(الحلقة السابعة)
د. شاكر الحاج مخلف*
الإنفراد بالنفس واعتزال الناس
- قال أبو بكر بن العربيِّ: كان أبو ذرٍّ زاهداً، ويرى النَّاس يتَّسعون في المراكب، والملابس حين وجدوا، فينكر ذلك عليهم ، ويريد تفريق جميع ذلك من بين أيديهم ؛ وهو غير لازمٍ ، فوقع بين أبي ذرٍّ ومعاوية كلامٌ بالشَّام ، فخرج إلى المدينة ، فاجتمع إليه النَّاس ، فجعل يسلك تلك الطُّرق، فقال له عثمان: لو اعتزلت. معناه: أنَّك على مذهبٍ لا يصلح لمخالطة النَّاس . ومن كان على طريقة أبي ذرٍّ فحاله يقتضي أن ينفرد بنفس ، أو يخالط النَّاس، ويسلم لكلِّ أحدٍ حاله ممَّا ليس بحرامٍ في الشَّريعة ، فخرج زاهداً فاضلاً، وترك جلَّةً فضلاء ، وكلٌّ على خيرٍ، وبركةٍ، وفضلٍ، وحال أبي ذرٍّ أفضل، ولا تمكن لجميع الخلق، فلو كانوا عليها، لهلكوا؛ فسبحان مرتِّب المنازل!وقال ابن العربيِّ: ووقع بين أبي الدَّرداء ومعاوية كلامٌ ، وكان أبو الدَّرداء زاهداً، فاضلاً، قاضياً لهم (في الشَّام) ، فلمَّا اشتدَّ في الحقِّ ، وأخرج طريقة عمر بن الخطَّاب في قومٍ لم يحتملوها ؛ عزلوه ، فخرج إلى المدينة ، وهذه كلُّها مصالح لا تقدح في الدِّين، ولا تؤثِّر في منزلة أحدٍ من المسلمين بحالٍ، وأبو الدَّرداء، وأبو ذرٍّ بريئان من كلِّ عيبٍ، ولم يقل أحدٌ من الصَّحابة لأبي ذرٍّ: إنه أخطأ في رأيه؛ لأنَّه مذهب محمودٌ لمن يقدر عليه، الخليفة طلب منه، أن يكفَّ عن الإنكار على النَّاس ما هم فيه من المتاع الحلال…، و نهى أبا ذرٍّ عن الفتيا مطلقاً، لم تصل روايته إلى درجة الخبر الصَّحيح. والّذي صحَّ عند البخاريِّ: أن أبا ذرٍّ قال: لو وضعتم الصَّمصامة على هذه ـ وأشار إلى قفاه ـ ثم ظننت أنِّي أُنفذُ كلمةً سمعتها من النَّبيّ (صلى الله عليه وسلم) قبل أن تجيزوا عليَّ؛ لأنفذتها. وهناك روايات ترى ان الخليفة نهاه عن الفتيا مطلقاً؛ لاختار له مكاناً لا يرى فيه النَّاس أو حبسه في المدينة ، أو منعه دخول المدينة ، ولكن أذن له بالنُّزول في منزلٍ يكثر مرور النَّاس به ؛ لأنَّ الرَّبذة كانت منزلاً من منازل حجاج العراق ، وكان أبو ذرٍّ يتعاهد المدينة، يصلِّي في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وقال له عثمان : لو تنحَّيت فكنت قريباً ، والرَّبذة ليست بعيدةً عن المدينة ، وكان يجاورها حِمَى الرَّبذة ؛ الّذي ترعى به إبل الصَّدقة ، ولذلك يروى : أنَّ عثمان أقطعه صرمةً من إبل الصَّدقة ، وأعطاه مملوكين ، وأجرى عليه رزقاً. وكانت الرَّبذة أحسن المنازل في طريق مكَّة ....
