إبراهيم العريس
في عام 1980 وقبل رحيله بنحو عقد ونصف العقد من الأعوام حقق فيديريكو فلليني "واحدة من مآثره الكبرى". أي حقق واحداً من أقل الأفلام نجاحاً في تاريخه الفني، بل حتى بحسب ما وصف الأمر بنفسه "واحداً من أكثر أفلامي تعرضاً للهجوم ولسوء التفاهم". وهو كان يتحدث، كما نفعل نحن هنا بدورنا، عن فيلم "مدينة النساء". ومع ذلك حين ولدت الفكرة لديه قبل ذلك بأكثر من 10 أعوام، كان يعتقد أن الفيلم سيحدث قلبة في تاريخه الفني بحيث يستقبله الجمهور، الخاص والعريض في الوقت نفسه بترحاب شديد. لكن أياً من جناحي ذلك الجمهور لم يرحب بـ"مدينة النساء" ولا حتى رحب به غلاة النقاد "الفللينيين".
وكذلك لم يبدِ إعجاباً تجاه الفيلم أي من المخرج السويدي الكبير إنغمار برغمان، والكاتب البلجيكي الأكبر جورج سيمنون. ولكن لماذا ترانا نذكر هذين هنا؟ ببساطة لأن هذا الفيلم لم يولد لدى فلليني إلا من خلال حوارات له معهما وحثهما له على إنجازه لتوه باعتبار أن الفكرة التي فاتحهما بها كانت بديعة. فالذي حدث حينها أن لقاء جمع بين برغمان وفلليني جعل الاثنين يغوصان في تحليل علاقة سينما كل منهما بالمرأة بل حتى اتفاقهما في نهاية الأمر على أن يحققا فيلماً "نسوياً" مشتركاً يعنونانه "ثنائي الغرام"، بينما تناول لقاء آخر لفلليني مع الروائي غزير الإنتاج سيمنون، الذي دار الحوار فيه من حول فيلم "كازانوفا" الذي كان المايسترو الإيطالي قد حققه وأثار سجالات صاخبة، في عام 1976، تناول نظرة فلليني إلى الذكر زير النساء الذي كانه كازانوفا بحكاياته مع الجنس الآخر، ففوجئ فلليني بسيمنون يخبره قائلاً "وما الغرابة في الأمر... أنا نفسي أقمت 10 آلاف علاقة في حياتي... حتى الآن؟!". ونعرف طبعاً أن المشروع مع برغمان قد أجهض إذ انصرف هذا الأخير لخوض تجربة السينما النسوية من جديد، ولكن وحده في أول فيلم بالإنجليزية حققه، "اللمسة" أوائل سنوات الـ70. بينما انتظر فلليني نحو 10 أعوام قبل أن يعود إلى المشروع. ويا ليته لم يعد!
بداية يمكننا القول إن مشروع "مدينة النساء" منذ كتبه فلليني على الورق، لم يقنع أياً من منتجيه المعتادين فاستنكفوا جميعاً عن تمويله. وكذلك فإن كثراً نبهوا المخرج، النبيه على أية حال دائماً وأبداً، إلى أن الفيلم الذي واضح منذ عنوانه أنه يحاول أن يتناول "قضية النساء"، لن يثير إعجاب النساء لأن الحركات النسوية كانت منذ الستينيات قد تجاوزت تلك الرؤى التبسيطية، وتلك الحكايات التي تحت غطاء الدفاع عن المرأة تستخف بها وبنضالاتها. لكن السينمائي الكبير لم يقتنع بمحاججات مناوئي مشروعه ولسوف يدفع ثمن ذلك العناد غالياً. فهو على أية حال حقق الفيلم كما أراد له أن يكون، بل إنه جعل من "مدينة النساء" نوعاً من استعادة ساخرة لعدد لا بأس به من "التيمات الفللينية"، بل حتى لمشاهد ومواقف كان مشاهدو أفلامه السابقة قد خبروها وأحبوها في "جولييت الأرواح" و"ثمانية ونصف" وعموماً في أفلامه الأكثر ذاتية بصورة عامة. وهو للإمعان في ذلك، عقد البطولة، من جديد لممثله المفضل وأناه الآخر مارتشيلو ماستروياني مع لمسة تجديدية لعلها كانت الأكثر طرافة في الفيلم. إذ ها هو في عناوين الفيلم يجعل صوتاً نسائياً يصرخ من خارج الشاشة