علي الشرع
صارت حرية التعبير مؤشراً وركناً اساسياً يُقاس به مستوى الديمقراطية في أي بلد بجانب كل من الانتخابات والاحتكام الى القانون، ولهذا تمت اضافتها الى بنود الدساتير في دول العالم بضمنها الدستور العراقي الحالي. وقد يحدث خلل اثناء ممارسة هذه الأركان، فيقع تزوير في الانتخابات او انحرافات في تنفيذ القانون، لكن التشريعات المنظمة لها ليس فيها خلل والا سيجري التعديل عليها كما حصل مؤخراً في تفسير احتساب السن الذي يحال عليه الموظف على التقاعد. بينما الامر مختلف بالنسبة لمفهوم حرية التعبير، او ما يطلق عليها أحيانا بحرية الرأي والتعبير، ولكون التعبير هو الوجه التطبيقي للرأي لهذا سوف نستخدمه هنا ليعني كلاً منهما. وفي العراق هناك أصوات تعلو دائماً بوجود خرق لحق حرية التعبير، وأحد اسباب لهذه الاعتراضات يكمن في عدم التوصل الى قانون واضح لحرية التعبير.
وحتى نتوصل الى صياغة واضحة لا لبس فيها لقانون حرية التعبير لابد أن نستند الى نظرية واضحة ايضاً يُصاغ - على اساسها - هذا القانون بحيث تتميز تلك الفعاليات والأنشطة المحسوبة ضمن حرية التعبير عن غيرها الخارجة عنها حتى نتخلص من اللغط الذي يثار بين فترة وأخرى -بسبب هذا الموضوع الحساس- داخلياً ودولياً، وحتى يعرف المواطن ما هي المناطق التي تقع ضمن حدود حرية التعبير حتى يدافع عن نفسه، وكي لا يتعرض للمساءلة من أية جهة. وفي هذا المقال سوف أقوم باستنباط نظرية لحرية التعبير مستمدة من التشريع الإسلامي أطلقتُ عليها (نظرية حرية التعبير المطلقة). ولو أن صفحات الجرائد ليست هي المكان المناسب لعرض النظريات بل لابد أن تنشر في مجلة متخصصة في القانون. لكن ارتأيت ان اضعها على صفحات الجرائد كي تتاح الفرصة للجميع الاطلاع عليها ومناقشتها؛ المتخصص وغير المتخصص، ولهذا سيتم صياغتها بطريقة غير منهجية Informal على ان نؤجل عرض الصياغة المنهجية formal لها في مقال قادم سيكون تحت عنوان (نظرية الحرية المطلقة: صياغة منهجية) حتى تعرض على الفقهاء في الشريعة والقانون، ويتم مناقشتها في مجلس النواب تمهيداً لسن قانون حرية التعبير استناداً عليها ليعتمد عليه القضاء في النظر في القضايا المعروضة امامه، ونأمل ايضاً ان تأخذ طريقها للتدريس في كلية القانون اذا ما تم الاقتناع بأنها مبتكرة ومناسبة لثقافة وتقاليد لمجتمع العراقي، وتنسجم مع الدستور. وحسب اطلاعي فأنه لم يسبق لهذه النظرية احد من قبل، ولو كانت موجودة حقاً لطبقت او اشير أليها على الأقل، ولما كان هذا الاختلاف حول كيفية تطبيق حرية التعبير في العراق والعالم.
واذا دققنا النصوص الدينية الاسلامية نلاحظ ان حرية التعبير في الاسلام تشير فقط الى الحرية المطلقة للتعبير -وليست حرية التعبير المقيدة او المحدودة- بحيث لا يحاسب على من مارسها من الناحية القانونية، ولهذا اسميتها نظرية حرية التعبير المطلقة. فاذا تم تقييد هذه الحرية ستتحول حينئذ الى قضية جزائية حيث يتم المحاسبة عليها من قبل القانون اذا ما قام الفرد بأي نشاط يقع خارج هذا القيد. فالقول المشهور (ان حدود حريتك تنتهي او تقف عند بداية حرية الاخرين) هو قيد على حرية التعبير اذا ما أدى ممارسة تلك الحرية الى المساس بمعتقدات او حياة او ثقافة الاخرين مثلاً، ومن ثم، فليس من الصحيح ان يُحسب القيام بأية فعالية بوجود هذا القيد على انها ضمن حرية التعبير، فما يعبر به الفرد، بشتى أنواع التعبير المكتوب والمرئي، مع وجود مثل هذا القيد وغيره من القيود التي سنستعرضها بعد قليل لا يعد من حرية التعبير التي تحتاج الى الاطلاق حتى يصدق عليها لفظ الحرية ( تماماً نظير التقابل بين الحر والعبد)، ويجب ان يستثنى هكذا تعبير مقيد من قانون حرية التعبير عند سن هذا القانون، ولابد من تنظيمه في قانون اخر حتى لا يتم الخلط بينه وبين حرية التعبير الحقيقية التي اقرها الإسلام، وثبتها في القرآن الكريم باعتبارها جزء أساس من حقوق الفرد، بل أن بها يتم حفظ تماسك المجتمع ككل.
