مارلين كنعان
في كتابه الصادر حديثاً عن المنشورات الجامعية الفرنسية في باريس "ميتافيزيقا الأنتروبوسين: العقل والتدمير" (2024)، والذي يعد الجزء الثاني لكتاب صدر العام الماضي وحمل العنوان نفسه، يستمر فيولاك في تطوير أنثروبولوجيته السلبية، معيداً تعريف الفلسفة بوصفها "أناركيولوجيا" أي أركيولوجيا متحررة من مبدئها الميتافيزيقي (الأرخيا). هذا التعريف الجديد للفلسفة دفعه باتجاه البحث في الكامن والماضي، إذ مبدأ العماء والفوضى الذي أرست فوقه المؤسسات عبر التاريخ صروحها الفكرية. وها هو ذا يأخذ على عاتقه مهمة تفكيك هذه المؤسسات بغية الكشف عن الهاوية السحيقة التي تتربع فوقها، والتي عملت من دون كلل على إنكارها.
يحلل فيولاك فلسفياً إذاً كيف أن الإنسان، مع اكتشافه العقل وظهور اللوغوس، بدأ في إنكار الجزء الحيواني من طبيعته، لكن المغالاة في هذا الإنكار قاده شيئاً فشيئاً نحو السير على دروب تدمير الأنواع وإمكانية الحياة على الأرض، صائراً بمعنى ما قاتل نفسه، متحولاً من "أنثروبوس" بحسب المصطلح اليوناني الذي يعني الإنسان، إلى "نيغانثروبوس"، أي إلى كائن نافٍ لإنسانيته.
ففي هذا الكتاب الواقع في 472 صفحة يسلط الفيلسوف الضوء على الأزمات المتلاحقة التي تهدد شروط الحياة الإنسانية واستمراريتها، من خلال رسمه للوحة فلسفية قاتمة، تدفعنا للتبصر في الأحوال التي آل إليها الاجتماع البشري.
يبدأ فيولاك تحليلاته بالتأكيد أن المصطلح اليوناني "الأنثروبوسين" بات يشير إلى حقيقة أساسية قوامها أن قوة الإنسان قد أصبحت اليوم تدميرية، وأنه صار قادراً على التسبب بانقراض الحياة النباتية والحيوانية والإنسانية على الأرض. فالتلوث مثلاً جعل الهواء والماء والأرض مملوءين بالسموم، وتسبب بقتل بعض الكائنات الحية وبانقراض بعضها الآخر. أما التكنولوجيا فقد أثرت في صحة الإنسان وعقله، على رغم إعطائها له قدرات هائلة من خلال تطور الذكاء الاصطناعي وصناعة الأسلحة المدمرة التي ستؤدي حتماً لتدمير البشرية، بحيث أمكن الحديث عن "اللوغوسين"، أو موت اللوغوس و"الكابيتالوسين" أو موت الرأسمالية.
دوامة التدمير الذاتي
ليست هذه "اللوحة" السوداء التي يرسمها فيولاك نبوءة أخروية، بل هي حصيلة حقائق ودراسات علمية نشرتها مراكز أبحاث وأكدتها الأمم المتحدة في تقاريرها السنوية، وقد شددت كلها على أن البشرية دخلت في دوامة التدمير الذاتي. ولئن كانت ولادة الفلسفة قد ارتبطت منذ ظهورها بالأزمات والأسئلة أكثر من ارتباطها بالأجوبة، كان التفكر في "الوضع الحرج الذي آلت إليه الإنسانية"، برأي هذا الفيلسوف أكثر من ضروري.
ينطلق جان فيولاك من مقولة تؤكد أن المرحلة التي نمر بها اليوم تشكل "أعظم تحدٍ واجهته البشرية في تاريخها على الإطلاق"، ذلك أن هذا التحدي مزدوج: فمن ناحية هناك الأزمة البيئية ومن ناحية أخرى هناك الأزمة المرتبطة بظهور الذكاء الاصطناعي وأخطاره العديدة. بعبارة أوضح، يشدد فيولاك على أن الإنسانية تواجه اليوم أزمة مزدوجة تتناول ليس فقط شروط بقاء الحياة على الأرض، بل شروط بقاء قدرة الإنسان على إعمال عقله وفكره. وهذا بالضبط ما يجعل كتابه لافتاً، لا سيما حين يدرس العلاقة بين هاتين الأزمتين.
