عمر كوش
شكّل الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024 يومًا فارقًا في تاريخ سوريا، وفي حياة السوريين أيضًا، إذ شهد سقوط نظام الأسد، ودخول فصائل المعارضة العاصمة دمشق، وأعلن بداية مرحلة جديدة، يتطلع السوريون بأن تطوي صفحة النظام السابق، وتشرق فيها شمس الحرية والكرامة، وتضع أسس دولة القانون والمؤسسات.
ومع سقوط النظام وهروب بشار الأسد إلى موسكو، يطرح السؤال عن الخاسرين والرابحين من هذا السقوط على مختلف المستويات.
بدايةً، الرابح الأكبر هو الشعب السوري الذي عانى من الممارسات الاستبدادية لنظام الأسد، بنسختيه، الأب والابن، والتي دفعتهم إلى القيام بثورتهم في منتصف مارس/ آذار 2011. وشن في إثرها نظام الأسد حربًا شاملة ضد غالبية السوريين، استمرّت 13 عامًا، واستقدم فيها مليشيات "حزب الله" اللبناني والمليشيات الإيرانية، ثم طلب تدخل روسيا عسكريًا، حيث تدخلت بشكل مباشر في نهاية سبتمبر/ أيلول 2015.
وكان لهذا التدخل الدور الرئيس في حسم المعارك مع فصائل المعارضة لصالح نظام الأسد، إلى جانب الاتفاقات التي عقدتها روسيا مع تركيا من أجل تحقيق كل ذلك. وسبق أن اعترف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في 18 يناير/ كانون الثاني 2017، بأنه لولا التدخل العسكري الروسي لكان نظام الأسد قد سقط خلال أسبوعين أو ثلاثة.
لم يستكِن السوريون بالرغم من أن النظام استخدم كافة أنواع الأسلحة ضد الحاضنة الشعبية للثورة، بما فيها الأسلحة الكيميائية المحرمة دوليًا، وقتل أكثر من نصف مليون سوري، إلى جانب تشريد أكثر من نصف الشعب السوري ما بين لاجئ ونازح، فضلًا عن الدمار الذي أصاب مدنهم وبلداتهم وقراهم.
لذا فإن إسقاط نظام الأسد يعني انتصار السوريين، لأنه أفضى إلى خلاصهم من معاناتهم الطويلة، ومن المآسي التي ألمت بهم. وقد باتوا يتطلعون بعد سقوطه إلى أن تتحقق آمال ثورتهم في تشييد دولة، تتمتع بسيادة القانون والحريات والديمقراطية، وتنهض على التعددية والمواطنة واحترام حقوق الإنسان وسواها من القيم الحديثة.
لا شك في أن تحقيق آمال وتطلعات السوريين سيعتمد على الخطوات والمسار اللذين ستتخذهما القوى الجديدة التي أزاحت النظام السابق، وأسقطت رموزه. وقد قدمت في هذا الإطار إشارات إيجابية بعد سيطرتها على مدن؛ حلب، وحماة، وحمص، ودمشق، وسواها.
وليس صحيحًا أن بعض مكونات المجتمع السوري خسرت بإسقاط النظام، وخاصة العلويين، إذ ليس هناك أي توجه للثأر من العلويين بدعوى أنهم كانوا يشكلون حاضنة النظام السابق، لأن النظام اختطف هذه الطائفة، واستخدم أبناءها وقودًا من أجل استمراره في السلطة.
ويحسب للهيئة السياسية لعملية "ردع العدوان" أنها أرسلت إشارات مطمئنة لكافة مكونات المجتمع السوري من مسيحيين وعلويين ودروز وأكراد وأرمن وسواهم. كما لم تحدث أي حادثة تعدٍ على أي فرد بسبب انتمائه الإثني أو الطائفي.
ربما سيختلف وضع المناطق التي تسيطر عليها "وحدات حماية الشعب" الكردية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في مناطق شرقي الفرات، حيث إن نظام الأسد ساعدها في السيطرة على تلك المناطق، ولم يقم بأي عمل ضدها بالرغم من تأسيس إدارة ذاتية شبه انفصالية، وانخرطت مع التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة، والذي تقوده الولايات المتحدة.
حيث إنه بعد سقوط النظام لن يتمكن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ومخرجاته المدنية (مجلس سوريا الديمقراطي)، والعسكرية (وحدات حماية الشعب) من التمتع بنفس الوضع، خاصة أن هناك فصائل مقربة من تركيا بدأت بقتالهم في مناطق سيطرتهم في مناطق غربي الفرات، حيث فقدت وحدات حماية الشعب سيطرتها على بعض البلدات والقرى في ريف حلب الشرقي.
