ميلاد المسرح من الإغريق إلى الحداثة
17-تموز-2023
إبراهيم العريس
هناك سؤال لا يزال يشغل أذهاناً عديدة منذ أزمنة بعيدة وربما منذ أزمنة عدة تعود إلى قرون قبل الميلاد ويتعلق تحديداً بمعرفة تلك الظروف التي أدت إلى ولادة واحد من أول الفنون التي عرفتها الإنسانية في تاريخها. وتحديداً هنا فن المسرح ونشدد على المضاف والمضاف إليه عن قصد.
والسؤال لا يتعلق لا بولادة الفن في حد ذاته ولا بولادة المسرح الذي قد يكون ولد تلقائياً مع ولادة المجتمعات نفسها وبدء ممارستها تلك اللقاءات المسائية بعد تعب النهار في الصيد أو في غيره ما يوجب راحة يتحلق فيها الساهرون من حول فرد ربما يكون مميزاً بينهم يروح يحكي لهم حكايات أو يسخر من جيرانه أو يروي لهم حكايات أسطورية، في فرجة لم تكن لتحمل بداية طابعاً فنياً ممنهجاً.
فإذا بالأمر يتمنهج تباعاً ليصبح لدينا ما يمكننا اعتباره "فن المسرح". ومن هنا ينبع السؤال الذي نتحدث عنه حول الولادة الأولى للمسرح كفن مستقل في ذاته يرتبط أكثر ما يرتبط بالشعر رديفه ورفيقه الدائم. وفي محاولة منا لطرح هذا السؤال الشامل إن لم يكن للعثور على جواب حاسم عليه، نتوقف عند طابعه (الفلسفي – العلمي)، لأن هذا الطابع يحمل جوهر السؤال نظراً لأن الفلسفة كعلم للمنهج هي مجموع الأسئلة التي لا ينفك الإنسان يطرحها على نفسه كما على زمنه.
من أفلاطون إلى أرسطو
منذ ظهور البدايات الأولى للفلسفة كنمط معرفي كانت هناك علاقة مرتبكة وتناحرية في الأغلب بين المنهج الذي تعرف فيه الفلسفة مشروعها النظري والقضايا التي تتناولها الدراما سواء كانت بدائية أو أكثر تطوراً، وفي الأقل كما كانت معروفة حتى ذلك الحين وغالباً في أشكالها البدائية.
صحيح أن أفلاطون الذي يعد أول حارس للفكر السياسي، حين يستنبط ويؤسس تاريخاً للصراع بين الشعر والفلسفة، يستبعد الدراما (كفن للفرجة)، من "جمهوريته" لأسباب أخلاقية ونفسية ومعرفية، ومع ذلك فإن التضارب بين انجذابه الخاص والواضح إلى الشعر ونبذه إياه على نطاق واسع أدى إلى ولادة مفارقة تقول إن "حتى أفلاطون كتب شعراً تراجيدياً قبل أن يمتطي صهوة الفلسفة". أما أن يكون أرسطو قد حاول أن يوفر الدراما لخدمة التربية والتنشئة، فأمر سمح للمسرح بتربية الشباب الذي يتلقى في الوقت نفسه تدريباً فلسفياً.
مع ذلك نعرف أن أرسطو أسهم بدوره في التقليل من شأن الدراما مستبعداً إياها عن طريق تطويره الفلسفة كنظام متميز وجدلي للمناظرة، وحتى من خلال إقراره بالمتعة الخالصة التي تتيحها التراجيديا، وبالتحديد في مجال طعنه في جدية تعليم المسرح.
أهمية متواصلة
ومن البين أن مثل هذين الفيلسوفين الكبيرين لا يدع لنا مجالاً للشك بالأهمية التي كانت للمسرح الإغريقي في زمنهما. أهمية جعلت كلاً منهما، وعلى طريقته، يشعر بخطر المسرح على الفلسفة، بل كذلك بأهمية دور المسرح في السياسة.
ومن البديهي هنا القول، إن المسرح ارتبط منذ وقت مبكر بالحياة السياسية والاجتماعية للمدينة اليونانية. فكان بالشكل الذي لا نزال نتعرف إليه حتى اليوم، واحداً من العناصر المؤسسة لما نسميه "المعجزة اليونانية".
ومن نافل القول هنا، إن المسرح الإغريقي القديم كان في جذور المسرح الغربي بصورة عامة. وقد نشأ أول الأمر في أثينا انطلاقاً من "المدائح" التي كانت تلقى على شرف الإله ديونيسيوس، وكانت أثينا هي التي أعطته اسمه "theatrov" المشتق من فعل يعني "المشاهدة" أو "الفرجة".
وكانت تلك الفرجة تقوم أول الأمر على "ممثل" فرد يتوسط الحلبة التي يجلس الجمهور المحتفل متحلقاً فيها من حوله، ويتلو المدائح لديونيسيوس، فيما الجمهور يردد معه ويتجاوب صاخباً وذلك لزمن طويل قبل ولادة النصوص التي بدأت تعد خارج الارتجال البدئي، فكانت فردية الإلقاء أول الأمر ثم على شكل حوارات تتوازى مع رقصات ومواكب وأغنيات همها تمجيد أبطال الإغريق.
