حميدة ابو هميلة
على ما يبدو أن تعبير "الزفة الكدابة" الدارج في العامية المصرية، ويشير إلى صنع ضجة من لا شيء، بات ينطبق على بعض الأعراس التي من المفترض أنها الزفة الأكثر واقعية وصدقاً، إذ باتت المواقف التمثيلية المصطنعة متكررة في مثل هذه الحفلات، مما يجعل من حدث مميز وسعيد باعثاً على الغرابة، وكأن هناك تحولاً ما يجري في طريقه أن يقلب حال الأفراح المصرية رأساً على عقب.
المؤكد أن الـ"سوشيال ميديا" كانت سبباً رئيساً في خروج بعض تلك التصرفات للعلن، باعتبارها مرجعية لكثيرين، مما يفجّر أعداد المشاركات والتعليقات والتحليلات، لكن الملاحظ أن هناك من يبتكرون تصرفات جديدة أو مستقاة من حفلات شبيهة لجذب الأنظار، فعلى سبيل المثال صور بعض المشاحنات القاسية التي حدثت بصورة تلقائية في عديد من حفلات الزفاف، ووصل بعضها إلى الضرب وتبادل السباب.
وبعد أن تربع أبطال تلك الفيديوهات على عرش التريند لبعض الوقت من دون قصد، كانت المفاجأة أن هناك من حاول منافستهم وإهداء عروسه "تريند" ومفاجأة على ما يبدو أنها لم تكن سارة أو في الأقل جلبت لهما التعليقات السلبية والمسيئة، إذ جرى تداول فيديوهات عدة لعرسان يستفزون زوجاتهم خلال الحفلة كأن يترك أحدهم عروسه ويذهب للتقدم إلى صديقة عمرها، مما يثير غضب الأولى وتتطور الأمور إلى الاعتداء البدني، ليتضح في النهاية أن الحكاية كلها كانت عبارة عن مقلب يهدف صاحبه إلى إضفاء المرح على الحدث، فهل تغيرت سلوكيات الشخصية المصرية في حفلات الزفاف بالفعل، أم أن هذه حوادث عارضة ونادرة؟
أعراس تخطب ود السوشيال ميديا
مقاطع الأفراح المصرية على مواقع التواصل الاجتماعي كانت في البداية تقتصر على لقطة عفوية مؤثرة لوالدة العريس أو العروس، أو مشهد لبقاء شقيقة أحدهما تأثراً بالفرحة، أو رقصة طريفة للأب، أو حتى تقاليع بسيطة مضحكة، مثل الدخول إلى قاعة الزفاف بطريقة غير تقليدية ومبهجة، أو إلقاء باقة الزهور بصورة كوميدية، أو الرقص مع العروس والحضور بطريقة استعراضية احترافية، لكن أخيراً "خرجت الأمور عن السيطرة" وفق ما تقول أستاذة علم النفس جيهان النمرسي.
النمرسي أشارت إلى أن "بعض الأفكار كانت جيدة بالفعل وتكسر الرتابة، لكن ما يحدث حالياً هو انسلاخ كامل عن طبيعة تقاليد وعادات الأفراح المصرية، والنتيجة حفلة زفاف موجهة لجمهور السوشيال ميديا الذي يبحث عن مقاطع تحمل فرقعات، وكأنه زفاف مسخ بلا هوية".
تعود أستاذة علم النفس لتشدد على أن "هذه الأوصاف لا تنطبق على الجميع، فهناك من لا يزال يتمسك بطبيعة هذا الحدث المهم وما يرافقه من بناء حياة جديدة، ويكتفون بإعداد مفاجآت سعيدة للمعازيم والعرسان، لكن في المقابل التريند يكون من نصيب أصحاب التصرفات شديدة الغرابة، والحقيقة أن المجتمع المصري بالفعل يتغير، بالتالي تتغير سلوكياته ومفاهيمه".
ومن أبرز أسباب انتشار تلك الظاهرة، بحسب النمرسي، "تدني المستويات الاقتصادية، إذ يسعى بعضهم لكسب الشهرة والمال عن طريق الفيديوهات الصادمة في حفلات الزفاف، ويستغلون مناسبة سعيدة وشخصية مثل هذه لصنع مقالب مبالغ فيها أو تقديم هدايا غريبة، وكلما زاد الفقر والجهل أفرزت البيئة تصرفات من هذه النوعية، إذ يهدف أصحابها إلى اتباع نفس الخطوات التي قام بها غيرهم وحققوا من خلالها الثراء، وبالطبع مع مزايدة أكبر، لتحقيق مكسب سريع وسهل، حتى لو وصل الأمر إلى إهانة واحتقار النفس والغير".
