى السيد رئيس مجلس النواب. استغربت من إجابتي! قلت لها نحن ندير أجهزة رقابية ونحرص على أن يكون عملها شفافا ومهنيا، وبالتالي فمن باب أولى ان نمارس ذلك على انفسنا، فإذا كان التقرير يتضمن ملاحظات سلبية فسوف يتوجب علينا تدركها وتجاوزها، وإذا لم يكن كذلك فإن الأمر يضعنا في مسؤولية المزيد من العطاء ليس أكثر. كان لهذه الإجابة أثرها وأصرت أن تأتي إلى بغداد وتقدم التقرير هي بنفسها للسيد رئيس مجلس النواب رغم أنها كانت قد تجاوزت السبعين من عمرها آنذاك، وهذا ما حصل فعلاً، وقدمت التقرير مباشرة بحضور السفيرة الهولندية لدى العراق للأستاذ أسامة النجيفي رئيس مجلس النواب وبحضور أعضاء الهيئة الرئاسية، في الساعة العاشرة من صباح يوم 29/10/2013 وعقدنا بعدها مؤتمرا صحفيا مشتركا، وأصرت على تلبية دعوة الديوان، بحضور السفير الهولندي، حيث عقد المؤتمر في بناية الديوان في شارع حيفا، برغم ان التعليمات الرسمية لديهم آنذاك تمنعهم من مغادرة المنطقة الخضراء لأسباب أمنية ثم غادرت العراق. كانت قد احيلت على التقاعد عام 2014 بعد ان قضت 19 عاماَ في رئاسة المحكمة، بعد ان تجاوزت العمر الذي يسمح لها بالاستمرار في عملها، ومن المصادفات إني قد أحلت على التقاعد في السنة ذاتها لاستكمال المدة القانونية لرئاسة الديوان، والتي ينص عليها قانون ديوان الرقابة المالية. وبمناسبة أحالتها على التقاعد أعدت المحكمة الهولندية بالتعاون مع احد الإعلاميين الهولنديين (رويل يانسن) كراساً تضمن اللقاء مع اكثر ثمانية رؤساء أجهزة رقابية كانت قد تأثرت بهم خلال مسيرتها، سوى ممن هم في الخدمة أو خارجها على المستوى العالمي. وكان ديوان الرقابة المالية العراقي احد هذه الأجهزة وقد ركز الكاتب على قولها ((أن المشكلة لا تكمن في ان النظام الديمقراطي يؤسس لوجود مكتب تدقيق جيد والنظام الدكتاتوري يؤسس لوجود مكتب تدقيق ضعيف فمثلما هناك أجهزة رقابة مالية ممتازة تعمل في ظل ظروف غير اعتيادية، هناك أيضا قد تجد مدققين كسولين يعملون في ظل ديمقراطية مثالية. إني أسعى للتعاون مع زملاء المهنة ممن أثق بأنهم قادرون على تحقيق الأفضل في عملهم وفي إطار منصبهم المستقل وذلك في ظل ظروف معاكسة تمر بها بلدانهم))، مشيرة بذلك صراحة إلى ديوان الرقابة المالية العراقي. عندها اكتشفت لماذا وافقت على المهمة وقدمت هذا الدعم لديوان الرقابة المالية العراقي وهذه المسؤولية الدولية الاعتبارية في القيام بالمهمة وتقديم تقريرها، كان خلاصة الرأي الرقابي الذي أورده التقرير (وخلصت الى ان ديوان الرقابة المالية العراقي الاتحادي ممتثلاً بشكل كبير مع معايير منظمة الانتوساي الدولية في ما يتعلق برقابة الأداء). وتضمن الكراس الذي أصدرته المحكمة بعنوان (فن التدقيق - ثمانية مدققين حكوميين استثنائيين على خشبة المسرح) قد تضمن اللقاء الذي أجراه معي لنشره في هذا الكراس، وقد كان اخر ما ودعت عملي بالديوان الرقابة المالية الاتحادي قبل الإحالة على التقاعد وربما يكون من المفيد استذكاره بعد قرابة 10 سنوات من نشره...... وان أكون قد وفقت به. كان هذا الإنجاز الذي لم يجارِه أي من الأجهزة الرقابية العربية والإقليمية وحتى الان (حسب علمي) كان بجهود استثنائية استثيرت بها الحمية الوطنية والشعور بالتحدي ازاء المسؤولية المهنية والتاريخية لزملائي العاملين بالديوان.
أتمنى دائماً للديوان والعاملين فيه التوفيق ومزيداً من العطاء ومزيداً من النجاح وحفظهم الله من كل سوء وبارك بجهودهم الخيرة اينما يكونوا وفي أي ساحة.