بغداد ـ العالم
تتوسع يوماً بعد آخر شبكة الجباية غير الرسمية التي تفرضها عناصر في الشرطة الاتحادية، وتشارك فيها فصائل مسلحة نافذة، على المواطنين الراغبين ببناء منازلهم في مناطق هور رجب، البوعيثة، عرب جبور، أبو دشير، والمناطق الزراعية المجاورة.
وهذه الظاهرة، التي بدأت بشكل خجول قبل سنوات، تحولت اليوم إلى واقع يومي لا يمكن تجاوزه دون دفع "المقسوم".
ولا أحد يتحدث عن قانون أو تنظيم عمراني، بل عن "تسعيرة ثابتة"، وهي 3 ملايين دينار عراقي لكل 100 متر مربع من الأرض السكنية، حيث يجمع المبلغ نقداً ويسلَّم إما بشكل مباشر لعناصر أمن، أو عبر وسطاء محليين، وهم أشخاص يرتبطون بالقوة المسيطرة على المنطقة. وفي كثير من الحالات، لا تقتصر هذه الإتاوات على عناصر الشرطة الاتحادية المنتشرة في تلك المناطق بحكم الانتشار الأمني، بل تدار أيضاً بتنسيق غير معلن مع عناصر من ميليشيات نافذة، لها نفوذ واسع في جنوب بغداد. ويتحدث سكان محليون عن تقسيم غير معلن للأحياء، بحيث تفرض كل جهة سطوتها على منطقة محددة، فيما تتولى القوات الأمنية الرسمية تبرير أو تسهيل هذه السيطرة.
أحد وجهاء منطقة عرب جبور، قال إن "الذي يريد أن يبني بيتًا لا يحتاج موافقات من أمانة بغداد أو البلدية، بل من الشرطة الاتحادية ومن يقف خلفهم، وإذا لم تدفع، لن يُسمح لك بإكمال البناء".
وأضاف أن "كل شخص في منطقتنا يعرف التسعيرة، وهي 3 ملايين على كل 100 متر، تدفع على مراحل، وأحياناً مباشرة بعد صب الأساس، وإذا ترددت في الدفع، يأتيك أمر إيقاف أو يهدد عمالك".
ورغم أن الشرطة الاتحادية من الناحية الرسمية تتبع وزارة الداخلية، إلا أن بعض وحداتها، بحسب تقارير ميدانية، باتت تعمل بتنسيق مباشر مع فصائل تمتلك امتدادات سياسية، ما يجعل من الصعب ضبط هذه الممارسات أو التحقيق بها رسمياً، خاصة في ظل غياب أو ضعف الرقابة البرلمانية والمحلية.
يقول أحمد جبار، موظف حكومي من منطقة البوعيثة، إن "الشرطة تأتي فوراً بمجرد بدء العمل، ولا تسألك عن الملكية أو الإجازة، بل عن الشخص الذي اتفقت معه، وإذا لم يكن هناك اتفاق، تبدأ المشاكل".
ويضيف، "دفعت 6 ملايين عن 200 متر، رغم امتلاكي طابو رسمي، ومع ذلك كنت مهددًا بتوقيف البناء بسبب (التحري الأمني) وهو مصطلح يستخدمونه لتبرير الابتزاز".
أما فاضل خضير، وهو من منطقة هور رجب، فيروي أن "هناك تواطؤاً بين أطراف عدة في هذه القضية، حتى المكاتب العقارية تعرف كيف تسهّل الأمور، وتدل الناس على الشخص المناسب الذي يأخذ الإتاوة، كي لا تقع بمشكلة مع الجهة المسيطرة على المنطقة".
وأضاف أن "الأمر لا يتوقف عند بناء المنزل فقط، فحتى إيصال الخدمات مثل الكهرباء والماء، يتطلب اتفاقاً جديداً مع نفس الجهة أو شخص آخر يرتبط بها، ما يعني أن المواطن يبقى في دائرة الابتزاز إلى ما بعد اكتمال البناء".
وتابع ان "الكثير من الأهالي يفضلون السكوت، لأن من يقف خلف هذه الشبكة ليسوا أفراداً عاديين، بل جهات لديها نفوذ وسلاح وعلاقات، ولا أحد يجرؤ على مواجهتهم علنًا".
وتنشط في هذه المناطق أذرع غير رسمية للفصائل المسلحة، وتستخدم في بعض الأحيان عناوين خدمية أو دينية أو ثقافية لتبرير وجودها، لكنها في الواقع تقوم بمهام أمنية موازية، وتفرض نفوذها بالتنسيق مع مفارز من الشرطة.
بدوره، قال الخبير الأمني رياض الجبوري، إن "الظاهرة التي تشهدها أغلب مناطق بغداد تمثل تطوراً خطيراً في بنية الفساد الأمني، لأنها تدمج بين القوة الرسمية (الشرطة الاتحادية) واللامركزية (الفصائل المسلحة) في شبكة واحدة تستنزف المواطنين".
وأضاف الجبوري، أن "هذا النوع من الابتزاز يعزز منطق الدولة الموازية، ويمنح الميليشيات امتيازًا مزدوجًا، فمن جهة يحصلون على تمويل ذاتي ونفوذ محلي، في المقابل، يتم تجميد أدوات الردع والمحاسبة، ما يعني أن الأمن بات يستخدم كأداة للجباية، لا للحماية". وتشير التقديرات غير الرسمية إلى أن المبالغ التي تُجبى شهرياً من هذه الإتاوات في جنوب بغداد قد تصل إلى مليارات الدنانير، توزع بين جهات مختلفة، دون أن تسجل في أي سجل إداري أو ضريبي، ما يصعب تتبعها أو استردادها لاحقًا.
ورغم المحاولات الخجولة لبعض الجهات الحكومية في التحقيق أو التدخل، إلا أن كثيراً من المتضررين يخشون تقديم شكوى، إما خوفًا من الاستهداف، أو لأنهم فقدوا الثقة أصلًا في وجود جهة حيادية تنصفهم.