عندما يزور الطاهر بن جلون قبر جان جينيه في المغرب بعد 20 عاما من رحيله
25-أيلول-2022
إبراهيم العريس
بعد رحيل الكاتب الفرنسي جان جينيه عن عالمنا، أواسط شهر أبريل (نيسان) 1986، تداول كثير من الصحف ما كتبه الروائي المغربي الطاهر بن جلون يومها حول الزيارة التي قام بها إلى قبر جينيه في الأعراش المغربية غير البعيدة عن طنجة حيث دفن صاحب "الخادمتان" و"الأسير المتيم" في مقبرة مسيحية كان -بحسب بن جلون- آخر "نصراني" يدفن فيها، بل ربما أيضاً آخر مسيحي يدفن في المغرب. ولقد لاحظ الكاتب المغربي كذلك أن قبر جينيه المجاور لمياه المحيط في تلك المقبرة البحرية يقع في بقعة من الأرض تمتد بين سجن وماخور سابقين، معلقاً أن ما من مصير كان في إمكانه أن يشبه مصير جينيه بقدر مصيره هذا بعد الموت. وبعد ذلك بعشرين عاماً عاد بن جلون ليزور قبر جينيه بعد غياب ليكتب نصاً جديداً استوحاه من تلك الزيارة، وهو نص عدل فيه بعض ما كان رواه في النص السابق، وأضاف كثيراً من الأمور التي لم تسعفه الذاكرة للحديث عنها في غمرة حزنه آنذاك لرحيل صديقه الكاتب الفرنسي المشاكس.
الولد المحروم من أمه
وكانت مناسبة تلك الزيارة ندوة أقيمت لمناسبة ذكرى الرحيل حول حياة جينيه وأدبه جعلت بن جلون يتطلع إلى القيام بالزيارة، آملاً أن تمكنه من معرفة ما قد يمكن أن يكون عليه رأي جان جينيه في الندوة، بل في ما "يحدث له بعد رحيله"، وهو الذي لم يكن يخفي كما يخبرنا بن جلون أن كل ما كان يهمه خلال المرحلة الأخيرة من حياته إنما كان مصير الشعب الفلسطيني، المصير الذي يتناوله على طريقته من خلال كتابه الأخير، الذي يسميه بن جلون "رواية"، ويحكي الكاتب الفرنسي فيه حكاية حمزة المقاتل الفلسطيني الذي يسعى للعثور على أمه. ومن الواضح أن الطاهر بن جلون يبدو على حق تماماً، إذ يتساءل عما إذا لم يكن البحث في "الأسير المتيم"، وهو ذلك الكتاب الأخير، عن أم جان جينيه أيضاً؟ فجان جينيه كذلك عاش حياته مثل حمزة أسير جرح هو جرح كل ولد حرم من أمه.
تعديلات جوهرية
مهما يكن من أمر، فإن من التبديلات اللافتة تلك الفقرة الجديدة التي يقول فيها بن جلون إن قبر جينيه ليس في حقيقته واقعاً بين سجن وماخور سابقين، بل الواقع كذلك إنما هو البيت الذي عمره جينيه لآخر صديق له، الشاب المغربي المدعو محمد في تلك المنطقة بالذات "بيد أنني لاحظت أن البيت، حتى البيت، لا يقع بين مكانين كهذين". إذاً، فالحكاية ليست دقيقة، لكنها ليست أهم ما في الأمر. الأكثر أهمية هنا هو أن بن جلون يذكر في النص الجديد كيف أن جينيه مات مباشرة بعد سيمون دي بوفوار الكاتبة وصديقة جان بول سارتر بيوم واحد، مما ذكر كاتبنا المغربي كيف أنه كان حين رحل سارتر قبل ذلك بست سنوات أول من نقل إلى جان جينيه الخبر، سائلاً إياه رأيه ليس في سارتر بصورة عامة، بل في الكتاب الذي كان هذا الأخير قد وضعه عن جينيه منذ وقت مبكر بعنوان "جان جينيه قديساً وشهيداً"، وهو الكتاب الذي أسهم مساهمة أساسية في الشهرة التي تمتع بها جينيه منذ ذلك الحين.
يذكر بن جلون اليوم أن جينيه، وكرد على السؤال، نفخ في سيجاره الصغير نافثاً دخانه وهو يقول "إذاً مات سارتر! إنه ليس أكثر من دخان سيتلاشى في الهواء!". وكان من الواضح لبن جلون أمام موقف جينيه أن هذا الأخير لن يغفر أبداً للكاتب والناقد والفيلسوف الكبير تلك "البلاطة" الصلبة التي اقترفها في حقه، وكيف أنه قد حنطه بها. والحقيقة أن تلك هي المرة الأولى التي ينقل عن جينيه رأيه الصريح في كتاب لولاه لما عرف كثر من الناس شيئاً عن شخصية ذلك الكاتب البائس، الذي يكتب روائع روائية ومسرحية وهو نزيل الفنادق الرخيصة وأقسام الشرطة التي تعتقله مرة كسارق ومراراً كمنحرف.
