يُعدّ مفهوم "الاقتصاد الحضاري" بصيغته المطروحة في هذا المقال من المفاهيم الفكرية الحديثة التي لم ترد مسبقًا في الأدبيات الاقتصادية الكلاسيكية أو المعاصرة بصورتها المنهجية المتكاملة. لم يكن هذا المصطلح متداولًا ضمن أدبيات الاقتصاد السياسي، لا في النظرية الرأسمالية، ولا الاشتراكية، ولا حتى في النماذج المختلطة أو المدرسة المؤسسية الحديثة.
وقد استخدمت هذا المفهوم لأول مرة في سياق كتاباتي لمشروع الدولة الحضارية الحديثة (د.ح.ح)، التي تسعى لإعادة بناء الدولة والمجتمع على أسس معرفية وأخلاقية نابعة من منظومة القيم العليا للمركب الحضاري (الإنسان، الأرض، الزمن، العلم، العمل).
بهذا المعنى، فإن تعريف الاقتصاد الحضاري كما يُعرض في هذا العمل ليس امتدادًا مباشراً لأي من النماذج الاقتصادية السابقة، بل هو تطوير فكري مستقل، يستفيد من التجربة التاريخية للمدارس الاقتصادية العالمية، لكنه يتجاوزها من حيث الرؤية الإنسانية، الفلسفية، والتنموية التي يطرحها.
الاقتصاد الحضاري هو نظام إنتاجي اجتماعي شامل، يُعنى بتنظيم العلاقة بين الموارد (الطبيعية والبشرية) والأنشطة الاقتصادية (الإنتاج، التوزيع، الاستهلاك) في إطار قيم حضارية عليا، تهدف إلى تعظيم الكفاءة الاقتصادية وتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة.
يقوم هذا الاقتصاد على تكامل خمسة عناصر أساسية هي:
1. الإنسان: بوصفه الفاعل المركزي، لا مجرد عنصر عمل، بل محورًا للكرامة والمعنى.
2. الأرض: كمصدر للموارد وثروة طبيعية تُدار بصورة أخلاقية ومستدامة.
3. الزمن: كبعد استراتيجي يربط التنمية بالاستدامة والأجيال القادمة.
4. العلم: كقوة إنتاجية وابتكارية محركة للنمو والتطور.
5. العمل: كقيمة إنسانية ومنظومة إنتاجية تولّد الثروة وتحفظ الكرامة.
ويمتاز الاقتصاد الحضاري بأنه لا يكتفي بإنتاج السلع والخدمات، بل يُعنى بإنتاج القيم، ويخضع النشاط الاقتصادي فيه إلى منظومة معيارية تقوم على:
- المسؤولية الاجتماعية،
- الشفافية،
- العدالة التوزيعية،
التنمية الشاملة.
وهو بذلك يُعد نموذجًا بديلًا عن الاقتصاد الريعي أو الرأسمالي المحض، عبر دمج الأبعاد المادية والأخلاقية في الممارسة الاقتصادية، بما يُسهم في بناء دولة مزدهرة ومستقلة ومعنوية تُعرف بـ"الدولة الحضارية الحديثة".
في سياق "الدولة الحضارية الحديثة" (د.ح.ح)، يتم استبدال الفهم الضيق للثروة التي تقتصر على المال والموارد الطبيعية، بتصور أوسع يدمج القيم العليا التي تشمل العدالة الاجتماعية، استدامة البيئة، والرفاه الاجتماعي للبشر.
الاقتصاد الحضاري يتسم بالترابط بين الإنسان والطبيعة والزمن، حيث لا يُنظر إلى النمو الاقتصادي على أنه هدف مستقل، بل كأداة لتحقيق رفاه الإنسان على المدى الطويل. يضع هذا الاقتصاد الفرد والمجتمع في محور اهتمامه، بينما يعتمد على العمل الجماعي والمؤسسات التي تعزز القيم الإنسانية الأساسية.