رعد كريم عزيز
الجزء الاول
يمثل عدد مجلة الاقلام الخاص بقصيدة النثر العراقية والعربية والصادر نهاية عام 2024(العدد الرابع-السنة الحادية والستون) ,سدا كبيرا تقف عند بوابته مياه الجدل الهادرة بشأن التاسيس وضرورته ,والتاثر ببزوغ قصيدة النثر عالميا وعربيا على قصيدة النثر العراقية التي امتلكت شواهد كثيرة,امتازت بالحضور القوي والمتماسك على صعيد النشر وفي المحافل الجماهيرية حتى اضحت قصيدة النثر,باعتراف الجميع شكلا فنيا اكتسب رضا الناشر والقارئ والمستمع معا.
اننا هنا ازاء اعتراف بوجود النثر شعرا ,وكما اسماها الشاعر عارف الساعدي (قصيدة النثر ..شراسة الانطلاقة وترويض الزمن ) ص 4 في افتتاحية العدد , كناية عن حضورها الطاغي وترويضها لذائقة القراء والنقاد.
او كما اوجز حضورها رئيس التحرير علي سعدون(هذا النص المدهش الذي استطاع ان يتوافر على الشعرية بعيدا عن الزخارف اللفظية والايقاع الخارجي ,فحقق حضوره بالشعرية وحدها ,خالصة وهو يدير ظهره للزوائد والترهلات) ص 384.
ونظرا لحجم العدد الكبير , وتنوع اقسام العدد من الاضاءات الى الدراسات والمكاشفات والمقالات والاستعادات والشهادات والبيانات الشعرية والرؤى والنصوص واهتمامات اخرى بالتشكيل والنقد الادبي ,فقد ارتاينا ان نتاول القسم الخاص تحت عنوان (شهادات ) والذي اشترك فيه ثمانية كتاب من اجيال مختلفة وبرؤيا تعكس تجاربهم الشخصية ,مطعمة باراء نقدية توزعت بين السياسيي ,وعلاقة النشر باتساع رقعة قصيدة النثر في ارض الادب العراقي.
الا ان لكل كاتب رؤيا ,ورأي يمثل تجربته بمعزل عن تجارب الاخرين ,ومن اجل معاينة وفحص تلك الشهادات ومدى توصلاتها الى الجانب المعرفي والثقافي والسياسي ارتأينا ان نصف الاسماء وفق تقارب مشترك لشكل الشهادات التي توزعت بين التجربة الشخصية ,فكانت شهادة الشاعر يحيى البطاط والشاعر منذر عبد الحر وتجربتهم الشخصية في كتابة قصيدة النثر.
وبين التاسيس لرؤيا نقدية بحتة, فكانت شهادة الشاعر عمار المسعودي والشاعر باسم الانصار والشاعر علي رياض.
وبين تاريخية قصيدة النثر العراقية فكانت شهادة الشاعر ابراهيم البهرزي والشاعر حسين علي يونس والكاتب والروائي محمد غازي الاخرس.وسنتاول طبيعة شهادة هذه الاقسام بالمقارنة ومحاولة ايجاد الرؤى المتشابهة والمختلفة عند كل كاتب.
1
"التجربة الشخصية"
يذهب بنا الشاعر يحيى البطاط بعيدا نحو المجاهيل التاريخية لنشوء اللغة منتصرا لقصيد النثر باعتبارها تفتح كل يوم (افاق جديدة للخلود من خلال الشعر وقرائنه)فهو يسعى الى شعر صاف يتجنب اللاعيب اللغوية (وقواف وطبول وتربيعات وتصريعات وتشطيرات)متهما التجارب الشعرية التي سبقت قصيدة النثر بتسبب خسارة( تلك القدرة التي امتلكها اجدادنا الاوائل مخترعي الكلمات في التماثل مع الطبيعة والاشياء والسكن في قراراتها .خسرنا الشعر) ولكنه لايعفي قصيدة النثر من الضعف والهنات في نماذجها المطروحة حيث يسوق مقولة قاطعة تعلن عن ندرة النثر (لكن نماذج قصيدة النثر المعاصرة المؤثرة والصالحة للبقاء ,مازالت نادرة ,وهذا امر متوقع ,الشعر بطبيعته معدن نادر) ويخلص الى ان (قصيدة النثر اقتراح وليست حلا).ويسرد لنا الشاعر يحيى البطاط تجربته مع قراءة الكتب في البصرة منتقلا من سارتر وكامو الى حسين مردان وادونيس,معتبرا ان الكِتاب والحرب و( الانتقائية )قادته الى قصيدة النثر رغم انها لا تمثل حلا كاملا للرجوع الى بواكير الدهشة اللغوية التي ينشدها في عنوان شهادته(اريد قصيدة تهمس لنفسها) وهذا العنوان يحمل مبتغى صعبا يسعى للحصول عليه من خلال قصيدة النثر دون غيرها.