تقول أطروحة فيولاك إن الإنسان الذي حدده أرسطو بعقله كائن قادر على التعالي عن غرائزه وعواطفه وعلى تجاوز سائر الكائنات، ولو تعثر في مسراه أحياناً، قد أصبح الآن كائناً مجرداً من إنسانيته. فليس هو هذا "الحيوان المنفصل عن حيوانيته" والمعرض عن طبيعته البيولوجية على حد تعبير نيتشه فحسب، بل هو الآن هذا الكائن الذي جعل من مبدأ العقل مبدأ موته. بعبارة أخرى، هذا "الحيوان العاقل" الذي أعلى من رتبة الوعي أو العقل واعتبره مناط التكليف وأساس المسؤولية والجزاء وأهم محدد للإنسان، الذي بوسعه، عكس الكائنات الحية الأخرى، التفكير المنظم والتعبير عن فكره باللغة والمنطق، قد فوض اليوم أجهزة الكمبيوتر التفكير بدلاً منه، وسلم زمام أمره وثقافته ولغته وذاكرته للآلة، مختزلاً "اللوغوس"، وهو جوهره وكينونته، ببرامج معلوماتية تقطع صلته بجوهره، ولعلها ستقوده حتماً إلى الانقراض، ذلك أنه كلما أمعن الإنسان في الاتكال على الآلة وإضاءة شاشاتها الذكية، انطفأ عقله وتآكلت إنسانيته وزادت مشكلاته البيئية. هذا الارتباط الأساس بين الأزمة البيئية وأزمة العقل الذي يشدد عليه فيولاك في إطار نقده للنظام العالمي الرأسمالي الذي سلب الإنسان علاقته السليمة بالموارد الطبيعية، ينبهنا إلى أن الصراع لم يعد اليوم صراعاً طبقياً وعلاقات اجتماعية غير متكافئة، بل اتخذ صورة من صور "اللوغوس الآلي"، منتجاً قيمة طيفية منفصلة عن الحياة، أصبح البشر فيها أشبه بكائنات آلية انقلبت على جوهرها ليس فقط على مستوى إعادة الاعتبار للأبعاد اللاعقلية والرغبات والعواطف والغرائز، بل على مستوى إنزال العقل من مقامه وتحويله إلى مجرد كينونة هامشية.
الأزمة المزدوجة
في مقاربة أشبه بالحفر أو التنقيب الأثري يعود جان فيولاك إلى جذور الأزمة المزدوجة التي تعانيها البشرية اليوم، فيتوقف عند فيثاغورس، وهو أول فيلسوف اعتبر العدد مقياساً لكل شيء، ولايبنتز، المنظر الأول للعقل المنظم mens ordinatrix، و"للميكانيكية" و"العصر السيبراني"، الذي تجسد أعماله القدرة على التجريد كما تتبين في الميتافيزيقا الغربية منذ بداياتها الأفلاطونية، والروبوت "شات جي بي تي" وقدراته على التحدث مع البشر وفهمه للأسئلة التي يطرحونها والإجابة عنها، فضلاً عن البرمجة ومعالجة البيانات وتطوير استراتيجيات الأعمال، وعلوم الذرة التي لا تنفصل في تطبيقاتها عن "الحرب ضد العالم" التي تحدث عنها ميشيل سير، مشيراً إلى الكارثة الحتمية التي بدأت ملامحها تلوح في الأفق، داقاً ناقوس الخطر، معلناً بدء زمن موت الإنسان الذي تحدث عنه فرويد بسبب انتصار نوازع الموت على نوازع الحياة في انقلاب جذري ترتسم ملامحه في اللحظة المعاصرة. وبغية فهم أفضل لأطروحة الكتاب، يقول فيولاك إن القدرة على الحفظ والتحليل والتأمل والتفكير والمراقبة والرصد والحساب واتخاذ القرارات والاستشراف والتخطيط والتخيل والتأليف والكتابة والتحدث وغيرها من السمات الخاصة بالبشر تنقل اليوم إلى الآلة.
مهرجان تورونتو السينمائي منافس قوي في "معركة الأوسكار"
بغداد – وكالات
انطلق مهرجان تورونتو السينمائي الدولي بعرض أول لفيلم "ناتكراكرز" Nutcrackers، من بطولة بن ستيلر في أول عمل له منذ سبع سنوات، فيما شهد افتتاح هذا المهرجان الذي يُعتبر الأهم في أميركا الشمالية حضوراً لمتظاهرين مؤيدين للفلسطينيين.
ففيما كان المدير العام للمهرجان كامرون بيلي يلقي كلمة افتتاحية على خشبة مسرح "برينسس أوف ويلز"، كان أربعة متظاهرين يرددون شعارات ضد راعي المهرجان "البنك الملكي الكندي"، إذ سبق أن تعرّض المصرف لانتقادات بسبب استثماره في شركات مرتبطة بإسرائيل التي تدور حرب منذ نحو 11 شهراً بينها وبين حركة "حماس" الفلسطينية في قطاع غزة. وما لبث عناصر حفظ الأمن أن اقتادوا المتظاهرين إلى الخارج، ما أتاح عرض الفيلم.
ويجمع المهرجان في هذه الدورة كوكبة من أبرز نجوم هوليوود، ويوفّر برنامجاً غنياً يضم عدداً من الأفلام التي يُتوقع أن تنافس على جوائز الأوسكار، والأشرطة الوثائقية في شأن مواضيع مطروحة في الوقت الراهن. ومع أن قائمة الأفلام في 2023 كانت زاخرة بالنجوم، فإن السجادة الحمراء افتقدتهم، لكنّ أكبر مدينة في كندا ستشهد هذه السنة إطلالات لجنيفر لوبيز وأنجلينا جولي وإلتون جون وبروس سبرينغستين وسلمى حايك وكايت بلانشيت ونيكول كيدمان وسواهم.
