عبد الكريم الحجراوي
هل ضل توفيق الحكيم طريقه إلى المسرح في الوقت الذي لم ينتبه فيه إلى قوته كروائي لو أنه سار في هذا الطريق؟
بالإمكان طرح هذا السؤال الآن، ويعتقد أستاذ الأدب المقارن عبد الرحمن الشرقاوي بأن "الحكيم لم يدرك سر تفوقه في الرواية إلا في فترة متأخرة من حياته، وكان عليه أن يشعر بالغضب تجاه نفسه؛ لأنه أساء التقدير".
في 26 يوليو (تموز) الجاري تمر الذكرى الـ37 لرحيل توفيق الحكيم (1898 - 1987) الذي حاز مكانة كبيرة في الأدب العربي باعتباره واحداً من أهم كتاب جيل الرواد والمؤسسين. وفي هذه المناسبة أجرت "اندبندنت عربية" هذا الحوار مع مدرس الأدب المقارن في كلية الآداب جامعة القاهرة، الأستاذ الزائر في جامعة أوساكا في اليابان عبد الرحمن الشرقاوي، الذي قدَّم العديد من الدراسات عن الحكيم وشارك في مجموعة من الفعاليات الدولية حوله، منها الندوة الخامسة عشرة للتفاعل الثقافي والترجمة في جامعة بابلو دو أولافيد في إشبيلية، والتي كان صاحب مسرحية "أهل الكهف" شخصيتها الرئيسية.
يرصد الشرقاوي مواقف الحكيم السياسية، موضحاً أنه إذا عدنا إلى روايته "يوميات نائب في الأرياف" التي نُشرتْ عام 1937 سنلاحظ أنها تضمَّنت انتقاداً لدستور 1936 وحكومة إسماعيل صدقي، خصوصاً في ما يتعلق بتزوير الانتخابات. وكان عبد الناصر يضعه في منزلة الأب الروحي لثورة 23 يوليو، استناداً إلى تبشيره في رواية "عودة الروح" ببطل سيحيي الأمة من رقادها، ومنحه عام 1958 "قلادة الجمهورية"، فكان أول أديب يحصل عليها، علماً أنها تمنح عادة للرؤساء والملوك، وحصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1960، ووسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى في العام نفسه. ومع ذلك فإن الحكيم انتقد تلك الحقبة في شكل غير مباشر، من خلال مسرحية "السلطان الحائر" 1959، وكتاب "بنك القلق" 1966. أما ذروة انتقاد الحقبة الناصرية فجاءت عبر كتاب "عودة الوعي" 1974. لكن قبل صدور هذا الكتاب الذي فسره البعض على أنه مغازلة من الحكيم لحكم السادات، كتب صاحب مسرحية "يا طالع الشجرة"، وتحديداً في فبراير (شباط) 1972 كتب بيده بيان المثقفين المؤيدين لحركة الطلاب، المطالبين بخوض الحرب لتحرير سيناء. وساءت بعدها علاقة الحكيم مع السادات الذي ألمح إليه في إحدى خطبه وقتذاك بالقول "رجل عجوز استبدَّ به الخرف، يكتب بقلم يقطر بالحقد الأسود، إنها محنة أن رجلاً رفعتْ مصر مكانته الأدبية إلى مستوى القمة ينحدر إلى الحضيض في أواخر عمره"! لكن تلك العلاقة سرعان ما تغاضى السادات عن ذلك الموقف بعد صدور "عودة الوعي".
يضيف الشرقاوي أنه بفضل "تلك المرونة السياسية"، وعمل والد الحكيم في سلك القضاء، وقربه من دوائر الحكم، عمل الأديب الكبير في النيابة، على رغم أنه لم يكن من المتفوقين دراسياً في كلية الحقوق، ثم انتقل إلى إدارة التحقيقات والشؤون القانونية في وزارة المعارف، ثم تركها للعمل في الصحافة، وعاد بعدها لرئاسة دار الكتب المصرية، كما كان عضواً في المجلس الأعلى للفنون والآداب، ومثل مصر في اليونسكو، ومنحه عبد الناصر قلادة الجمهورية عام 1958، وبعد ذلك بعامين حصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب ووسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى.