من الفرد إلى الجماعة
وبعدما كان الممثل الفرد يقوم بتأدية عديد من الحوارات المتبادلة بنفسه، صار لا بد من وجود ممثلين متعددين يتبادلون تلك الحوارات بالتزامن بين الانفصال الذي راح يزداد يومها بين المعبد الذي كان مكان التجمع الأساس لتلك الاحتفاليات، وتلك الأماكن التي باتت تخصص لها.
ولنذكر هنا أن هذه التجديدات تتالت خلال القرن السادس قبل الميلاد ممهدة لتطورات أكثر جدية تمثلت في القرن التالي له بولادة النصوص المسرحية المعتمدة عل حبكات مستخلصة من الحروب الطروادية أو من الأساطير الأخرى. وهي نصوص سوف يصلنا بعض المتأخر منها لنكتشف مع مؤرخي المعجزة اليونانية ومؤرخي النظريات السياسية دورها المهم الذي ستلعبه في هذه، كما في التزامن مع ولادة الفلسفة، ولكن هنا في ظل تلك المسابقات التي راحت تقام لتكريس الكتاب وعملهم.
ولعل ما يجدر ذكره هنا هو أن المسرحية الأولى التي حفظها لنا التاريخ كانت مسرحية "الفرس" لإيسخيلوس، التي حقق بها الأخير الفوز في مسابقة العمل المسرحي الأفضل في عام (472 ق م).
النوعان معاً
كانت تلك إذاً لحظة الولادة "الثانية" الجذرية هذه المرة للمسرح الأفريقي، ونتحدث هنا عن التراجيديا والكوميديا معاً، حتى وإن كانت هناك فوارق بين النوعين. ولكن يمكننا هنا أن نحدد أن النوع الترجيدي ظهر أول الأمر عام (534 ق م) خلال ما يسمى الحقبة الأوليمبية الـ61، فيما كان الظهور الأول للنوع الكوميدي عام (486 ق م).
ولسوف يعرف النوع التراجيدي ازدهاره الكبير لفترة لن تزيد على 80 عاماً هي مرحلة ازدهار العمل والحكم السياسيين في أثينا "الديمقراطية"؛ بينما سيغطي النوع الكوميدي القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد.
ولئن كان من الصعب معرفة أسماء كل الكتاب الذين أسهموا في النوعين معاً رغم وجود سجلات تكاد تكون وافية، فإن قلة من المسرحيات وصلتنا بالفعل كاملة على الأقل. فهناك في جعبتنا الآن سبع مسرحيات لإسخيلوس ومثلها لسوفوكليس مقابل 18 مسرحية من كتابة يوريبديس. هذا في المجال التراجيدي، أما بالنسبة إلى الكوميديا فليس أمامنا سوى 11 مسرحية لأريستوفان وواحدة لبندار الذي اشتهر على أي حال بأنه كان غزير الإنتاج.
بدايات النقد السياسي - الاجتماعي
وكما لمحنا أعلاه نعود هنا إلى الجذور التي أنتجت هذه المسرحيات وعشرات غيرها لم يصلنا منها حتى ولا عناوينها. فسواء كانت النصوص تراجيدية أو كوميدية فإن أصولها تعود إلى تلك الملاحم التي كانت تتلى في الأعياد الدينية ثم الدنيوية، كما في احتفالات الموتى والتأبين والتضرع إضافة إلى عروض طقوسية راحت تتعاظم شأناً، عقداً بعد عقد وتتواكب مع تطور الفنون التزيينية وفنون التبرج وتصميم الأقنعة.
أما كلمة "تراغيديا" فيبدو أنها غامضة الأصل حتى وإن كان ثمة من بين الباحثين من يربطها بكلمة "تراغكوس" المعبرة عن حيوان (تيس) كان تمثال له هو الجائزة التي تعطى لصاحب أفضل عمل "درامي" يقدم في الأعياد الديونيسية السنوية.
أما بالنسبة إلى كلمة "كوميديا" فالأغلب أنها تتأتى من "كوزموس" (الكون) كما من "كوكويدوي" التي تحيل إلى فعل "أنشد" في ترابط على الأرجح مع الأناشيد التي كانت تلقى احتفالاً بديونيسيوس نفسه كما بمواكبه السيارة التي يشتد فيها الصخب والمرح.
ولعل في مقدورنا هنا أن نتمعن في تفسير يتحدث عنه باحثون بالاستناد إلى تفسير لأرسطو فحواه أن كلمة كوميدي قد تكون متدرجة من كلمة "كوما" التي تعني النوم الطويل (الغيبوبة)، انطلاقاً من أنه يتعين على الكوميديا وعلى خطى الكوميديين الأوائل كما يفيدنا أرسطو، أن توقظ من غفلة النوم كل أولئك المسؤولين عن الحكم والأعيان لتنبيههم إلى ما نسوه من واجباتهم.
ولا شك أن هذا النوع من التنبيه الذي يرتبط بمفهومنا الحديث للنقد السياسي/الاجتماعي، لا يزال حتى اليوم على الأسلوب الذي كان عليه عند تلك البدايات، ما يضعنا أمام حقيقة تفيدنا بأن مسرح اليوم ومهما كانت تنويعاته وتياراته إنما هو صورة للتطور المتواصل الذي يعيشه فن المسرح منذ ما يزيد على أربع ألفيات ما يجعل فنون "الخشبة" من أطول الفنون عمرا حتى اليوم. ومنذ بداياتها الممنهجة الأولى.