فلاح رحيم ... ليلة الثاني من آب الصعود نحو الهاوية
31-أيار-2025

رعد كريم عزيز
من العتبة الاولى لروايته "ليلة الثاني من آب"الصادرة عن دار الرافدين ببغداد ,يذهب الروائي فلاح رحيم الى مسلمة مهمة تنتسب الى الجهة الفكرية الفلسفية الغارقة في ان التكرار هو الثيمة الزمنية الثابتة لانسان عراقي مر بالمحنة دون ان ير النور في نهاية النفق ,وهل ثمة نفق ما في هذه المحنة؟ انها المقدمة التي تستل رأي الروائي "ايتالو كالفينو" بان الذئب سيكون ذئبا اخر والاخت اختا اخرى ,بمعنى المتغيرات التي تصيب الانسان بفعل عوامل التعرية الانسانية.
ومن الكتابة الاولى نتعرف على مقاصد الكاتب الذي يضع المنمنات الرمزية / الدخان /النفط /الارضة / وفق تاريخ الثاني من اب 1990 اضافة الى ذكر اخته والبكاء وامه وعاشوراء الذي يصادف مع التاريخ في 2 آب (اندلعت الحرب بعد شهر من مباشرته العمل فكانت البداية اشبه بما يقدم من اطايب للمحكومين بالموت قبل التوجه الى المقصلة"ص 13.
علينا ان نحترس حين نرغب بالتاويل في سرد فلاح رحيم فهو متربص لنفسه اكثر مما يتربص لمتابعه/ او الذي يقرأ نصوصه ,ثمة تلاحم فكري وفني وفلسفي واحساس عالي الجودة في جملة يكتبها فلاح رحيم في رواية تستغرق منه زمنا طويلا يحف به الاخلاص لفنه ورؤيته النافذة في سبر اغوار العمل الروائي.
في كل ما يكتبه رحيم غزل الخيوط المتناثرة وفق حياكة مدروسة تتداخل فيها الشخصيات بكل حريتها المقيدة بالاجبار السلطوي الذي يحيلها الى الذكريات ,لانها لم تكن تملك حرية الاختيار الا بالقدر الضئيل من المساحة التي تحيطها السلطة بالعسس والاسلاك واخبار الوشاة,لذا يعمد رحيم الى عدم اغفال اية اشارة او رائحة او صورة تمت بصلة للثيمة الكبرى في الرواية التي تعني العراقي في محنة حصار التسعينات من القرن الماضي وكانه سينمائي يمرر بطله بجانب الجدران المحملة بالصور التي ترمز لحياته لتنطبع في ذهن القارئ منذ البداية حتى يصل به الى التاثير الطاغي لمتابعة القراءة(يتذكر كل هذا كما لو انه رآه في حلم ليلةامس,فالحلم وحده بمنطقه الغريب قادر على جمع هذا الشتات المتناثر : الانسة جولي ,دبيب الارضة,رائحة النفط ,الهواء الطلق ,العاشر من المحرم,لم تترسب كل هذه النتف المتباعدة على قاع واحد الا بعد مرور زمن طويل.)ص 10
وكذلك الحوار بين الشخصيات يمشي بجانب السرد وبالاتجاه الذي يريده الروائي فهو سلس وواف ومكتف الى الحد الذي يجعله متوافقا مع سرد الحكاية وبذلك فهو يرسم شخصيات تملك الحوار والذاكرة والوجود المرسوم داخل الرواية بدون تدخل مباشر وهذا ما يساهم في تجسيد الشخصيات سيما بجانب الاسئلة المصيرية المتعلقة بالحرب والجوع والوعي بالحصار الانساني والاضطهاد القاهر للشخصية العراقية
(- تسرحت من خدمة الاحتياط قبل اقل من ثلاثة اشهر.
حدقت فيه غير مصدقة.