قائلاً "مارتشيلو من جديد يا سيد فلليني!" وذلك رغم أن ماستروياني يحمل في الفيلم اسم السيد سبانوراز الذي يبدأ به الفيلم وهو يقوم برحلة في قطار. لكنه خلال الرحلة يجد نفسه مجتذباً بامرأة رائعة الجمال لا يتوقف عن التحديق بها فيما هي لا تكف عن زجره. وحين يتوقف القطار عند محطة تريد المرأة مبارحة القطار فيها، يترك بطلنا القطار بدوره من دون وعي تقريباً ليلحق بها. إذ يغادر سنابوراز القطار من دون وعي يفقد أثر المرأة التي أغوته ويسير على غير هدى في مدينة لا يعرف عنها شيئاً... ثم ما إن يصل إلى منطقة غابات عند تخوم المدينة يجد نفسه وسط أعداد لا تحصى من نساء غريبات الملابس والتصرفات تبدو على وجوه معظمهن سمات الغضب الشديد. فيكتشف أنه وصل إلى منطقة ينعقد فيها مؤتمر لمناضلات الحركات النسوية اللاتي ينصب غضبهن على الرجال بصورة عامة. صحيح أن صاحبنا ليس الذكر الوحيد وسط تلك المجموعات من غاضبات "الجنس اللطيف" والغاضبات إلى درجة تنزع عنهن ذلك اللقب الأبدي، غير أنه يلاحظ بسرعة، وفي وقت يكتشف فيه وجود رفيقته في القطار بين نساء المؤتمر الأكثر غضباً، أنه يكاد يكون المستهدف الرئيس من الغضب النسوي المستشري. وهكذا يبدأ الركض هارباً من جموع زاحفة نحوه لم يعد يدري هو ما الذي اقترفه في حقها، ولماذا هي تطارده الآن. في لحظة يخيل إليه معها أن راكبة دراجة نارية تسعى إلى إنقاذه إذ تدعوه إلى مشاركتها دراجتها، تحاول هذه قتله بعد محاولتها اغتصابه. فيهرب من جديد ولكن عصابة من مراهقات شرسات لا تلبث أن تطارده وعلى سيماء عضواتها كراهية مهددة. فيهرب من جديد حتى يجد نفسه ملتجئاً إلى رواق يجد فيه طبيباً منشغلاً بالاستماع إلى تسجيلات قام بها بنفسه يتحدث فيها عن علاقاته ومغامراته الغرامية مع ما لا يقل عن... 10 آلاف امرأة في حياته... حتى الآن! على الفور يشركه الطبيب الذي يعرف نفسه بكونه "الدوتوري كاتزوني" في تجربة الإصغاء ويبدأ في إزجاء النصح له بكيفية التعامل مع... وتلك "الخلطة" تأتي عند نهاية الفيلم منطقية على أية حال، أو تتحول إلى منطقية في ذروة كابوسية ما يحدث لصاحبنا في مجابهته، من ناحية لما يصوره له حديثه مع "الدوتوري"، وما ينتظره على أيدي النساء الغاضبات المطاردات له، من ناحية ثانية، حين يعود الفيلم إلى تلك اللقطة في القطار حيث سهت عينا سنابوراز لثانية وهو يحدق في جارته في الرحلة، إذ كان في نهاية الأمر يرمي إلى محاكمة سينما فلليني بالنسبة إلى تعاملها مع قضية المرأة، وربما محاكمة كل السينما في ذلك المضمار، جعل من نساء الفيلم، ولو في الحلم الذي لن نكتشفه إلا في الدقائق الأخيرة منه، مادة للسخرية ولكن أيضاً جعل منهن العنصر الشرير، ولكن طبعاً ومن منظور كاتب الفيلم ومخرجه، عنصر الشر والعدوانية في الفيلم/ الحلم. ومن المؤكد أن عدم وصول هذا البعد الذي يتسم أكثر ما يتسم بنوع من السخرية من الذات، كان في خلفية إخفاق الفيلم وفكرانيته في الوصول إلى الجمهور، فبدا في نهاية الأمر فيلماً متهافتاً لا يتجاوز في أحسن حالاته كونه فيلماً كوميدياً، وبخاصة من خلال تلك المشاهد خلال "المؤتمر" التي تفننت فيها النساء المشاركات في تقليد كبار هزليي السينما والسخرية منهم ومن... ذكوريتهم.