وأعرب المدير العام لمهرجان تورونتو السينمائي الدولي كامرون بيلي في تصريح لوكالة الصحافة الفرنسية عن سعادته بأن "يقام المهرجان هذه السنة من دون عوائق العام الماضي". وذكّر بأن المهرجان "معروف بحماسة جمهوره، وتصل هذه الإثارة إلى ذروتها عندما يكون أكبر نجوم العالم حاضرين فيه".
وأعطى بن ستيلر الذي حظي بترحيب حار من الجمهور إشارة الانطلاق للمهرجان بفيلم "ناتكراكرز" من إخراج ديفيد غوردون غرين، ويجسّد فيه شخصية مطوّر عقاري في شيكاغو ينبغي عليه الانتقال إلى أوهايو لرعاية أبناء أخيه الأربعة الذين تيتموا بعد وفاة والديهم. وقال الممثل على السجادة الحمراء "عندما قرأت السيناريو الذي كان صادقاً جداً وغير ساخر (...) قلت لنفسي إنني أتعاطف مع هذا الرجل" الذي يسعى إلى التقرب من عائلته. وأضاف "أعتقد أنها رسالة مهمة، خصوصاً اليوم". ومن العروض العالمية الأولى المرتقبة أيضاً فيلم "إيدن" Eden للمخرج رون هوارد الذي تدور أحداثه في جزر غالاباغوس، وهو من بطولة آنّا دي أرماس وسيدني سويني.
أنجلينا جولي
وبعدما ألهبت أنجلينا جولي مهرجان البندقية بأدائها دور مغنية الأوبرا الشهيرة ماريا كالاس في فيلم عن سيرتها، ستكون النجمة حاضرة في تورونتو لمواكبة عرض "ويذاوت بلاد" Without Blood الذي تولت إخراجه، وهو من بطولة سلمى حايك ويتناول قصة عائلة وانتقام في مطلع القرن العشرين.
وتقام في المهرجان الكندي عروض لما مجمله 278 فيلماً، ومع أن بيلي لم يشأ الإفصاح عن تفضيلاته، وصف بـ "الشرف الخاص" استضافة العرض العالمي الأول لأحدث أعمال المخرج البريطاني مايك لي "هارد تروث" Hard Truths. ويحضر المغنيان إلتون جون وبروس سبرينغستين أيضاً لمواكبة عرض فيلمين وثائقيين جديدين عن سيرتيهما.
لكنهما لن يكونا نجمَي صناعة الموسيقى الوحيدين اللذين يكونان في تورونتو، بل يأتي كذلك كلّ من أندريا بوتشيلي وروبي وليامز وبول أنكا والمغني والمنتج ومصمم الأزياء فاريل وليامز، لمواكبة عروض أفلام تتناول حياتهم الشخصية والفنية.
وأوضح بيلي إن الطابع الموسيقي لعدد من الأفلام المدرجة في البرنامج لم يكن في البداية سوى مصادفة. وقال لوكالة الصحافة الفرنسية "كنا محاطين بأفلام مطبوعة بالموسيقى، فقررنا الإذعان". وتشمل الأعمال الوثائقية الأخرى التي يضمها البرنامج فيلم "ذي لاست ريبابليك" The Last Republic الذي يتناول قصة النائب الأميركي السابق آدم كينزينغر وانشقاقه عن حزبه، وفيلم "مِن أوف وور" Men of War الذي يتمحور على محاولة عام 2020 لإطاحة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو.
ويُعدُّ مهرجان تورونتو السينمائي الدولي، إلى جانب نظيرَيه في البندقية بإيطاليا وتيلورايد في الولايات المتحدة، أحد المهرجانات التي تشهد عروضاً أولى لأفلام تحظى بفرصة كبيرة لنيل جوائز الأوسكار، وفقاً للخبراء والمنتجين. لكن مهرجان تورونتو، المفتوحة عروضه للمشاهدين، يقدم أيضاً أفلاماً تستهدف جمهوراً واسعاً على غرار "ناتكراكرز" و"ذي وايلد روبوت" The Wild Robot، أحدث إنتاجات "دريمووركس أينيميشن" DreamWorks Animation.
وفي البرنامج أيضاً أفلام تتمحور على الرياضة مستوحاة من قصص حقيقية، منها فيلم "أنستوببل" Unstoppable الذي يتناول قصة مصارع بُترت ساقه اليمنى بينما كان يحلم بالاحتراف. ويؤدي جاريل جيروم دور هذا المصارع بينما تجسّد جنيفر لوبيز شخصية والدته. ويقام أيضاً العرض العالمي الأول لفيلم "ذي فاير إنسايد" The Fire Inside، عن قصة مسيرة الملاكِمة كلاريسا شيلدز إلى الميدالية الذهبية الأولمبية. ويستمر مهرجان تورونتو إلى 15 سبتمبر (أيلول)، على أن تُمنح في اختتامه جائزة اختيار الجمهور التي تشكّل مؤشراً مبكراً لجوائز الأوسكار.