عامر بدر حسون
قبل نصف قرن بالتمام والكمال، غادرت حياتي الواقعية ودخلت في حياة افتراضية ساحرة. وهي حياة كانت، وما زالت، خطرة ولذيذة.. وكل مسراتها وأحزانها مكبّرة ومضاعفة عشرات المرات!
ففي عام 1973 نشرتُ اول مقالة لي في الصحافة (طريق الشعب العدد 20).
ومنذ تلك اللحظة وأنا مثل العاشق المسحور!
فلقد وقعت في أسر وعبودية الحروف والكلمات وما تنتجه من أفكار وما تفتحه من آفاق لا متناهية!
وفي النهاية صارت تعاستي وسعادتي رهينة قراءتي او كتابتي لـ “جملة مفيدة”! والصحافة التي اخترتها كمهنة.. هي نمط حياة أكثر مما هي مهنة، وهي بدوام كامل لا عطلة او استراحة فيها.
وهي خطرة وتستحق التحذير منها!
ففي هذه المهنة ترتكب كل الأخطاء أمام الآخرين وتصبح في متناولهم متى ما أرادوا استخدامها ضدك!
والمجد في مهنة الكتابة الصحفية قليل وعابر في غالب الأحيان!
لكن العار الذي يرتكب فيها يبقى ملتصقاً بالكاتب كالتصاق السخام الأسود بالثوب الأبيض!
ولعلّي هربت من هذا المصير يوم هربت من العراق عام 1978.
ولعلي بقيت عشرات الأعوام في المنفى أردد مع الصديق الشاعر الراحل فوزي كريم ما قاله: "كل شراع لم يعد إليك يا مرافئ الحدود
لا باحثاً سدىً عن المعنى ولكن هرباً من المعاني السود..
فهو شراعي"! وكانت المعاني السود تلاحقنا في المنفى الذي امتد لعشرات السنين.. وكنت هناك أتلقى سخام المعاني السود مما أقراه في صحافة بغداد من مقالات وقصائد وقصص تشتغل في مديح القاتل وحروبه وتسويق أمجاده الوهمية والدموية! وكان الأخطر، في ذلك السخام، سيادة وتكريس الكراهية للآخر، المختلف، وتقديس العبودية..
وهي آفة الكتابة العربية عموماً، والعراقية بشكل خاص حتى يومنا هذا!
أعرف أن خوفاً مهلكاً ومدمراً، وأن رغبة طبيعية بالسلامة، وصعوبة في مواجهة الرعب العام هي التي ضغطت على أساتذة واصدقاء وزملاء فغمسوا أقلامهم بالسخام الأسود بدلاً من أن يغمسوها بالنور!
وأعرف أن تلك محنة عامة لوّثت الغالبية من الصحفيين والمثقفين العراقيين جراء تعرضهم لأكبر همجية منظمة!
لكنني وبعد هذه السنوات على غياب الخوف (بغياب الطاغية وحزبه) لا أرى في صورة الكتابة العراقية شيئاً مفرحاً!
فقيَم العبودية وتمجيد القوي (قائداً او قومية او ديناً او مذهباً) هي السائدة!
ومازال حملة جوائز القادسية في الفنون والآداب يباهون بجوائزهم وهم يتصدرون مساحة غير قليلة من المشهد الحالي للثقافة والكتابة العراقية!
ربما كان الأمر يحتاج الى سنين أخرى كي يفرق الكاتب بين العار والمجد!
وربما كان الجيل الجديد بحاجة لمرجعية في الكتابة، غير التي بين أيديهم، كي يكتبوا وفق زمنهم وحقائقه، لا وفق الأوهام التي سوقها السابقون وما زالوا! لكنني وإذ القي نظرة على نصف قرن قضيته في الكتابة، أشعر أنني كنت مبحراً في حلم لذيذ لا أريد أن أصحو منه!
ففي هذا الحلم الطويل كان من ألجأ إليهم وأحتمي بهم هم أساتذة البشرية وانبياء الرحمة، بدءاً من هوميروس وكلكامش وشكسبير وهاملت ولير وديستويفسكي وتشيخوف ونجيب محفوظ وبتهوفن وفيروز، وانتهاء بمئات الأقمار التي طالما أضاءت ليل البشر!
فهؤلاء، مهما بعدوا، كانوا يمثلون الملجأ الامين عندما تهجم ثقافة عباس جيجان علينا (وهو بالمناسبة المثل الأعلى المستتر والخفي للمثقف العراقي)!
وشكرا لمن علمني حرفاً في المهنة الأخطر والألذ!