سمعت جوزيف شومبيتر لاول مرة في عام ١٩٨٥ عندما تحدث عنه توم بوتومور في كتابه "علم الاجتماع السياسي" وعن مفهومه الاجرائي للديمقراطية.
ومنه عرفت انه منذ أن قدم شومبيتر رؤيته الشهيرة في كتابه "الرأسمالية، الاشتراكية والديمقراطية" عام 1942، والذي قرأته بعد ذلك باللغتين، طرأ تحول مهم في فهم الديمقراطية، حيث اقترح مقاربة جديدة تتجاوز التصورات المثالية، لتعرّف الديمقراطية بوصفها "إجراءً مؤسساتيًا" يتمثل في آلية تنافسية لتولي المناصب القيادية عبر انتخابات حرة ونزيهة.
هذا التعريف، الذي أصبح حجر الزاوية في ما يُعرف بـ"المفهوم الإجرائي للديمقراطية"، لا يُقصي القيم الليبرالية المصاحبة لها، وإنما يركز على أدوات تطبيقها. فالديمقراطية في نظر شومبيتر ليست بالضرورة نظامًا يقوم على إرادة "الشعب" ككل، بل هي إطار يتيح للشعب اختيار من يحكمه ضمن شروط محددة.
لكن من الخطأ فهم هذا الطرح بمعزل عن القيم المصاحبة للديمقراطية وبقية القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري وعناصره الخمسة. فلكي تعمل آلية الانتخابات بشكل فعّال وتعبّر عن الإرادة الحرة، لا بد من وجود بيئة تضمن:
١. حرية الرأي والتعبير، بحيث يتمكن المواطن من الوصول إلى المعلومات واختيار قناعاته السياسية.
٢. حرية الاعتقاد، التي تُعطي للفرد استقلالية ضميرية تتيح له اتخاذ قراراته بعيدًا عن الإكراه.
٣. تعددية حزبية، تضمن تمثيل تنوع المصالح والأفكار داخل المجتمع.
٤. سيادة القانون واستقلال القضاء، لحماية الحقوق والحد من تعسف السلطة
٥. المواطنة المتساوية وحقوق الإنسان، كأساس للمشاركة السياسية.
أي أن الديمقراطية كآلية لا يمكن أن تعمل في فراغ قيمي. فغياب هذه المبادئ يحوّل الانتخابات إلى مجرد إجراءات شكلية، تفتقد لمحتواها التعددي والحر.
إن فهم شومبيتر للديمقراطية باعتبارها آلية لا يلغي البعد القيمي، بل يعيد ترتيب الأولويات: فبدلاً من الانشغال بنقاشات نظرية حول "إرادة الشعب" أو "الخير العام"، يؤسس الديمقراطية على قواعد واقعية، يمكن اختبارها وقياسها.
بالتالي، فإن المفهوم الإجرائي لا يُقصي المبادئ الحضارية و الليبرالية، بل يُفترض به أن يتكامل معها. إن نجاح الديمقراطية لا يتوقف على مجرد وجود انتخابات، بل على تحقق البيئة التي تجعل من الانتخابات أداة للتعبير الحر، وليس واجهة شكلية لأنظمة سلطوية.
في هذا السياق، يصبح تطوير الديمقراطية في مجتمعاتنا لا مرهونًا فقط بتكرار الانتخابات، بل بترسيخ ثقافة الحرية، وتعزيز بنية الدولة القانونية، وتفعيل قيم التعددية والشفافية والمواطنة.
وعلى هذا الاساس اعتبرت الديمقراطية الركيزة الثانية بعد المواطنة للدولة الحضارية الحديثة.