- الم تتسرح من الخدمة لثلاثة اشهر فقط عندما عدت اليها في حرب ايران؟
كان لابد من منطق اللامنطق يهدئ من روعها .اعانه ابوه:
- سليم يحمل شهادة عليا هذه المرة وهؤلاء يتم استثناؤهم دائما.هذا ما اتفق عليه كل من سألته في المقهى.)ص 30
هنا يعطينا فلاح رحيم اقتصادا ورشاقة في الحوار الذي يتداوله الناس عن الحرب وهم يلوبون من الدعوة للخدمة العسكرية بلا زوائد حيث يذهب الابناء الى الصحراء تاركين دفء البيوت ,اضافة الى مصدر التطمين الذي اشاعه الاب صادر من جلاس المقهى ,وهو تطمين يحمل مرسوما شعبيا يعاكس مراسيم السلطة وقراراتها العسكرية,انه نوع من التشبث بالامل حتى لو كان تشبثا واهيا وغير صادق.
وعمد الروائي فلاح رحيم الى نشر خماسية روائية بدأها من قمة الهرم في روايته "القنافذ في يوم ساخن" نزولا الى ايام الحصار الاقتصادي القاهر على العراق عقب دخول النظام السابق الى الكويت بعد نهاية الحرب العراقية الايرانية.فاذا كانت كل رواية متصلة بالاخرى وبطلها سليم اضافة الى هدى والتي يصف علاقته بها(لن يكون ناطح الصخر!اعتراه وهو يغادر اللقاء تعب مفاجئ ادرك معه ان اصراره على حضورها في حياته وهم لابد من علاجه قبل ان يصبح مرضا مزمنا) ص 24 . فان استقلالية الحكاية متوفرة في كل رواية على حدة,وكل قصة مستقلة عن الاخرى على الرغم انها تشكل الاستمرار وهو بذلك يحقق القراءة الاكثر تعددا لكل رواية ولكل جزء يشد القارئ .وما علاقته بهدى التي تتنازعها عوامل الشد والجذب الا وسيله درامية لتفعيل الحبكة التي تاخذ بالسرد وترقب
تحولاته الى النهاية.
واكثر ما يشغل سليم هو العيش تحت مهيمنة نبرة واحدة لا يستطيع الفكاك منها (اليوم هو الثاني من أب 1990 ,هل يكفي هذا الفاصل القصير ليمحو من الذاكرة اهوال ثمانية اعوام من الموت والشقاء والانتظار؟ نبرة المذيع الزاعقة لا تتغير في السراء والضراء ,عند الاحتفال بنهاية حرب وعند الاعلان عن اندلاع اخرى )ص 28
ان العاطفة المشوبة بالحنان والشوق والتطلع نحو علاقات انسانية عميقة متمثلة بشخصية سليم وهدى ماهي الا المعادل الموضوعي المشخص لتنفيذ حكاية سردية مليئة بالفلسفة والتبصر في شؤون حياة معقدة الَمَت بالعراقيين منذ دخول الكويت حتى فتك الحصار بكل خصوصيات العراقي الذي يبيع حاجياته الضرورية من اجل رغيف خبز غير ناضج ,انها الحياة باضعف حلقاتها ,ان تمضغ اي شئ حتى تتنفس والماضي يحيط بك بكل خساراته والحاضر يدفعك الى الجنون فيما المستقبل يوصد ابوابه ويرمي المفاتيح في كيس النفايات لتغدو فرصة العثور عليها مستحيلة.
وان التدبر في ادارة الحبكة وتقاطع شخوصها على المستوي الفكري والاجتماعي اتاح لنا معرفة كل شخصية عن قرب.فاذا كان السرد في طريق عودة الجنود من الكويت سيرا على الاقدام فلديناشخصية "فوزي"وهو قريب جدا من سليم ليسرد لنا حكايته وكيف نجا باعجوبة بعد مسيرة راجلة محفوفة بالمخاطر حتى وصل الى بغداد على شكل شبح الى بيته.
