عبده وازن
ليس "سكان الكهوف" الذين يرمز إليهم الكاتب والمخرج اللبناني الكندي وجدي معوض، سوى عائلة لبنانية تعاني كارثة الحرب الأهلية داخل المنزل الذي استحال فضاء مغلقاً ومفتوحاً في آن واحد على جحيم الخارج، أما "العرس" الذي تتحضر العائلة لإقامته بحسب ما يوحي به عنوان مسرحية "عرس سكان الكهوف" (تقدم في مسرح لاكولين، باريس حتى الـ22 من الشهر الجاري)، فهو عرس افتراضي أو متوهم، يقام ولا يقام، بل يبقى محتملاً، مثل النهاية التي كان يبحث عنها الكاتب نفسه. والكاتب هو وجدي معوض، أيام الشباب في مونتريال، ويؤدي دوره بالفرنسية الممثل جان ديترم، في إطار أو "كادر" أقيم داخل جدارية المسرح، يمثل نافذة تطل على الماضي، الذي كتب فيه معوض مسرحيته هذه، التي تعد من أعماله الأولى.
السكان الخمسة الذين يعيشون في بيتهم الذي تحاصره المعارك والقذائف، هم لبنانيون صرف، يتحدثون بالعامية اللبنانية بحسب ترجمة أو "لبننة" اوديت مخلوف المتقنة والبديعة للنص الفرنسي، وقد ترجمته روحا ولهجة، مانحة إياه إيقاعه اللغوي التعبيري، لكن الممثل "الدخيل" الذي يؤدي دور الكاتب ومن ثم العريس الذي يأتي ولا يأتي، فهو وحده يتحدث بالفرنسية.
ولئن كتب وجدي معوض هذه المسرحية عام 1991 خلال سنته الدراسية الأخيرة في المعهد الوطني للمسرح في كندا، وأمضى سنوات طويلة يعيد كتابتها، مضيفاً وحاذفاً ومشذباً، وقدمها بالفرنسية في كندا وفرنسا، فهي هنا تبدو لبنانية صرفة، بل لعلها هنا، اكتسبت هويتها اللبنانية المفترضة، على رغم الشخص "الدخيل" وهو العريس، وشخص وجدي معوض بصفته كاتباً شاباً يستعيد ذكرى الحرب في وطنه الأول. الشخصيات لبنانية والممثلون لبنانيون والثلاثة منهم، عايدة صبرا (الأم نزهة) وفادي أبو سمرا (الأب نايف) وبرناديت حديب (الجارة سهيلة)، هم من أبرز الممثلين اليوم في لبنان وفي طليعة الجيل المخضرم الذي حقق مع زملاء آخرين، نهضة جديدة، في حركة التمثيل اللبناني. ويضاف إليهم في المسرحية وجهان جديدان، هما ليال غصين (الابنة نيللي) وعلي حرقوص (الابن نائل) وكلاهما يمثل موهبتين بارزتين.
يجد الجمهور نفسه منذ البداية أمام لعبة مسرحية يتجاذب خيوطها الممثلون الخمسة الذين يشكلون نواة هذه العائلة، وجميعهم على حافة "الانفجار" أو الانهيار، يتراوحون بين كونهم ممثلين يمثلون، مدركين أن اللعبة وهم لعبة، وكونهم شخصيات تملك طبائعها وأمزجتها، وتعيش حقيقة التجربة التي تخوضها، بين الخوف والتوتر، وفي حال من التنافر والكراهية والتلاعب المقنع والأكاذيب. وفي سياق لعبة الأداء الرهيبة والمتقنة جداً والمتعددة الإيقاعات والأصداء، تتداخل الوقائع والأوهام، الحقائق والهواجس، داخل فضاء سينوغرافي، واقعي وغير واقعي، فتبدو المسرحية خليطاً محبوكاً من الكوميديا والتراجيديا والسخرية والساركاستيكية والهذيان والعنف والعبثية والعقلانية والواقعية والبسيكودراما العائلية.
عائلة في حال من التوتر المضمر والمعلن في وقت واحد، أشخاص لا يبدون في أتم قوامهم. حتى الجارة سهيلة لم تنج من اللعنة التي أصابت هذه العائلة، قدراً أو تواطؤاً. الأب نايف (65 سنة) يبدو شخصاً غضوباً، ينفعل بسرعة، لا يردعه أمر، كتلة من نار وزخم، وحتى من هياج نفسي وجسدي، فلا يتورع عن السعي إلى ممارسة الجنس مع زوجته نزهة على المائدة التي تنتظر الضيوف. "حكيم" ومتهور، شتام يهين الغرباء، معتبراً إياهم أوغاداً. كان يتمنى ألا ينجب أولاداً في هذه الحياة المأزومة، يشبه والد كافكا في نظرته إلى العقاب، يقرف من رائحة ما بين فخذي زوجته عندما يستعيد لحظات الجنس، يشبهها برائحة اللحم المنتن.