وبناء على التمييز الفائت، تقتصر حرية التعبير في الإسلام على امرين اثنين هما: الامر الأول هو الجهر بالمظلومية، وهو مستمد من قوله تعالى (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول الا من ظلم)، اما الامر الثاني فهو الإصلاح وهو مستمد من قوله تعالى (كنتم خير امة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر). والمظلوم يحق له ان يبين مظلوميته والجور الذي وقع عليه من خلال الدفاع عن حقه بشتى الوسائل التعبيرية من دون التعدي على الاخرين (غير الظالمين له) او الممتلكات، وقيد عدم التعدي هذا هو ليس مثل قيد: حريتك تنتهي عن حدود حرية الاخرين؛ لأن المظلوم يريد ان يعبر عن مظلوميته وينقذ حقه بشتى الطرق، ولا علاقة لذلك بالتعدي حيث سيخرج موضوع المطالبة من رفع الظلم الى قضية جنائية، ولكن ذلك لا يسقط حقه بالمطالبة بحقه، فهذا موضوعان مختلفان كل واحد له حسابه. اما الإصلاح في المجتمع فيقع تحت عنوان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد طبق ذلك الامام الحسين عليه السلام بدقة حيث انه- عليه السلام- استعمل كل وسائل التعبير من حشد الناس وتبيان فساد الحاكم الاموي يزيد والسلطة الاموية من دون ان يبدأ الفاسدين بقتال حتى يبادروا هم. فقد كان الحسين عليه السلام يصف يزيد الحاكم الاموي ويطعن بشخصيته واداءه السياسي والاداري في نفس الوقت حيث قال أن يزيد (فاسق فاجر، شارب الخمر، قاتل النفس المحرّمة، معلن بالفسق والفجور)، وقال ايضاً ان (هؤلاء- بني امية- قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله). اما عدم رضا الحسين عليه السلام او كراهته ان يبدأ جيش يزيد الظالم بقتال فهو كي لا تتحول قضية الإصلاح المشروعة والمسنونة ضمن حرية التعبير المطلقة الى قضية جنائية، ولهذا تراه -عليه السلام - اقتطع وقتاً طويلاً في ساحة المعركة من اجل عرض قضية الإصلاح، ولم يبدأ القتال الا بعد ان أطلقوا سهامهم عليه حتى تبقى نطاق المطالبة ضمن حدود التعبير اللفظي في المرحلة الاولى، ولو لا سهامهم لما انتقل لمرحلة أخرى - غير التعبير باللسان- وهو القتال لفرض عملية الاصلاح. اما من يظن او ينتقد الحسين عليه السلام من أنه بخروجه لغرض الإصلاح قد شق عصا المسلمين وخلق فتنة في الإسلام والمجتمع الإسلامي باقية الى اليوم فهو مخطئ تماماً ولم يفهم او يدرك حرية التعبير التي اطلقها التشريع الاسلامي؛ لأن الحسين عليه السلام كان قد استخدم وطبق حرية التعبير المطلقة التي شرعها الإسلام ولم يخالفها او يتجاوزها قيد شعرة.
وحتى لا يختلط الموضوع على القارئ، فأن دفع الظلم الفردي شيء وإصلاح النظام السياسي والاجتماعي شيء اخر، اما الحالة الأولى فهي يمكن ان تقع ضمن نظام ديمقراطي يمكن للفرد في حالة العجز عن الحصول على حقه الشخصي ان يلجأ الى الجهر به ولا يحق لاحد ان يمنعه او يقيده او يحاسبه. بينما الحالة الثانية وهي الإصلاح فهي قضية تخص المجتمع ككل، وسيكون في الواجهة والمواجهة كل شخص يعمل في إدارة الدولة، عليه ان يتوقع ان يكون معرضاً للانتقاد من أي فرد من المواطنين كما فعل الامام الحسين عليه السلام، ولا يحق لهذا الشخص وهو في المنصب ان يشتكي عليه او يوجه قوة امنية لأسكاته او يمنعه من النشر او الظهور الإعلامي او الكتابة في وسائل التواصل الاجتماعي او التظاهر..الخ، او يتهمه بالتسقيط.