ويتفق الشاعر منذر عبد الحر مع البطاط,والذي خاض غمار الاشكال الشعرية المختلفة ولكنه ينتصر لقصيدة النثر باعتبارها تمثل الصوت الصافي بين الاشكال التقليدية(انا شخصيا جربت الكتابة في المسارات التي اشرت اليها ,ولكني شعرت وانا اشرع باصدار مجموعتي الشعرية الاولى – وهي من تجربة قصيدة النثر – باني انتمي للنص الذي يحاكي الهم الانساني والوجع العراقي)ويذكر الشاعر منذر عبد الحر ان بعض قصائد النثر العراقي (بنت فضاءها من نثار لغوي ,وصور مبعثرة ,وضبابية في الاداء ,وهذا المسار اغرى العديد من شعراء السبعينات والثمانينات ليعبروا عن احتجاجهم الفكري والفني على الاوضاع العامة بهذا الاشتغال الذي صار ظاهرة مستغربة من قبل الاوساط الثقافية الرسمية) وعدم رضا السلطة على قصيدة النثر تتفق عليه كل شهادات عدد الاقلام باعتبارها قصيدة مارقة لاتنفع السلطة في مدح وتهليل للقمع والحروب,باعتبارها قصيدة تأمل لا صراخ.
البطاط وعبد الحر في شهاديتهما يسلطان الضوء على تجارب شخصية وانتماء طوعي دون ربط الامر ,بجيل معين او رؤيا نقدية خارجية تتحدث عن قصيدة النثر العالمية والعربية والعراقية,مع الاختلاف الواضح في طبيعة التناول بين الشاعرين.
2
"رؤيا نقدية"
يجمل الشاعر عمار المسعودي باختزال شديد رأيه بالشعر , دون انحياز لشكل دون اخر(الهم الوجودي واحد والشاعريةالتي تترصد هذه الوجودات تكاد تكون واحدة بزيادة ام بنقصان) معلنا في عنوان شهادته(النثرية اقرب للسرديات) ان النثر قريب للسرد,وكأنه يدفع بقصيدة النثر عن ساحة الشعر العمودي والحر,حتى يصل الى قناعة باتة وجازمة(النصوص النثرية ولاجل ان تنهض مضاداً شعريا لها ان تجد فضاءاتها مبتعدة عن التشبه بقصيدة التفعيلة التي هي بعض العمود).
والشاعر هنا يطالب باستقلالية تامة لقصيدة النثر,في اشارة لعدم اقتناعه بما توصلت اليه قصيدة النثر من نماذج منشورة,وكأنه يطالب بعودة نقدية جديدة لوضع شروط مختلفة تناسب دواعي حضور هذا الجنس الادبي الذي يريده خالصا لنفسه دون الارتباط بماضي الشعر باشكاله التقليدية ,مما يشي بتعامله بحذر شديد مع هذه الظاهرة ,لفك الاشتباك بين قصيدة النثر وبين الشعر عموما وهذه دعوة تحتاج الى وقفة نقدية متفحصة وجادة,خاصة وانه يؤكد ان هذا الجنس الادبي (تم انتاج اعظم نماذجه في بيئات وفلسفات غير عربية).
فيما يذهب الشاعر باسم الانصارفي شهادته(الصياد والطريدة) مع قصيدة النثر الى نهاية المشوار متماهيا مع وجود قصيدة النثر التي تعتمد السرد الذي يعينها على الاستمرارية(لانه سيساعد الشعر على الحد من غربته الى حد كبير فجميل ان يصبح السرد سيد النص الشعري ,وجميل ان يكون عمودها الفقري ) داعيا الى ردم الهوة –حسب رأيه- بين لغة الشاعر والقارئ ,ولاجل ردم الهوة(بين الشاعر والمتلقي ,برزت اللغة صاحبة القاموس اللغوي المخفف والقريب من وعي المتلقي وثقافته اللغوية الى حد كبير).
وثمة طروحات اخرى تحتاج الى اكثر من سؤال خاصة حين يقول(الشاعر الصياد يميل بقوة الى السؤال الوجودي والفلسفي في نصه الشعري ,بينما الشعر العربي يخاف ويخشى من هذا السؤال .القصيدة العربية جميلة احيانا ولكنها جبانة وغير جريئة)لا اعتقد ان هذا القول يصيب الهدف في تعريف اشتغال قصيدة النثر ,لان الجرأة متوفرة في كل اشكال الشعر ,اي ان الموضوع واحد والاشكال مختلفة,ولا تقتصر الجرأة على قصيدة النثر فقط.
فيما يربط الشاعر علي رياض في شهادته(تقول قصيدة النثر :ايها الشاعر هذا ليس وقت كتابتي) بين السياسة وبزوغ قصيدة النثر في اشارة الى قصيدة النثر تحمل بذرة ثورة لا تقتصر, على الشكل فقط بل بالمواضيع التي تتناولها.ويبدو ايضا مثل الشاعر باسم الانصار منحازا الى درجة الاحتدام مع قصيدة النثر حتى يصل الى قوله(ولم يتبق لقصيدة النثر التي تستوطن الانسان الا بلاغ اخير لمن لم تصله لوثة العالم الجديد ,تقول فيه : ايها الشاعرهذا ليس وقت الكتابة فعندما كان الوزن الموسيقي والمفردة المزخرفة والكذب ادوات الشعر القديم ,جئتك برسالة الجوهر بدل الشكل).ان الشاعر هنا يقطع كل صلة بين القديم والجديد وهو يبشر بقصيدة النثر باعتبارها شكلا ثوريا,ينتصر للضعفاء والمظلومين ,وهنا اختلط الشكل بالمضمون,مما يستدعي الحاجة لايضاح نقدي موضوعي اوسع.
ان الرؤيا النقدية لدى عمار المسعودي اقرب الى الدرس النقدي المتخصص,فيما تنحازشهادة الانصار ورياض مع قصيدة النثر بعاطفة عالية الصوت مع اختلاف تجربة الانصار التي سبقت رياض بمسافة زمنية.