وان اراد الرواي العليم ان يجسد لنا الاعتقالات العشوائية عقب تمرد الناس في المحافظات الوسط والجنوب بعد الانسحاب من الكويت فلدينا " محسن " وكيف تعرض للاعتقال ولولا الصدفة السابقة ومعرفته بالعسكري الذي درسه اللغة العربية لكان في عداد المفقودين في المقابر الجماعية.
اننا نجد في هذه الرواية دروسا موجزة عن الادب المترجم على لسان ضحى وسليم بطريقة درامية غير مفتعلة ,ونجد السياسة على لسان الدكتور صبري ,ولا تفوتنا خبايا المخابرات العراقية عبر ما يقوله نامق اخ هدى ,وكيف تشكلت الحركة الوهابية في المساجد عبر شخصية طارق ,ونعرف مصير من يجادل السلطة حتى وان كان جزءا من ماكنتها الحربية حين تحول مصير الطيار امجد الى السجن بعد ان وشى به احد كتاب التقارير الحزبية.
لا وجود لكلمة او مكان او شخصية خارج سياق البناء المحكم والحبكة عالية الاتقان في هذه الرواية فان كان الرواي يتحدث عن اثار الحصار فهناك بيت مدينة الحلة وتكدس البشر وهم يحرقون الملابس القديمة كي يطبخوا لقمة تعينهم للبقاء احياء,وان كان الرواي ينقل لنا العيش العراقي في الجانب الاخر فهناك كلية التراث الاهلية والملابس الفاخرة والشباب المرحين في منطقة المنصور الارستقراطية ببغداد.
وان اراد الراوي العليم ان يجسد فكرة العامة عن الوضع فانه يذهب الى سائق التكسي الذي يوصل سليم للكلية وهو يهذر بالشعارات التي يقرف منها سليم بالمقابل ونحن نتابع في الصفحة 39 نجد ان من يعيش في الحياة العامة بعيدا عن سليم يمكن ان يكون انيقا ومبتهجا بغض النظر عن الظروف التي يعيشها سليم:
(عيون تبرق بالفضول والحرص تتسابق الى التقاط المعلومة وتبادر الى التفاعل مع ما يقول) حيث تتحول اللغة من الوصف لتمزق النسيج الاجتماعي ووعورة الحياة والمشاعر الى اللغة العاطفية السلسة وهي تصف الترف والاناقة والعيش الرغيد.
وتتهيكل رواية الثاني من آب وفق التضاد والتقاطع بين سليم ومن يرتبط معه عائليا او عبر الصداقات المتينة وبين هدى وعائلتها التي تسكن الحي الراقي في الاميرات ببغداد ,وتتشاكل الشخصيات بالتناقض في الثقافة والاحساسيس ازاء السلطة فاغلبية من يعرفهم ويتعايش معهم سليم هم من الذين لايطيقون السلطة والبعث ,فيما يقف بالضد منهم الطبقة الاقرب الى السلطة والثروة,ويبقى هذا التناقض صعب على الانمحاء وحتى في حالة التقارب بين المعسكرين فانه يبقى قيد المحاولة كما هو الزواج المتاخر بين سليم وهدى في فندق المنصور ميلياوالسرير المنفصل كناية عن اختلاف واضح في الوجود الاجتماعي وهذه العلاقة محاولة للتقارب (-الحل
-نجمع السريرين مرة اخرى
-ونحاول!
قالت ضاحكة:
-ونحاول!
وهكذا انقضت الليلة في التنقل بين سرير وسرير ومنطقة وسطى لا سبيل الى تفاديها عندما يلتف الساق بالساق) ص268 .