رأي للحسن البصري
لمَّا سأل غالب القطَّان، الحسن البصريَّ: عثمان أخرج أبا ذرٍّ؟ قال الحسن: لا، معاذ الله! وكلُّ ما روي في أنَّ عثمان نفاه إلى الرَّبذة فإنَّه ضعيفُ الإسناد، لا يخلو من علَّةٍ قادحةٍ ، مع ما في متنه من نكارةٍ لمخالفته للمرويَّات الصَّحيحة، والحسنة، الّتي تبيِّن أنَّ أبا ذرٍّ استأذن للخروج إلى الرَّبَذَة، وأنَّ عثمان أذن له ، بل إنَّ عثمان أرسل يطلبه من الشَّام ، ليجاوره بالمدينة ، فقد قال له عندما قدم من الشَّام: إنا أرسلنا إليك لخيرٍ، لتجاورنا بالمدينة. وقال له أيضاً: كن عندي ، تغدو عليك ، وتروح اللِّقاح ، أفمن يقول ذلك له ينفيه؟!الطَّبريُّ أفاد ان الأخبار الّتي تفيد اعتزال أبي ذرٍّ من تلقاء نفسه صحيحة ،. إنَّ الحقيقة التَّاريخية تقول: إنَّ أبا ذرٍّ رضي الله عنه، استأذن الخليفة ، فأذن له ، ولكنَّ المصادر الكثيرة تثبت انه تعرض للنفي مرة إلى الشام وثانية إلى الربذة ، مضى الزَّمان ، وأقام أبو ذرٍّ في الرَّبذة ، فلمَّا حضرته الوفاة أوصى امرأته ، وغلامه: إذا متُّ ؛ فاغسلاني وكفِّناني ، ثمَّ احملاني فضعاني على قارعة الطَّريق ، فأوَّل ركبٍ يمرُّون بكم ، فقولوا: هذا أبو ذرٍّ ، فعلوا به كذلك ، فطلع ركبٌ فما علموا به حتَّى كادت ركائبهم تطأ سريره ، فإذا ابن مسعودٍ في رهطٍ من أهل الكوفة ، فقال: ما هذا؟ فقيل: جنازة أبي ذرٍّ، فاستهلَّ ابن مسعود يبكي ، فقال: صدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «يرحم الله أبا ذرٍّ! يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده».
روايات أخرى وكلمة وداع
وثمة رواية أخرى اعتمدتها الكثير من المصادر تؤكد الآتي : تحاماه الناس ولم يخرجوا لتوديعه خوفا من بطش عثمان ، الّا علي بن أبي طالب عليه السلام وأخاه عقيل والحسن والحسين وعمار والمقداد بن الأسود وعبد الله بن عباس ، ذهب أبو ذر الى الربذة مُكرَها منفيا، إذ ليس له فيها من ولي ولا نصير الا الله اللطيف الخبير.
كلمة علي بن أبي طالب عليه السلام في وداع أبي ذر
ورد في نهج البلاغة للإمام علي ما يلي: "يا أبا ذر، إنك غضبت لله فارجُ من غضبت له ، إن القوم خافوك على دنياهم ، وخفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه ، واهرب منهم بما خفتهم عليه ، فما أحوجهم إلى ما منعتهم ، وما أغناك عما منعوك ، وستعلم من الرابح غداً، والأكثر حُسَّداً، ولو أن السماوات والأرضين كانتا على عبد رتقا ثم اتقى الله لجعل الله له منهما مخرجا، ولا يؤنسنك إلا الحق ، ولا يوحشنك إلا الباطل ، فلو قبلت دنياهم لأحبوك ، ولو قرضت منها لأمنوك ..."
قضى أبو ذر رضوان الله تعالى عليه في الربذة أياما شاقة ، تخللتها الغربة والوحدة ، وشظف العيش وقلة الناصر ووحشة الدار و سوء الجار، لم يكن معه الاّ زوجته وغلامه بن إسحاق ، لقد توصّل أبو ذر إلى هذه المنزلة الرفيعة لأنّه كان يتابع النبيّ الأعظم قولاً وعملاً. ولا شكّ أنّ هذه المتابعة تعدّ إنجازاً صعباً؛ ذلك لأنّ الإنسان ـ في هذه الحالة ـ سيكون بحاجة إلى توفير عناصر القوّة ليتسنّى له مواجهة شيطانه الداخلي (النفسي) والخارجي -وعندما مرض أبو ذر أوصى إلى عليٍّ ابن أبي طالب، فقال بعض من يعوده: لو أوصيت إلى أميرا لمؤمنين عثمان كان أجمل لوصيتك من عليّ... قال: والله لقد أوصيت إلى أمير المؤمنين حق أمير المؤمنين، والله إنّه للربيع الذي يسكن إليه ولو قد فارقكم ، لقد أنكرتم الناس وأنكرتم الأرض، فقالوا له: يا أبا ذر إنّا لنعلم أن أحبّهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله أحبهم إليك، قال: أجل، فقالوا له: فأيّهم أحب إليك؟ قال: هذا الشيخ المظلوم المضطهد حقه، يقصد " عليّ بن أبي طالب " ...