وحول ترشيح الحكيم لجائزة نوبل، يكشف الشرقاوي أن ذلك حدث عام 1969 بواسطة شوقي ضيف، وعام 1972 بواسطة كل من الأمين العام لمجمع اللغة العربية في القاهرة إبراهيم مدكور والأديب الأردني حسني فريز والمستشرق السويدي نيلز غوستا فيتستام.
ويضيف الشرقاوي أنه "من آليات المهمة لحصد نوبل أنها لا تنظر إلى ما كتبه الأديب العربي بلغته ولكن ما تُرجم منها إلى اللغات التي تقرأ بها اللجنة". ومن هذا المنطلق يستعرض الشرقاوي ترجمات الحكيم إلى اللغات الأجنبية، لافتاً إلى أن الإحصاءات تظهر أن أعماله ترجمت إلى الكثير من اللغات، لكن نادراً ما تتكرر ترجمة العمل الواحد لأكثر من لغة، أو يعاد طبعه أكثر من طبعة داخل اللغة واحدة.
وأوضح أن "غالبية هذه الترجمات كانت تأتي تحت رعاية مؤسسات ثقافية وجهات بحثية ولم تكن تخرج بشكل تجاري، علماً بأن الأعمال التي تفوز بالجوائز عادة لا تخرج من دور نشر حكومية أو مؤسسات بحثية وإنما دور نشر تجارية".
ويكمل الشرقاوي أن الاستثناء في هذا الصدد تمثله رواية "يوميات نائب في الأرياف" التي تُرجِمت في حياة الحكيم إلى تسع لغات، من قبل دور نشر تجارية، ولا تزال تترجم إلى الآن، "مما يكشف أنها رواية قادرة على أن تفتح لنفسها آفاقاً جديدة في لغات مختلفة بعد أكثر من ثمانين سنة من كتابتها".
علاقة غامضة
يؤكد الشرقاوي أن الحكيم كان يتعامل مع جائزة نوبل بالمبدأ ذاته الذي كان يتعامل به مع السلطات المصرية في مراحل مختلفة، فهو مثلاً كان يتعمد عدم ذكر، أن "يوميات نائب في الأرياف" ترجمت إلى العبرية عام 1945، وأن مترجم العمل نفسه إلى الإنجليزية عام 1947 هو القيادي الإسرائيلي لاحقاً أبا إيبان، لكنه عدل عن ذلك عقب زيارة السادات لإسرائيل، على أمل أن يدعم هذا الأمر ترشحه مجدداً للجائزة رفيعة المستوى.
ويكمل الشرقاوي أن "علاقة الحكيم بإيبان، تظل مع ذلك غامضة، بما أنهما أخفيا أمر تشاركهما في السكن لفترة قصيرة خلال الحرب العالمية الثانية في "بنسيون" في القاهرة. وكان إيبان في تلك الفترة يعمل سراً مع الاستخبارات البريطانية، في تدريب عناصر يهودية على تنفيذ أعمال تخريبية.
ويفند الشرقاوي الرأي القائل بأن الحكيم لو كان حيّاً عام 1988، لفاز هو بجائزة نوبل وليس نجيب محفوظ، مشيراً إلى أن مسار الترجمات يوضح أن الغرب لم يهتم كثيراً بأعمال توفيق الحكيم المسرحية، وهي كانت مجال تميزه الأدبي، إلا أنه كان يعتمد في كثير منها على التراث العالمي والأساطير الإغريقية، ومن ثم فإنه لم يبتكر شيئاً جديداً.
يضيف الشرقاوي أن الحكيم عاش في عالم صنعه في ذهنه، فالأديب بحاجة إلى أن يحتك بالواقع، فكما يقول الدكتور عبدالمحسن طه بدر (1932-1990) في كتابه "الروائي والأرض" "انشغل توفيق الحكيم عن الواقع بحثاً عن إيجاد مذهبه الفني، فأصبح التقاطه لواقعه فقيراً جداً". بينما لو أكمل مساره كوكيل نيابة كان سيجد مادة ثرية جداً من الواقع يستطيع الكتابة عنها؛ لكنه اختار العيش مع عالم الكتب والأفكار بشكل أكبر، بينما محفوظ كان عالمه مبتكراً ومستمداً من الواقع الزاخر بالموظفين والفتوات والتجار في مراحل مختلفة من تاريخ القاهرة.