وتشير أستاذة علم النفس إلى أن "بعض هذه السلوكيات تنبع من عائلات ميسورة وثرية لكنهم لديهم شهوة الشهرة والتربع على التريند والسيطرة على العناوين والمقاطع الأكثر رواجاً على (تيك توك) بالتالي يدخلون هذه الدائرة أيضاً رغم أنهم ليسوا بحاجة إلى ابتذال أنفسهم من أجل المال".
وتضيف أنه "بدلاً من أن يحتفظ الطرفان بذكرى زواج سعيدة تتعلق بموقف عفوي طريف أو تصرف عاطفي رومانسي، أو مدى فخامة الهدايا التي تلقوها أو حتى شكل قالب الكيك وجمال باقة الزهور، سيحتفظون بتأثيرات تريند عرضهم للسخرية والاتهام بالمتاجرة بحياتهم الشخصية".
سلوكيات مشوهة
شهدت عادات الأفراح المصرية تغييرات متوالية على مر العصور، لكنها كانت جميعها تصب في تفاصيل بعيدة تماماً من جوهرها، كأن يبتعد الناس عن إقامة حفلات زفافهم في البيوت الضيقة أو الأسطح، والاستعاضة عنها بقاعات مجهزة ومخصصة، والاستعانة بأجهزة الصوت الحديثة لبث الأغنيات المبهجة، بدلاً من أداء أهل البيت للمهمة بطريقة بدائية، وإضافة عناصر ديكورية حديثة، كذلك اللجوء لخبراء المكياج والتجميل الذين يزينون العروس والعريس، وجلسات التصوير وخلافه.
غير أنه في الفترة الأخيرة أصبح هناك ما يشبه السباق في الإتيان بتصرفات غير مألوفة، فأحدهم اختار أن يدخل مع عروسه إلى قاعة الزفاف على وقع رقصة صاخبة عكس الشائع، مع ارتداء العروس حذاء رياضياً يسمح لها بالحركة وتأدية تلك الاستعراضات، وهناك آخر قرر أن يدخل مع عروسه للضيوف على رافعة شاحنة رفعتهما إلى أعلى مما سبب صدمة للمعازيم وعرض الزوجين والحضور للخطر.
كذلك من ضمن العادات الجديدة أيضاً أن يقدم أحد العروسين أو كلاهما أو أحد المقربين منهما أغنية تألف وتلحن خصيصاً لهذه المناسبة، وكأنهم نجوم طرب محترفون، وهي تقليعة مستلهمة من الأعمال الفنية، مثل غيرها من التقاليع المستوحاة من أعمال أجنبية، كأن يلقى أحد أفراد العائلة أو حتى أحد العروسين كلمة مطولة يعبّر فيها عن سعادته وامتنانه ويوجه كلماته لأسرته وأيضاً يقدم بعض التوصيات، إذ تبدو بعض الكلمات المعدة سلفاً مؤثرة وإنسانية لكنها أيضاً تخرج عن الهدف منها لتثير سخرية المعلقين بعد أن يحرص أصحاب الحدث على نشرها للمباهاة بها عبر منصات التواصل، لتتداول على أنها مبادرات غير موفقة عرضت صاحبها للحرج إذا ما جاءت التعبيرات تمثيلية وتحمل أداء مبالغاً فيه.
ووصل الأمر أيضاً إلى أن بعض الحماوات ينافسن العروس نفسها، بالإصرار على ارتداء فستان أبيض يحاكي تصميم فستانها أو حتى السير معها على البساط خلال الزفة، وهو سلوك كان منبوذاً في ما قبل، إذ كان ارتداء الأبيض خلال الأفراح نوعاً من المحرمات باعتباره حكراً على العروس، وكذلك كان الجميع يتراجع من أجل أن يمر العروسان وحيدين في يومهما الكبير وسط التصفيق والغناء.
التقليد يهزم التقاليد
تقول رضوى عبدالحميد التي تعمل في مجال تنظيم حفلات الزفاف، إنه رغم أن الغالبية العظمى تحافظ على التقليدية والكلاسيكية في ليلة العمر، إلا أنها خلال السنوات الثلاث الأخيرة لمست بنفسها زيادة عدد "الطلبات الغريبة" كما تسميها، باستحداث فقرات على الحفلة سواء أكان في قاعة بفندق ضخم أو في أخرى مستقلة، لم تكن متداولة من قبل، ومن بينها أن يطلب العريس إخلاء المسرح لبعض الوقت كي يحمل عروسه والدوران بها لأطول فترة ممكنة، إذ تحاول رضوى إقناعهم أن الأمر "قد ينتهي بأزمة"، نظراً إلى ضخامة فستان الزفاف، وأنه يمكن استبدال الأمر بحمل العروس لدقيقة أو دقيقتين والتقاط فيديو سريع.
