في الثالثة عشرة من عمري وفي عز مراهقتي (وقبل انقلاب 8 شباط 1963) بأسابيع، نقلني ابي مع اخي الكبير "ابو انيس" من متوسطة المحمودية الى متوسطة الدغارة.
لقد شعر، مثل كثير من الاباء، ان هناك حدثا او انقلابا سيحصل فاراد حماية اخي الشيوعي من نتائجه، وربما كان نقلي معه وانا في تلك السن لتسليته او مساعدته.
وحتى هذه اللحظة لا اعرف كيف حدس ابي شبه الامي، وغيره، حتمية حصول انقلاب البعث في 1963 ولم يعرف به الزعيم عبد الكريم قاسم، فيستعد مثل اي صاحب عائلة فيأخذ احتياطاته ليحميها؟!
وفي التاسعة عشر من عمري (1969) وفي عز اختلاط قراءاتي لسارتر وارسين لوبين والطبري ولينين، اقتادني شرطيان عبر شارع المحمودية الرئيسي الى امن المحمودية.
وحقق معي عند وصولي معلم من سامراء، كان هو احد مسؤولي حزب البعث في المدينة، وكانت التهمة:
تشكيل وقيادة عصابة "الكف الاسود"!
وفي اليوم التالي لاعتقالي واطلاق سراحي تم اعتقال صديقي المرحوم احمد المهنا ولأنه كان اصغر مني واكثر براءة فقد رد عليهم باعتداد:
- عن اية عصابة تتحدثون؟ انا سياسي ومثقف!
وكان هذا كل ما يحتاجونه فقد اشترطوا عليه ان يترك اتحاد الطلبة وينتمي للاتحاد الوطني لطلبة العراق، فقبل بالأولى ورفض الثانية وكان عمره يومها اقل من 16 عاما!
اما انا فقد كنت ارد على المحقق كلما تحدث عن عصابتي:
- هل تعرف انا ابن من؟!
فقد كان يحدثني عن عصابة "الكف الاسود" التي تزمع اختطاف الاطفال وطلب فدية من اهاليهم قدرها خمسة او عشرة دنانير مقابل اطلاق سراحهم!
وكان المبلغ ضئيلا قياسا الى وضع عائلتي، لذلك كنت اكرر السؤال عن ابي وعائلتي حتى يعرف ان هذا المبلغ لا يستحق تشكيل عصابة.
والغريب انه في العام 1990 وعقب غزو الكويت شاهدت في التلفزيون العراقي تقريرا عن القاء القبض على عصابة في بغداد اسمها عصابة "الكف الاسود"!
ونشرت يومها مقالا ذكّرت فيه صديقي احمد المهنا بعصابتنا المزعومة، وقلت له ان البعثيين بلا خيال لانهم استخدموا اسم وتخصص عصابتنا القديمة على اخرين.
والمحمودية كانت مدينة لصغرها يومذاك بلا وسائط نقل، وكان عدد من يقرؤون الكتب فيها قلة، وكنا كشباب صغار نتباهى بكتبنا الثقيلة ونحملها معنا في الشارع والمقهى.
وكان حزب البعث يعتبر كل من يقرا شيوعيا او مشروع شيوعي، ولذلك بدأوا حربهم في المدينة بمحاربة الكتب وحملتها وقرائها.
ولان اعمارنا صغيرة، وكانوا في اخذ ورد مع الشيوعيين لتشكيل الجبهة الوطنية (لمحاربة الامبريالية وبناء الاشتراكية) فقد اختاروا ارهابنا بتهمة عصابة الكف الاسود.
ولا ادري.. فلربما اصبحت، فيما بعد، كاتبا للأطفال من وحي تلك التجربة او العصابة!
ومن قراء المحمودية المعروفين صديقي القاص والروائي طامي هراطة عباس والمرحوم فؤاد الخفاجي وكنا نجتمع ثلاثتنا في اخر الليل مع بعض الاصدقاء ونجلس على اريكة خشبية على رصيف مقهى المرحوم كاظم علي النجار بعد الاغلاق، ونتبادل الاحاديث الثقافية واحلام اليقظة وقصص الحب غير المنجزة تحت ضوء شاحب، يأتي من عمود الكهرباء القريب من المقهى.
وعندما جاء البعثيون الى حكم العراق والمدينة.