ويكمل الشرقاوي أنه "إضافة إلى احتكاك محفوظ بالواقع فإنه كان صاحب ثقافة نظرية عالية ومعرفة باتجاهات الرواية وقارئاً نهماً؛ لكنه لم يستعرض علاقته بالثقافة مع القارئ فترك الثقافة لنفسه وأعطى للقارئ أدباً، عكس كتابة الحكيم التي كان يستعرض فيها ثقافته وعمق فكره واتساع اطلاعه، فمنذ البداية يضع ثقافته في العنوان: "براكسا"، "أهل الكهف"، "بجماليون"، و"أوديب"، بينما لا تجد ذلك في عناوين محفوظ: "زقاق المدق"، "بين القصرين"، "اللص والكلاب"، "الحرافيش".
يلفت الشرقاوي إلى "أن ما صنعه الحكيم لم يساعده على التركيز في الكتابة نفسها؛ لأنه من البداية كان يبحث عن الريادة، فبحث عنها أولاً في الشعر إذ كتب في مذكراته أن الناس كانت تغني شعره في تظاهرات ثورة 19 ويستخدم في الهتافات"؛ لكنه رأى "أن الشعر ليس وسيلته للتحقق؛ لأن هناك كثيراً من الشعراء في مصر"، وكذلك بحث عن الريادة في الرواية، ولما وجد هناك شخصيات من جيله أو السابقين عليه مثل طه حسين والمازني برزوا في هذا المجال ترك الرواية، ورأى أن الملعب المفتوح الذي سيحقق له الريادة هو المسرح، أي أخذ المسرح ناحية الأدب؛ لأن مصر كان فيها في هذه الحقبة كثير من كتاب المسرح مثل أمين صدقي وإبراهيم رمزي، وكما أن الحكيم نفسه كانت لديه تجارب لطيفة في المسرح الفني وتدر عليه دخلاً مذ كان طالباً في المرحلة الثانوية، وخشية عليه من هذا العالم دفعه والده لدراسة الحقوق في باريس، وحين سافر إلى أوروبا طوَّر الحكيم مسرحه على المقاس الأوروبي فانخلع بذلك من جذره وكان من الممكن أن يصنع من ثقافته الخاصة مسرحاً؛ لكنه ألقى ما لديه وأخذ المواضيع الغربية وإن كان حاول بشكل نظري أن يعود للإرث الشعبي في كتابه "قالبنا المسرحي".
يرى الشرقاوي أن "تفرد توفيق الحكيم كان في الرواية، فأعماله الروائية هي التي اجتذبت الاهتمام وتحولت إلى أعمال درامية وأفلام سينمائية، فـ "يوميات نائب من الأرياف" تحولت إلى فيلم ومسلسل، وعولجت مسرحيّاً أكثر من مرة، وحظيت باهتمام جماهيري كبير، وروايته "عصفور من الشرق" تحولت إلى فيلم وكذلك، روايته "الرباط المقدس".
ويعتقد الشرقاوي أن "الحكيم لم يدرك سر تفوقه في الرواية إلا في فترة متأخرة من حياته، وكان عليه أن يشعر بالغضب تجاه نفسه؛ لأنه أساء التقدير، لافتاً إلى أن الحكيم كان لديه عدسة ذكية في التقاط الأحداث بشكل ساخر ويمتلك موهبة حقيقية في صنع عوالم قصصية فريدة".
ويضيف أن "الحكيم تخلص من مشكلة كانت لدى كثيرين من الكتاب ومنهم نجيب محفوظ إذ لم تكن لديه مشكلة في أن يكتب فضائحه، فنشر خطاباته الشخصية ومقالات حول علاقاته النسائية بكل تفاصيلها، وفي كتابه "مصر بين عهدين" كتب أنه شاهد أفلاماً إباحية في فرنسا مع زوجته بالخطأ!".