لا يحبهم إلا متألمين
وفي نصه التذكاري هذا، يروي بن جلون كيف أن جينيه قد دفن كالمسلمين ورأسه متوجه صوب مكان القبلة في مكة البعيدة، وهو الذي لم يكن مؤمناً بشيء بل لا يحب البشر إلا إذا كانوا يتألمون ومن الخاسرين. وأمضى حياته يستفز المؤسسات وعلى رأسها الدولة والناس الذين "يقبضون" أنفسهم أكثر من اللازم، وكان دائماً ما يدافع عن قضايا الخاسرين اليائسين وكان يعلن شيئاً من التعاطف مع الإمام الخميني "لمجرد أنه كان آخر الذين وقفوا ضد الغرب". ويتذكر بن جلون هنا كم أن علاقة جينيه بالمغرب كانت على الدوام علاقة ملتبسة، "فهو كان يمقت طنجة التي تذكره بالكوت دازور الفرنسية، لكنه يحب الرباط حيث كانت تسكن في ذلك الحين صديقته ليلى شهيد السفيرة الفلسطينية وزوجة الناقد المغربي محمد برادة. وهو كان يعشق مدينة فاس التي تعرف فيها إلى محمد قطراني الذي سيضحى آخر صديق له، كما يؤكد بن جلون الذي يضيف أن جينيه التقط محمد في وقت كان هذا "شريداً ينام ليله في الأزقة بعد أن سرح من الجيش ولم يعد يعرف ما الذي ينبغي عليه فعله في تلك المدينة العتيقة". وهنا يستطرد بن جلون مؤكداً أن جينيه اصطحب محمد إلى باريس حيث لم يلبث أن زوجه ابنة جيران له وأنجبت هذه لمحمد وليداً "سارع جينيه إلى أن يطلق عليه اسم عز الدين تيمناً بصديقه المسؤول الفلسطيني عز الدين القلق، الذي كانت استخبارات صدام حسين قد اغتالته في العاصمة الفرنسية".
"متى أترك الفلسطينيين؟"
وهنا في إطار حديثه عن العلاقة بين جان جينيه والمغرب، ذكر بن جلون أن جينيه لم يدل بأي رأي، "خلال السنوات العشر الأخيرة من حياته" والتي كان يلتقيه باستمرار فيها "حول القضية الصحراوية"، التي كانت ولا تزال الشغل الشاغل للسلطات المغربية بل حتى الشعب المغربي كله، "فجينيه في نهاية المطاف كان يكرس كل ما لديه من نقد مرير للغرب بصورة عامة ولوطنه الأم فرنسا بصورة خاصة"، وهو الذي لم يكن ليرضى أبداً عن فكرة أن وطنه قد ألقى به في السجون مراراً وتكراراً بسبب جنح هزيلة، ولا عن كونه قد عاش من دون عائلة واعتبر دائماً ابناً لمؤسسات الرعاية الاجتماعية. وهنا إذ يستطرد بن جلون كاتباً أن "كل هذا إنما كان يذكر الكاتب الراحل بكم أن فرنسا لا تتوقف عن معاملة البؤساء والمهمشين تعاملاً في غاية السوء". ويختم الكاتب المغربي هذه الذكريات بأنه واصل طوال تلك السنوات العشر أحاديث مستفيضة مع جينيه حول كل تلك المسائل. وهو "كان معادياً لمفهوم الدولة بشكل بالغ الحدة كما معادياً لجيوشها وشرطتها. وكان يناصر الفهود السود في أميركا لأنهم ضحايا التمييز العنصري، لكنه في المقابل وقف مؤيداً الفلسطينيين لمجرد أنهم لا يملكون دولة وهمس لي ذات مرة: في اليوم الذي ستصبح فيه للفلسطينيين دولة ولهذه الدولة جيش وشرطة، سأكف عن الاهتمام بهم!".
الأدب غائباً
ويبدو من اللافت حقاً في النهاية هنا ما يخبرنا به بن جلون من أن جينيه كان "يكره الكلام عن الأدب، حريصاً على أن يتناسى في تداولاتنا أدبه وكل ما له علاقة به". كان ذلك الأدب هو المسكوت عنه الحقيقي بين ذينك الأديبين الفرانكوفونيين الكبيرين. وحين كان يحاول بن جلون، كما يروي، أن يجره إلى الحديث عن كتاباته "كان جينيه يكتفي بأن يقول إنه في حقيقة أمره لم يكتب إلا بوصف الكتابة وسيلة لإخراجه من السجن"، يفسر بن جلون قبل أن يضيف "حين كنت أقول له إنني أجد لغة كتابته كلاسيكية وتتسم بجمال فائق، كان يكتفي بأن يقول معلقاً: على المرء أن تكون كتابته فوق الشبهات. لهذا كنت أبذل كل ما أملكه من جهد لكي أنحت كلماتي كما تنحت الجواهر"، مضيفاً أن "هذا ما أنقذه وساعد صديقيه جان كوكتو وجان بول سارتر على إخراجه من السجن".