رثاء وآخر الوصايا
ولمّا مات ذر بن أبي ذر وقف أبو ذر على قبره ومسحه بيده ثم قال: رحمك الله يا ذر، والله إن كنت بي باراً ولقد قبضت وإنّي عنك لراض، أما والله ما بين فقدك وما عليّ من غضاضة، وما لي إلى سوى الله من حاجة، ولولا هول المطلع لسرني أن أكون مكانك ، ولقد شغلني الحذر لك عن الحذر عليك ، والله ما بكيت لك، ولكن بكيت عليك ، فليت شعري ماذا قلت وماذا قيل لك؟ اللهمّ إنّي قد وهبت له ما افترضت عليه من حقي فهب له ما افترضت عليه من حقك ، فأنت أحقّ بالحقّ منّي ، فلما حضرته الوفاة قال لامرأته: اذبحي شاة من غنمك فاصنعيها فإذا نضجت فاقعدي على قارعة الطريق ، فأول ركب تريهم قولي: يا عباد الله المسلمين هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله قد قضى نحبه ولقي ربّه فأعينوني عليه وأجيبوه ، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله أخبره أنّه يموت في أرض غربة وأنّه يلي غسله ودفنه والصلاة عليّه رجال من أمتي صالحون ...
قال " محمد بن علقمة بن الأسود النخعي " خرجت في رهط أريد الحج منهم مالك بن الحارث الأشتر، وعبدالله بن الفضل التميمي ، ورفاعة بن شداد البجلي حتى قدمنا الربذة ، فإذا امرأة على قارعة الطريق تقول: يا عباد الله المسلمين هو أبو ذر صاحب رسول الله قد هلك غريباً ليس له أحد يعينني عليه ، فنظر بعضنا إلى بعض وحمدنا الله على ما ساق إلينا واسترجعنا على عظم المصيبة ، ثم أقبلنا معها فجهّزناه وتنافسنا في كفنه حتى خرج من بيننا بالسواء ، وتعاونا على غسله حتى فرغنا منه ، ثم قدمنا مالك الأشتر فصلى عليه ، ودفناه فقام الأشتر على قبره ثم قال: ( اللهم هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله عبدك في العابدين ، وجاهد فيك المشركين ، لم يغيِّر ولم يبدّل لكنّه رأى منكراً فغيّره بلسانه وقلبه حتى جُفي ونُفي وحُرم واحتقر ثم مات وحيداً غريباً... اللهم فاقصم من حرمه ونفاه من مهاجره ، حرم الله وحرم رسول الله... )
وروي أنّ عبدالله بن مسعود لمّا بلغه خبر نفي أبي ذر إلى الربذة وهو إذ ذاك بالكوفة، قال في خطبة بمحفل من أهل الكوفة: فهل سمعتم قول الله تعالى: ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم.. يعرض بذلك بعثمان، فكتب الوليد بذلك لعثمان فأشخصه من الكوفة ، فلما دخل مسجد النبي صلى الله عليه وآله أمر عثمان غلاماً له أسود فدفع ابن مسعود وأخرجه من المسجد ورمى به الأرض ، وأمر بإحراق مصحفه ، وجعل منزله حبسه ، وحبس عنه عطاءه أربع سنين إلى أن مات ...
عن أبي ذر رحمة الله عليه قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله في مرضه الذي قبض فيه ، فقال: ادن مني يا أباذر أستند إليك فدنوت منه، فاستند إلى صدري إلى أن دخل علي صلوات الله عليه فقال لي: قم يا أباذر فان عليا أحق بهذا منك ، فجلس علي عليه السلام فاستند إلى صدره ثم قال لي: ههنا بين يدي فجلست بين يديه ، فقال لي اعقد بيدك من ختم له بشهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة ، ومن ختم له بحجة دخل الجنة ، ومن ختم له بعمرة دخل الجنة ومن ختم له بطعام مسكين دخل الجنة ، ومن ختم له بجهاد في سبيل الله ولو قدر فواق الناقة دخل الجنة ....
النبي يصف الحمى
عن علي بن أبي طالب قال: وعك ابـو ذر رضي الله عنه فأتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقلت: يا رسول اللـه ان ابا ذر قد وعك فقال: امض بنا اليه نعـوده فمضينا اليـه جميعا، فلما جلسنا قال رسول الله (صلى اللـه عليـه و آلـه): كيف اصبحت يا ابا ذر • قال: اصبحت وعكا يا رسول الله، فقال: اصبحت في روضـة من رياض الجنـة، قـد انغمست في ماء الحيوان، و قد غفـر اللـه لك ما يقـدح من دينك، فأبشـر يا ابا ذر. وقال (صلى الله عليـه وآلـه): الحمى حظ كل مـؤمن من النار، الحمى من فيح جهنم، الحمى رائد الموت وعن حـذيفـة ابن أسيـد، قال سمعت أبا ذر، يقول وهو متعلق بحلقة باب الكعبـة ، أنا جنـدب بن جنادة لمن عرفني وأنا أبو ذر لمن لم يعرفني، اني سمعت رسول الله صلى الله عليـه وآلـه وهـو يقول: - وهو آخـذ بيـد عليبن أبي طالب : هـذا أول من آمن بي وأول من يصافحني يوم القيامة، وهو فاروق هـذه الامـة يفـرق بين الحق والباطل ، وهو يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الظلمة، وهـو الصـديق الاكبـر، وهـو خليفتي من بعدي ، يعسـوب المؤمنين والمال يعسوب الظلمة " ... عن داود بن أبي عوف عن معاوية بن ثعلبة قال: دخلنا على أبي ذر رضي الله عنه نعوده في مرضه الذي مات فيه، فقلنا: اوص يا أبا ذر، قال: قد أوصيت، قلنا: إلى من؟ قال: إلى أمير المؤمنين، قال: قلنا: عثمان؟ قال: لا، ولكن إلى أمير المؤمنين حقا أمير المؤمنين والله إنه لربي الارض وإنه لرباني هذه الامة، ولو قد فقدتموه لأنكرتم الارض ومنه عليها ، عن أبي ذر الغفاري قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه واله يقبل الحسين بن علي وهو يقول: من أحب الحسن والحسين وذريتهما مخلصا لم تلفح النار وجهه، ولو كانت ذنوبه بعدد رمل عالج إلا أن يكون ذنبا يخرجه من الايمان.
كلمات ثلاث
سمعت رسول الله (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) يقول لعلي (عليهِ السَّلام) كلمات ثلاث، لأن تكون لي واحدة منهنَّ أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها، سمعته يقول: اللهم أعنه واستعن به، اللهم انصره وانتصر به، فإنه عبدك وأخو رسولك، ثُمَّ قال أبو ذر رحمة الله عليه: أشهد لعلي بالولاء والإخاء والوصية،
إنَّه سيكون بعدي فتنة فلا بد منها، فعليكم بكتاب الله والشيخ علي بن أبي طالب فالزموهما، فأشهد على رسول الله أني سمعته وهو يقول: عليٌّ أوَّل من آمن بي، وأوَّل من صدَّقني، وأوَّل من يصافحني يوم القيامة، وهو الصِّدِّيق الأكبر، وهو فاروق هذه الأمة، يفرِّق بين الحق والباطل، وهو يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب المنافقين. " ويذكر قولا آخر "
سمعت رسول الله (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) يقول: اجعلوا أهل بيتي منكم مكان الرأس من الجسد، ومكان العينين من الرأس ، فإن الجسد لا يهتدي إلا بالرأس، ولا يهتدي الرأس إلا بالعينين .. أيضا قال " سمعت رسول الله (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) يقول:
( إني خلَّفتُ فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض، ألا وإنَّ مثَلهما فيكم كسفينة نوح ، من ركب فيها نجا، ومن تخلَّف عنها غرق ) ثُمَّ قال: قم يا أبا الحسن فضع خمسك في خمسي (يعني: كفك في كفي) فإنَّ الله اختارني وإياك من شجرة أنا أصلها وأنت فرعها فمن قطع فرعها، أكبَّه الله على وجهه في النار ، ثُمَّ قال: عليٌّ سيد المرسلين وإمام المتقين يقتل الناكثين والمارقين والجاحدين ، عليٌّ مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنَّه لا نبيَّ بعدي "
( يتبع )