لكن هناك من يتمسّك برأيه، مؤكداً أن الفيديو سيكون لطيفاً حتى لو حدث تعثر أحد الطرفين، تضيف "أحاول أن أتفق مع العروسين والأهل على الخطوط العريضة لنوعية وألوان الملابس التي سترديها الوصيفات وكذلك الأفراد المقربين من العروسين، لكنني فوجئت بأن شقيقات أحد العرسان كن مصرات على ارتداء فساتين بيضاء تحاكي فستان العروس، وكذلك والدتهم، وحاولت أيضاً إقناعهم باختيار لون فاتح لكن بدرجة بعيدة من الأبيض لكن من دون جدوى".
وتتابع "كذلك أصبحت فقرات الغناء أساسية بالنسبة إلى الأصدقاء والآباء والعروسين أنفسهم، بخلاف الفقرات التي يقدمها المطربون المحترفون الذين يحييون الحفلة، من جهتي أبذل ما في وسعي لعدم إفساد أية تفصيلة، لكنني أجد نفسي مطالبة بتقليد فيديوهات معينة تظهر على السوشيال ميديا إذ يطلب مني العروسان محاكاتها رغم أنها قد لا تناسب شخصياتهم أو حتى طبيعة مظهرهم".
البحث عن الربح
وتضيف منظمة حفلات الزفاف أن "هناك بعض الأمور المستحدثة التي لا تسبب أزمات وتتوافق مع بعض الطبقات مثل التحضير للاسكتشات التي يشترك فيها المقربون من العروسين وتكون بمثابة مفاجأة مرحة، إضافة إلى جلسات التصوير ولقطات الفيديو الاستباقية أثناء تجهيز العروس وتظهر فيها مع صديقاتها بالبيجاما أو ملابس بسيطة".
يدخل في الإطار نفسه أيضاً سلوكيات أخرى كانت عادة ضمن نطاق السرية أو الخصوصية، لكنها باتت تصوّر بصورة احترافية ومحضر لها مسبقاً وتظهر على المنصات، ويصنع منها قضايا، مثل المناقشة بين أهل العروس وأهل العريس حول مؤخر الصداق وقائمة المنقولات، وتعتبرها أستاذة علم النفس جيهان النمرسي "وسيلة لسرقة اللقطة والنتيجة أن بعض هذه العلاقات انتهت بالطلاق بعد وقت قصير، لأن هدفها كان التقليد والخروج عن المألوف مثلهم مثل من يلقون بعضهم بالأكل أو يصفعون بعضهم في سبيل خطف التريند، فهي أمور توضح بقوة تغير السلوك الإنساني في الأفراح المصرية بفعل المنصات، وهو خلل لا يمكن إنكاره".
الأعراس بصورة عامة في العالم تستقي لفتات وتفاصيل من بعضها بعضاً بخاصة في عصر الانفتاح الكبير على ما تفرزه السوشيال ميديا، لكن تظل هناك ملامح معينة تميز كل مجتمع عن الآخر، وفي رأي مستشارة العلاقات الأسرية عنان حجازي فإن التناسخ الثقافي يحدث في كثير من المناطق وليس مصر فقط، وذلك بفعل الجري وراء جديد مواقع التواصل الاجتماعي.
تقول حجازي، "البعض يلجأ إلى هذه السلوكيات بغاية الترفيه، وبالفعل تبدو الفيديوهات مضحكة في بعض الأحيان، لكن بأوقات أخرى يكون هناك شطط وعنف ومبالغة غير مقبولة، بخاصة في المقالب المزعجة، وكأنهم يقلدون برامج معينة، والسقف في كل مرة يرتفع". محذرة من أن تتحول الأفراح المصرية إلى "مسخ مشوّه ليس له أصل".
وعن أسباب تنامي الظاهرة توضح مستشارة العلاقات الأسرية، "قلة الوعي وعدم الاهتمام ببناء الإنسان والأسرة أسهمتا في زيادة التداعيات السلبية بهذا الصدد". لافتة إلى أن الأجيال الجديدة "لم تشاهد كثيراً من التقاليد المصرية، ونشأوا على متابعة سلوكيات مختلطة مصدرها مواقع التواصل التي لا رقابة عليها، بالتالي فالبعض بخاصة من يعانون اقتصادياً يرى أنه يمكنه أن يعوّض تكاليف الزفاف وربما يتكسّب أيضاً من وراء تريندات الفيديوهات باستخدام (حدث شخصي)".
وتختم حجازي بأن "الأمر لم يعد مقصوراً فقط على أسرة العروسين، إنما حتى المأذون الشرعي قد يشترك في هذا الشو، إذ تظهر بعض فيديوهات (تيك توك) أن هناك منهم من يحاولون إضفاء المرح على جلستهم أثناء عقد القران، فينجرفون في تصرفات غريبة، وعدد منهم لا يتردد في أن يبدو كمؤدي كوميدي مما ينتقص من وقاره".