وعندما يأتي بالخروف ليذبحه، ينقض عليه بقسوة وكأنه يمارس فعل القتل، وعندما لا يجد السكين بمتناوله يستعين بالمقص، واصفاً الخروف بـ"ابن الماخور"، ويلطخ ثيابه بالدم مثل جزار. يرق ويقسو ويحن أحياناً كأب أمام ابنه الصغير، وأحياناً يصرخ بوجهه ويعنفه. أما الأم نزهة (55 سنة)، فلا تقل اضطراباً عن زوجها، لكنها تتمسك بأمومتها، خصوصاً حيال ابنتها المريضة نفسياً، همها العرس وتحضير الطعام اللبناني بامتياز (الكبة، الكوسي، اللحم، الفاصوليا، التبولة، الحمص...)، مثلها مثل جارتها سهيلة (34 سنة) التي تدخل المسرح حاملة طناجر عدة. تهين نزهة الدكنجي الأرمني في الحي وتشتم الخس الذي يبيعه، لكنها تتعاطف معه عندما يحدثها عن المجازر التي ارتكبها الأتراك في حق الأرمن. همها أيضاً فستان العرس، ومديح العريس الأجنبي، وصحة ابنتها نيللي.
ولا يفوتها أن تساجل زوجها في أمور الجنس الزوجي، وتتحدث عن الحمل والوضع بشيء من الهتك الجسدي، وتقول إنها تشم روائح الرجال الذين يموتون. الابنة نللي (30 سنة) هي الشخصية الأشد هلوسة وهذياناً، بل هي المريضة "الشرعية" وسط هؤلاء المرضى. كأنها مصابة بمرض التخدر (ناركوليبتيك)، تنام تحت المغسلة، تتوهم وتهذي وتبصر الأشباح من حولها، والمغتصبين الذين يدورون في رأسها، وتحكي عن أمور غريبة جداً، معجبة بالحرب، وتخاطب أمها: "لماذا مت يا ماما؟". ومن حين إلى آخر تصرخ بصوت عال: متى سنذهب إلى البردونة؟ هل سنأكل الكنافة؟ ولعل البردونة، الحي السياحي الجميل في مدينة زحلة البقاعية، وكذلك كعكة الكنافة، يمثلان لحظات من الحنين إلى الماضي اللبناني. وعندما تطل نيللي بفستانها الأبيض وتتكلم مع الكاتب المفترض، عن العريس والنهاية، تبدو كأنها طالعة من حكايات الساحرات، ببراءتها. لعله الجو الغرائبي الذي شاءه وجدي معوض في سياق اللعبة.
لئن كانت مسرحية "عرس سكان الكهوف" أولى مسرحيات معوض وكتبها في الجامعة، فهي غدت، بعدما أعاد كتابتها طوال سنوات، وأخرج منها صيغاً عدة، غاية في النضج، لا سيما على المستوى الدراماتوجي، والعمق المأسوي والعبثية. وجاءت العناصر الاخرى لترسخ قوتها وفرادتها، مثل السينوغرافيا والإضاءة المبتكرتين، وقد شاء المخرج الفضاء السينوغرافي، الذي هو أساساً بيت ذو باب ونافذة وزاوية تطل على المطبخ واخرى يأتي منها صوت نيللي ، حيزاً مفتوحاً على الخارج الذي هو المجهول، مثلما هو الحرب والمعارك. فضاء واسع شبه فارغ، يقوم وسطه ديكور بسيط ولكن معبّر (طاولة، كنبة، ادوات المطبخ...)، إضافة إلى الخروف المذبوح المعلق، سعياً لجعل الممثلين يتحركون داخل هذا الفضاء، خالقين سينوغرافياهم المتحركة. وقد جعل من الجدار الثالث جدارية، يطل عبرها الكاتب – الممثل، وترتسم عليها مشاهد كندية تجسد المكان الذي عاش فيه معوض تلك السنوات. وهنا نجحت الإضاءة التعبيرية البديعة في حفر مشهدية متعددة الالوان والظلال ومجسدة لوحات ذات بعد تشكيلي.
استقبل الجمهور الفرنسي مسرحية "عرس سكان الكهوف" بحماسة شديدة وإعجاب ولهفة، و خلال العرض الذي شاهدته، صفق للممثلين تكرارا، وجعلهم خلال التحية الأخيرة، يعودون اربع مرات، رغم أن المسرحية باللبنانية مع ترجمة مدونة.
لقد حرم فرسان جبهة "الممانعة" في بيروت، وهم باتوا بقايا جبهة، الجمهور اللبناني من مشاهدة هذه المسرحية الفريدة، التي تجسد المأساة اللبنانية وتسعى إلى الإجابة على الأسئلة التي طرحتها الحرب وما برحت مطروحة، بجرأة وعمق. وعالجت موضوع العنف الذي برز خلال سنوات المعارك محاولة التطهر منه وفضح ظواهره. وبدا الضحايا ولا سيما الاطفال الذين يطلق المسلحون عليهم النار، كأنهم أطفال غزة الذين يسقطون تحت نيران الجيش الإسرائيلي.