ويجوز لنا ان نقول ان حياكة السارد العليم تجيد ربط العلاقات لكي يستمر السرد نحو قصده في رصد فترة دخول الكويت الذي اوصل الشعب العراقي الى قاع الجوع الموحش,وابلغ شخصية هي شخصية "ضحى" التي يتبين سليم بانها اخت هدى والتي يلتقي بها في الجامعة الاهلية حتى تصل الاحداث الى تضرر عائلة هدى بسبب البعث وحصاره لاقرب الناس اليه كما حصل مع امجد وعلاقته مع اخته هدى بعدما مست النيران الجميع ,الذين امتنعوا عن التصفيق والذين الهبوا اكفهم من التصفيق(اعطب روح امجد وقلب طباعه مقتل حارث ثم حادث طرده من الخدمة دون وجه حق وهما حدثان قربا بينه وبين هدى وجمعهما في فقاعة سخط واحدة)ص 180.
هنا يكتب الروائي مفردة فقاعة وهي لا تشير الى المتانة بقدر ما تصب في معنى ضياعها بسهولة وهذه الفقاعة هي من سهلت زواج سليم من هدى في كناية الى ان الخاسرين يلتقون في زفير حسرة واحدة تدفعهم للتكاتف في لحظة زمنية قاهرة.
وثمة احساس وجداني يكرره فلاح رحيم في ان اغلب الاحداث تعاد بين فترة واخرى في تعبير عن اليأس الذي تلبس العراقي في تلك الحقبة الكالحة حين يقول سليم وهو مطرق (-اصعب ما في حالتنا المزرية ان المستقبل صار كلمة تثير الرعب)ص 120.لذا نرى ان الرواية تمشي في خط تصاعدي نحو الهاوية فالعراقي بدأ يبع الكتب والصحون والاثاث بعد حرب ليس لها اساس جوهري او حجة مقنعة الا وهي دخول الكويت ومعادة العالم وتهشم الانسان العراقي وتحوله من النضارة البشرية الى ارض عطشى مشققة –كما جسدته الفنانة عفيفة لعيبي في الوجه الذي تصدر غلاف الرواية.
وتعكس شخصيات عديدة قوة وصلابة الانسان العراقي في شخصية انعام والاب والام حبيب صديق سليم وكيف تدبروا المحنة وهم يعبرون الى الى افق مجهول.
لايمكن ان تصنف هذه الرواية ضمن روايات المذكرات رغم انها تعتمد عليها بكل التفاصيل لان الروائي وزع الادوار بالتساوي على الجميع بميزان سردي رسم خريطة تلك الايام التي اعقبت الثاني من اب في عام 1990 في عراق خرج من حرب قاسية مع ايران ليدخل حربا اخرى اشد قساوة سمحت للحرب ان تدخل البيوت بعد ان كانت على الحدود.

جنوب بغداد.. مواطنون يدفعون 3 مليون دينار «إتاوة» لبناء منزل «زراعي»
12-حزيران-2025
مفوضية الانتخابات: نحتاج إلى 250 ألف موظف اقتراع
12-حزيران-2025
أوجلان يطلب حواراً مع بارزاني وطالباني وعبدي
12-حزيران-2025
لجنة نيابية تكشف انحسار فرص تعديل قانون الانتخابات
12-حزيران-2025
نائب: موازنة 2025 قد تصل البرلمان مطلع تموز
12-حزيران-2025
روسيا: مستعدون لتلقي اليورانيوم المخصب من إيران
12-حزيران-2025
جنوب بغداد.. مواطنون يدفعون 3 مليون دينار «إتاوة» لبناء منزل «زراعي»
12-حزيران-2025
رئيس الجمهورية: أهوارنا المدرجة على لائحة التراث العالمي تعيش حالة مأساوية
12-حزيران-2025
المجلس الاقتصادي: ملتقى العراق للاستثمار سيطلق 150 فرصة استثمارية بـ12 قطاعاً اقتصادياً
12-حزيران-2025
«النقد الدولي» يحذر من تداعيات الحرب التجارية على الأسواق الناشئة
12-حزيران-2025
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech