زاهر موسى
الحلقة الأولى
التجارب السابقة لاختيار المرجع الأعلى
يبلغ عُمر الزعامة الدينية الشيعية بوصفها موقعاً للإفتاء والتأثير في الجماهير قروناً عديدة، وقد تفاوتت مساحة تأثير هذا الموقع بتفاوت الشخصيات التي تصدت له، فمن جانب كان الزعماء الأوائل كـ(المفيد، الشريف المرتضى، والطوسي) أصحاب نفوذ كبير في الدولة العباسية إبان هيمنة السلاطين البويهييين، لكنّ خلفاءهم، لقرون لاحقة، فقدوا هذا التأثير، حتى جاءت الدولة الصفوية وظهر نفوذ مرجعيات مثل (الكركي، البهائي، المجلسي)، وعاد النفوذ ليضعف فترة وجيزة حتى ظهر جعفر الكبير كاشف الغطاء وابنُه موسى (سُمّي مصلح الدولتين) ممن امتلكوا نفوذا إبان الحقبة القاجارية والعثمانية، ومع بداية النفوذ الغربي في العراق وإيران ظهرت مرجعيات كبيرة امتلكت نفوذاً مؤثراً لكنه كان موجهاً نحو مواجهة الاستعمار بالدرجة الأساس والمطالبة بحكومات إسلامية دستورية كـ(الشيرازي الكبير، الميرزا الخليلي، الآخوند الخراساني، النائيني، الشيرازي الصغير، شيخ الشريعة)، في مقابل مرجعيات أقل نفوذا وجماهيرية لم تدعم المواجهة مع التغلغل الغربي والسلطنات الدكتاتورية كـ(اليزدي) ضمن صراع المشروطة والمستبدة، وقد استمر هذا الحال حتى انتهاء الحرب العالمية الأولى وتأسيس عصبة الأمم وظهور مفهوم الدول الوطنية بشكل راسخ لتبدأ مرحلة جديدة.
مرجعية أبو الحسن الأصفهاني (1936-1946)
عاشت الزعامة الدينية للشيعة الاثني عشرية، فترة انعدام وزن بعد سقوط الدولة القاجارية في إيران وإلغاء الخلافة العثمانية وحتى منتصف العقد الثالث من القرن الماضي، وبقي المقلدون في العراق وإيران منقسمين بين عدد من المراجع أهمهم (عبد الكريم الحائري، الميرزا النائيني، ابو الحسن الأصفهاني)، وبعد وفاة طبيعية للأول والثاني من المتنافسين ذهبت الزعامة المطلقة إلى الأصفهاني، ومن اللافت أن المرجع الأعلى المطلق السابق محمد تقي الشيرازي (صاحب فتوى الجهاد ضد الاحتلال البريطاني عام 1920 م) كان قد نقل أسئلة دينية يرى فيها (الاحتياط) من بعض الطلبة والناس إلى الأصفهاني كي يجيب عنها، ما اعتُبِر إشارة لأولويته في المنافسة على الزعامة، يضاف إلى ذلك التأثير السياسي الذي تجسّد في ما نقله الفقيه محمد حرز الدين بكتابه معارف الرجال “إن السيّدَ أبو الحسن الأصفهاني وعددا من المراجع اجتمعوا في عام 1925 م في النجف مع “رضا خان البهلوي” وزير الحربيّة في الدولة القاجاريّة آنذاكَ (ورئيسِ مجلسِ الوزراءِ قبلَ أن يصبحَ مَلِكاً لإيران)، وتداولوا الحديثَ معه في شؤونِ إيرانَ، وكان المنويُّ -النيّة- إن رضا شاه هو الذي يكون سلطاناً، وبعد أن أخذوا عليهِ العهودَ والمواثيقَ والأيمانَ رجعَ البهلويّ إلى إيرانَ، وبعد رجوعهِ خُلعَ أحمد شاه القاجاري“.
غير أن تأثيره السياسي في العراق كان ضعيفاً، حيث كان الأصفهاني رافضاً للغزو البريطاني عام 1941 بعد انقلاب رشيد عالي الكيلاني لكن الحكومة الملكية بقيادة الوصي عبد الإله ونوري السعيد قامت بنفيه إلى إيران دون خوف من ردة فعل الشارع، بل أن حكومة العراق أعادته بعد عام ووضعته تحت قيد الإقامة الجبرية في بغداد حتى مات.
وبالمجمل فقد أسس الأصفهاني لمرجعية كبيرة عبر أكثر من أربعة آلاف وكيل يمثلونه في كل مكان به شيعة اثنا عشرية عبر العالم وقام ببناء مدارس ومساجد وحسينيات وأنفق أموالاً كبيرة على طلبة العلم الديني مما جعله أحد أكثر المراجع الشيعة سلطة ونفوذا في التاريخ.