اما حرية التعبير المحدودة او المقيدة فقد اشار اليها القرآن تحت عنوانين اخرين يمثلان حدود او قيود على حرية التعبير. اما الحد او القيد الأول لها فهو احداث فتنة في المجتمع كما في قوله تعالى (ان الفتنة اشد من القتل)، واما الحد او القيد الثاني لها فهو إشاعة الفاحشة كما في قوله تعالى (ان الذين يحبون ان تشيع الفاحشة في الذين امنوا لهم عذاب اليم في الدنيا والاخرة). والتجاوز على هذه القيود او الحدود لأي نشاط او فعالية مكتوبة او غير مكتوبة ليست من حرية التعبير في شيء، ولهذا سيتعامل معها حسب القانون والتشريعات؛ لأنها لا تخدم المجتمع بل تدمره، ومنعها لا يعني قتل المواهب والابداع كما قد يصور البعض هذا المنع على أنه خنق للحريات، فأي فعالية او نشاط تقود الى افساد المجتمع او خلق الفتنة بين ابناءه ليست من حرية التعبير في شيء. وأفضل مصداق على هذه العناوين في زمننا هو ما يعرف بـ(المحتوى الهابط) واشباهه، وتشمل أيضا العقائد الفاسدة والتبشير بها التي تدعو الى الانحراف عن الفطرة السليمة كالالحاد ومنهج التشدد الذي يقود الى قتل او الاقتتال بين فئات المجتمع.
اما الداعي للبحث عن الكشف عن نظرية لحرية التعبير (مستنبطة ومستمدة من الشريعة الإسلامية) فهو الخلط الواضح من الجهات الحكومية بين الحرية المقيدة والحرية الحقيقية التي ثبتها الإسلام. وقد حصل معي هذا شخصياً عندما امتنعت العديد من الصحف عن نشر مقالاتي مؤخراً الامر الذي دفعني الى التفتيش في التشريع الإسلامي وتطبيقاته من قبل الائمة عليهم السلام لوضع نظرية لحرية التعبير لا شوب عليها ولا جدال. فقد امتنعت مؤخراً العديد من الصحف المحلية عن نشر بعض مقالاتي خشية من تعرّضها لأذى اقتصادي او الشكاوى في المحاكم (وهم معذورون حيث تمارس عليهم الحكومة ضغط اقتصادي من خلال حجب الإعلانات الحكومية عن صحفهم او اتهامهم بالتحريض ضدها). ونشر هذه المقالات تقع ضمن الحرية المطلقة المكفولة في الشريعة الإسلامية ويجب ان يحميها القانون ويدافع عنها القضاء. ومن ضمن عناوين مقالاتي المرفوض نشرها هي (1. لماذا التطبيع مع دولة إسرائيل!، 2. جريدة الصباح لصاحبها السوداني،3. ما بعد قمة بغداد...الخ) بدعوى انها تنتقد الحكومة مع ان نظرية حرية التعبير التي استنبطناها هنا قبل قليل تلزم الحكومة بقبول الانتقاد حتى اذا كان قاسياً كما فعل الحسين عليه السلام مع الحاكم الاموي يزيد.
ان حرية التعبير في العراق ستبقى ناقصة ولا تتوافق مع الإسلام الذي هو مصدر التشريع في الدستور ما لم يطلق يد الكتّاب وغيرهم من عرض انتقادهم لكل شخص موجود في المنصب وعلى رأسهم السلطتين التشريعية والتنفيذية لكون غاية حرية التعبير في الإسلام هي الإصلاح ورفع الظلم، اما تنمية المواهب بأفساد المجتمع وتدميره فهذه خارج عن مفهوم حرية التعبير في الإسلام بل تمثل حرباً عليه وعلى المسلمين. وليكف المنتمين للسلطة من تهديد الصحف بل وتهديد اصحاب الرأي باللجوء للشكوى ضدهم كونهم ينتقدون اعمال الحكومة ورئيسها عبر ما يكتبوه من مقالات او منشورات على منصات التواصل الاجتماعي او الحديث في وسائل الاعلام.