والأفضل لها أن تجري تفاهمات لكي تنضوي تحت جناح السلطة الجديدة، وتسهم في بناء سوريا الجديدة. ولا يعني ذلك نسيان أن المسألة الكردية في سوريا تفرض تحديًا على السلطة الجديدة، وهي بحاجة إلى المزيد من الحوار بين السوريين من أجل التوصل إلى حلول ضمن الهوية الوطنية السورية، ووحدة التراب السوري.
قد تكون تركيا من المستفيدين، أو لنقل الرابحين، من إسقاط نظام الأسد، ويمتلك هذا الكلام وجاهة بالنظر إلى أن النظام رفض كل دعوات الحوار والتقارب مع تركيا، ولم يتجاوب مع دعوات عقد لقاء بين الرئيس رجب طيب أردوغان وبشار الأسد. وكان يتشرط على خطوات التقارب، ويضع مختلف العراقيل أمامها، على الرغم من أن روسيا، وتحديدًا الرئيس فلاديمير بوتين، كان يدفع باتجاه التقارب، لكن الأخير تمنّع كثيرًا.
وعليه، فإن وصول فصائل المعارضة، التي كانت تتواجد في مناطق إدلب وريف حلب، يريح تركيا كثيرًا، لأنها ترتبط بعلاقات معها، بل إن فصائل الجيش الوطني ترتبط بتركيا بشكل كبير.
ولعل سقوط الأسد يتيح لتركيا أن تعزز خططها الجيوسياسية، خاصة فيما يخص مناطق شرقي نهر الفرات، التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، التي تشكل وحدات حماية الشعب المكون الأساسي فيها.
أما في الجانب الاقتصادي فإن تركيا ستكون المساهم الرئيس فيه، وبما يحقق لها عوائد كثيرة. أما إسرائيل فقد اعتبرت سيطرة المعارضة على دمشق "فرصة عظيمة"، إلا أنها "محفوفة بمخاطر كبيرة"، ولذلك قامت باحتلال المنطقة العازلة، وقصفت أكثر من مئة موقع للعتاد والأسلحة التي تركها الجيش السوري عشية سقوط النظام، ولعل ذلك يعكس تخوفها من أن تستخدم هذه الأسلحة لصد اعتداءاتها.
وإذا كان سقوط النظام يعود بفائدة كبيرة على إسرائيل، لأنه يبعد إيران عن سوريا، ويقطع شريان إمداد حزب الله اللبناني بالسلاح، الأمر الذي يسهم في إضعاف محور الممانعة والمقاومة الذي تقوده إيران في المنطقة، فليس خافيًا أن أكبر الخاسرين هما إيران وروسيا.
فإيران كانت حليفًا هامًا لنظام الأسد، ووقعت معه العديد من الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية، وشكل حلقة هامة في مشروعها التوسعي بالمنطقة، لذلك عملت كل ما بوسعها من أجل الدفاع عن النظام، وخاضت حربًا إلى جانبه ضد السوريين، حيث حشدت فيها مليشيات من جنسيات متعددة عراقية وأفغانية وباكستانية وسواها.
وفي إثر انهيار قوات النظام أمام زحف فصائل "ردع العدوان"، حاولت إيران أن تدفع فصائل من الحشد الشعبي في العراق كي تدخل إلى سوريا وتدافع عن النظام، لكنها فشلت.
ولم يرَ ساسة إيران في المعارضين السوريين لنظام الأسد سوى مجموعات من الإرهابيين والتكفيريين، والمرة الأولى التي تحدثت فيها عن وجود معارضة سوريّة هي بعد سقوط النظام. أما روسيا فعلاقتها مع نظام الأسد واسعة ومديدة، وتعود إلى فترة الاتحاد السوفياتي السابق. وحين اندلعت الثورة وقفت دون تردد إلى جانب الأسد، واعتبرت كل من يعارضه إرهابيًا.
تواجه روسيا مع سقوط النظام معضلة خسارة قواعدها العسكرية في حميميم وفي طرطوس، ما يعني أن المرجح هو أن تفقد إطلالتها على البحر المتوسط. ويزيد في تعقيد علاقاتها مع القوى الجديدة الحاكمة في سوريا أنها استقبلت بشار الأسد وعائلته. وليس واردًا أن تسلّمه للسلطات السورية الجديدة من أجل محاكمته؛ لذلك لن تكون علاقة موسكو مع سوريا الجديدة طبيعية.
بصرف النظر عن عدد الخاسرين والرابحين من سقوط نظام الأسد، إلا أن الرابح الأكبر هو الشعب السوري الذي تمكن من إسقاط نظام مستبد، وذلك على الرغم من الدعم والإسناد الذي كان يتلقاه من حلفائه، ولا شك في أن أكثر من عامل داخلي وخارجي وقف وراء انهياره السريع ثم سقوطه. ويقدم سقوطه درسًا للأنظمة المستبدة، لكنه يمنح أملًا كبيرًا للشعوب الطامحة للخلاص من الطغاة والمستبدّين.