المرجع الأعلى أبو الحسن الأصفهاني ((1936-1946))، مصدر الصورة: ويكيبديا.
مرجعية حسين البروجردي (1946-1960)
تمثل زعامة البروجردي للشيعة حالة استثنائية، فهو آخر مرجع أعلى للطائفة مارس بشكل عملي مسؤولياته من إيران وليس من العراق، ومن الواضح لمن يتتبع سيرته أنه كان ممثلاً للزعيم السابق أبو الحسن الأصفهاني في قم ومشهد وطهران، بل من المعروف حمله رسائل خطيرة من النجف إلى رضا شاه بهلوي اعتراضاً على سياسته العلمانية وتمكين البهائيين من تولي مواقع في السلطة ومحاولة إلغاء الحجاب وغيرها من الأمور التي شهدتها إيران قُبيل الحرب العالمية الثانية، وقد تسبب حراكه باعتقاله وإبعاده إلى مشهد مما أعطاه بُعداً سياسياً واضحاً حظي على إثره بالاهتمام الكبير من الفقهاء والبسطاء، غير أن البروجردي لم يكن مؤثراً في الحياة السياسية والاجتماعية بالعراق، وإن كان ينفق على طلبة الحوزة من موقعه، بحكم مسؤوليته، وقد ساهمت أجواء الحرب العالمية الثانية وتنحية رضا شاه بهلوي وتولي نجله الحكمَ تحت وصاية بريطانية وسوفيتية، في إعطاء البروجردي الفسحة للتحرُّك الجاد في بناء مؤسسات دينية في إيران، الأمر الذي كان سبباً من أسباب توليه الزعامة لاحقاً.
المرجع الأعلى حسين البروجردي (1946-1960)، مصدر الصور: مكتبة الروضة الحيدرية
مرجعية محسن الحكيم (1960-1970)
نشأ الحكيم علمياً في حضرة كبار الفقهاء الشيعة ودروسهم، ممن عاصروا أزمة المشروطة والمستبدة في إيران وكذلك تأسيس الحكم الملكي في العراق بعد ثورة العشرين التي شارك بها شاباً، وتركت هذه المنعطفات الكبيرة أثرها في شخصيته، حيث لازمه دائماً الإحساس بأن الدولة الوطنية سواء في العراق أو إيران يجب أن تمنح رجال الدين مساحة في صناعة القرار، ولأنه تلميذ بارز للنائيني منافس أبي الحسن الأصفهاني على الزعامة، فقد ذهب بعض مقلدي النائيني لتقليد الحكيم منذ الأربعينيات، الأمر الذي جعله منافساً لزعامة البروجردي في وقت لاحق وإن لم يمتلك العدد الأكبر من المقلدين.
لقد كان تأليف الحكيم لكتاب (المستمسك) بوصفه شرحاً لأحد أهم الكتب الشيعية في التاريخ وهو كتاب (العروة الوثقى) لمحمد كاظم اليزدي، حدثاً مهماً من الناحية العلمية، ساهم في نيله موقعاً مرموقاً داخل الحوزة، وبعد وفاة البروجردي ومنافسة بسيطة مع عبد الهادي الشيرازي حُسمت الزعامة للحكيم، حيث جاءت برقية من الشاه الإيراني محمد رضا بهلوي مُعزِّزةً ذلك، فيروي غلام علي رجائي مستشار الرئيس الإيراني الراحل رفسنجاني في كتابه (قبسات من سيرة الإمام الخميني) ما نصه: نشطت بعض الأيدي المشبوهة بعد وفاة آية الله البروجردي لمنع ذكر اسم أيّ من مراجع قم في المجالس التأبينية التي أقيمت على روحه، وبعد (18) يوماً من وفاته أرسل نظام الشاه برقية تعزية بهذه المناسبة إلى حوزة النجف على أمل نقل المرجعية من قم إلى النجف كمقدمة لانحلال الحوزة العلمية في قم.
ويمكن القول إن مرجعية الحكيم هي التي أسّست للتأثير السياسي الكبير والملموس الذي يمكن أن تمارسه المرجعية الشيعية في العراق، حيث لم يترك الرجل محطة سياسية دون أن يبادر فيها إلى تذكير الدولة العراقية بوجوده وأهميته وقدرته على تحريك الجماهير، وقد انزعج الحكيم من عدم اهتمام الملكية الهاشمية بوفاة ابو الحسن الأصفهاني بل عدم التعزية برحيله، مما قادها للاعتذار عن ذلك، كما أنه دخل في مواجهة مع عبد الكريم قاسم، ويمكن اعتبار مرجعيته أحد أقوى خصوم انقلاب 14 تموز في عام 1958 بسبب قانوني الأحوال الشخصية والإصلاح الزراعي ونفوذ الحزب الشيوعي.
صورة شخصية للمرجع محسن الحكيم (1960-1970)، وصورة تجمعه مع أبنائه عندما كانوا فتية. المصدر: ويكبيديا.
وبقي الحكيم خصماً لحكم الضباط في حقبة عبد السلام عارف الذي رفض استقباله مراراً واتهمه بالانحياز الطائفي للسنة على حساب الشيعة، الأمر الذي تراجع قليلاً في حقبة عبد الرحمن عارف، ليعود أشدّ واوضح في حقبة حزب البعث بعد عام 1968.
ولا يمكن نزع استهداف حزب البعث الحاكم عام 1969 لنجل الحكيم (محمد مهدي) واتهامه بالتآمر والجاسوسية، من كونه استهدافاً لشخصه ومرجعيته ومكانة الزعامة الشيعية. حينها، جسدت الأحداث الدرامية التي رافقتها احتجاجاتٌ واسعة، أثرَ التصعيد الذي مارسه الحكيم طيلة عقود ضد الدولة مع تغيّر الأنظمة، أُضيف إلى ذلك أن مرجعيته كانت مظلة لحزب الدعوة، أول تشكيل سياسي إسلامي شيعي في العصر الحديث، لهذا، وأكثر، فإن الحكيم بحق، هو من وضع أساس المكانة التي نلمسها اليوم في شخصية السيستاني ونفوذه وأثره البالغ.
مرجعية أبو القاسم الخوئي (1970-1992)
لم يحظ زعيم للشيعة بالإجماع الذي ناله أبو القاسم الخوئي بعد وفاة محسن الحكيم عام 1970، وسبب ذلك الأشهر هو وصف الخوئي بالعبقري من قبل العشرات من مجايليه في المضمار نفسه أولاً، وأنه دَرَّسَ البحثَ الخارج منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وتخرج على يديه المئات من المجتهدين ثانياً (شهدوا بأعلميته في اللحظة الفاصلة) وهو ما لم يتوفر لغيره زمنياً، وبعد وفاة الحكيم كان هناك منافسون للخوئي مثل محمود الحسيني الشاهرودي وعبدالله الشيرازي ومحمد كاظم شريعتمداري وروح الله الخميني إلا أنهم لم يمتلكوا السيرة العلمية التي امتلكها.
لكن هذا الاجماع لم يؤدِّ إلى استقرار في البيت الحوزوي سواء في إيران أم في العراق، إذْ تزامنت مرجعية الخوئي مع الحراك الإسلامي الذي قاده الخميني في إيران ومحمد باقر الصدر في العراق، وكان موقف الخوئي من الحراكين غاية في الوهن والضعف، إذْ لازم الحياد تجاه تزلزل عرش الشاه إن لم يكن داعماً لرضا شاه بهلوي وإن كان البعض يشكك بذلك، كما إنه لم يعترض على تصفية الاسلاميين الحركيين الشيعة في العراق طيلة العقد الأول من مرجعيته، وحينما وصل نظام البعث إلى إعدام محمد باقر الصدر أحد أبرز طلبة الخوئي، لم يكن له موقف مهم، بل كان موقف أبنائه وأصهاره سلبياً، وحينما استعرت الحرب بين البلدين اللذين يحتضنان حوزتي الشيعة الأساسيتين في النجف وقم لم يظهر للخوئي موقف شديد تجاه تلك الحرب، ومع اندلاع انتفاضة 1991 ووصول نارها إلى النجف تحركت مرجعية الخوئي قليلاً لترتيب أمور المحافظة ومع انهيار الحركة عادت المرجعية الى خضوعها الذي استمرّ حتى وفاة زعيمها عام 1992.
السيد السيستاني يقيم صلاة الجنازة على جثمان المرجع الخوئي، المصدر: المنتديات الشيعية.
مرجعية السيستاني (1992-….)
كان عام 1989 مؤثراً في صياغة المكانة الكبيرة التي نعرفها اليوم لموقع زعيم الشيعة ومرجعهم الأعلى، حيث شهد ذلك العام وفاة روح الله الخميني زعيم الثورة الإسلامية في إيران وأحد أهم رجال الدين الشيعة في التاريخ عموماً، بالإضافة إلى قيام مؤسسة الإمام الخوئي الخيرية في العام ذاته، والتي أصبحت بعد ذلك مظلة كبرى لنفوذ مؤسّسها وأسرته والمقربين من طلبته وممارسته دور جماعة الضغط سياسياً ودينياً، وخلال العام نفسه، بدأ الخوئي يستشعر دنوَّ أجله وطلب من السيستاني أن يَؤمَّ الجماعة محلَّه بمسجد الخضراء.
ومع وفاة الخوئي عام 1992 كان منافسو السيستاني كباراً في السن، حيث توفي عبد الأعلى السبزواري ومحمد رضا الكلبيكاني بعد عام، فيما تأخرت وفاة محمد الروحاني حتى عام 1997.
وخلال تلك السنوات ظهرت مرجعية محمد محمد صادق الصدر (والد مقتدى الصدر) ودخلت، شيئاً فشيئاً، في دائرة المنافسة، خصوصاً بعد انتقاد الصّدر المرجعياتِ الأخرى واتهامها بالخنوع، فاتّسعت شعبيته بوتيرة أسرع، غير أن اصطدامه بنظام صدام حسين ومقتله عام 1999 أنهى محاولته اختراق النمط الكلاسيكي لاختيار المرجع الأعلى.
ومع سقوط نظام حزب البعث عام 2003 جرى الحديث بشكل موسع عن مرجعية جماعية ضمت (السيستاني، محمد سعيد الحكيم، محمد إسحاق الفياض، وبشير النجفي)، وتزامن ذلك مع عودة محمد باقر الحكيم إلى العراق بصفته مجتهداً قاد المعارضة الشيعية لعقود، بالإضافة إلى اتساع دائرة أتباع ولاية الفقيه المتمثلة بمرجعية علي خامنئي ممتدّةً إلى العراق عبر قوى دينية وسياسية واجتماعية، ومن جانبه فقد قاد مقتدى الصدر حراكاً مستمراً لدعم استمرار مرجعية والده (محمد محمد صادق الصدر) عبر دوائر متعددة، لكنّ السيستاني وخلال سنوات قلائل استطاع استيعاب الجميع في العراق ضمن مرجعيته العُليا ودون صِدام كبير داخل الحوزة.
المرجع الأعلى السيستاني على أحد أسطح النجف، وتظهر من خلفه قبة مرقد الإمام علي، مصدر الصورة: مؤسسة الوافي للتوثيق والدراسات.
امتاز السيستاني بما لم يظهر في غيره مذ نشأت الحوزة، فقد تجاوز المئات من طلبة استاذه الخوئي الأقوياء علمياً ليتصدر مشهد خلافته، واستطاع تحاشي الاصطدام بمرجعية محمد محمد صادق الصدر متسارعة النمو والعبور من فوق موجتها بسلام، كما أنه نجا بمرجعيته من أهوال غزو 2003 وما تبعه من احتراب داخلي وأقام علاقة متوازنة مع إيران ونظامها ووليّها الحاكم.
وفي لحظة فارقة، لعب السيستاني دوراً محورياً عبر إصراره على كتابة دستور من خلال برلمان منتخب، كان من بين أعضائه من يمثل مرجعيته، ولم يكتف بالدستور الذي كُتب على عجالة وحمل بين دفّتيه نصوصاً خلافية. حيث دعم، بإصرار، الانتخابات على أنها الطريقة الوحيدة لتداول السلطة في “العراق الجديد”.
وعلى مدى سنوات تلت الغزو، استغلت منظومة مرجعية السيستاني فسحة زوال صدام حسين وأجهزته والحصار، وطوّرت “العتبات المقدسة” -أضرحة أئمة الشيعة المدفونين في العراق، وخصوصاً الحسين والعباس في كربلاء- فتحوّلت من مجرد مقاصد للسياحة الدينية الى مؤسسات هائلة تمتلك استثمارات كبيرة يمكنها أن تصنع فارقاً في حياة الشيعة وطبيعة القرارات التي تحدد مصيرهم، لقد شعر السيستاني أن هذا النظام الذي تشكّل بعد 2003 قابل للتطوير، فدافع عنه بقوة في لحظة 2014 وسيطرة تنظيم الدولة داعش على مساحة شاسعة من العراق، عبر الإفتاء بـ”الجهاد الكفائي”، الفتوى التي حشدت مقاتلين وسلاحاً ولعبت دوراً في هزيمة التنظيم واستعادة المدن من سيطرته، لكنها في الوقت نفسه، فتحت مجالاً لظهور فصائل مسلحة جديدة، أو توسع نفوذ وهيمنة أخرى قديمة خارج جسد الدولة، حتى زاحمته وصارت جزءاً منه. وفي عام 2019 عاد السيستاني ليدعم الإجراءات الاصلاحية تحت ضغط التظاهرات الشعبية.