نحن الرجال الجوف..
19-أيلول-2023
عامر بدر حسون
بطريقة ما فان حالنا حال اوروبا بعد الحرب العالمية الاولى.
هناك، بعد الحرب وفظائعها، فقد الانسان إحساسه بقوّة القيم التي آمن بها.. وانفتحت حياته على الخيبة والخسارة وعدم جدوى تحويل الانسان الى بني آدم.. والى آخر ما يشبه حالنا اليوم!
في تلك الفترة عبّر (ت. س. اليوت) عن خيبة الامل هذه بقصيدته الشهيرة الارض اليباب (1922) والتي ألحقها بقصيدة الرجال الجوف (1925):
"نحن الرجال الجوف
نحن الرجال المحشوون
المتكئون على بعضهم
مثل حزم ملأى بالقش.
عندما نهمس سوياً
تنبعث أصواتنا المبحوحة
هادئة وعديمة المعنى
ونحن في مخبئنا الموحش
أشكال بلا هوية
وظلال بلا ألوان
قوى مشلولة.. وإيماءات جامدة.
وعندما يتذكرنا أولئك الذين عبروا بجسارة
لن يتذكروننا كمفقودين ذوي نفوس جامحة
بل كرجال جوف..
كرجال محشوين بالقش"!
والقصيدة قاسية في التعبير عن خيبة امال أجيال وانهيار قيم ومنظومات أخلاقية وإيمانية كثيرة.
وظهرت في الثقافة العربية، وفي نفس الفترة تقريبا ولنفس الاسباب، قصيدة لعباس محمود العقاد هي نتاج تأمله وبحثه عن اسباب الانحطاط البشري.
في تلك القصيدة فكرة مبتكرة في المعنى (وهو شيء نادر في الشعر العربي).. ولسوء الحظ فان القصيدة ليست بمتناولي الآن، لكنني اتذكر معناها وهو المقصود بهذه السطور. يقول العقاد ان إبليس عندما تمرد على الله وأخذ على نفسه عهدا بإفساد البشرية.. جرّب مع الانسان الذهب والفضة والسلطة، فصمد بعض الناس في وجهه. وجرب النساء بالرجال والرجال بالنساء، فصمد رجال ونساء في وجه إغراءاته. وعندما يئس من إفساد كل البشر توصل الى الجملة التي ستكون السبب بالحروب بين الأمم وبين الأفراد وحتى داخل العائلة الواحدة! هذه الجملة هي:
"انا على حق"!
قد لا ندرك عمق هذه الفكرة الأصيلة لأن ثقافتنا تشتغل وتفكّر بطريقة "الرجال الجوف" المحشوين بالقش والكلمات المنفوخة والصاخبة، ثقافة كل معاركها الحياتية والفكرية والسياسية قائمة على ترديد جملة الشيطان بأية صيغة، والتي طوروها الى محاولة إرغام الآخر على الاعتراف باننا على حق. فإن لم يقتنع دمرنا حياته وبيته ومدينته وبلده و..قتلناه!
تقول القصيدة ان الناس قبل تلقين ابليس لهم بجملة: "انا على حق" كانوا يتناقشون بانفتاح تام فيتعرفون على الافكار المتنوعة ويتفقون على افضلها، ويختلفون دون أن تؤدي خلافاتهم لكوارث أو قسر أحد على التسليم بصحة رأي الآخر. وعلى العكس من هذا، فقد كان اختلاف الأفكار بينهم يغني حياتهم ويطوّرها ويجعل عقولهم أكبر وروحهم أكثر شفافية ومودة ودفئا. والان.. اذا كنت، مثلي، عاجزا عن زحزحة ثقافتنا التي "حرنت" في موقعة او هاوية انها على حق، فربما كان بإمكانك فعل شيء لانقاذ نفسك منها. وتخيّل ايها الصديق علاقتك بالأصدقاء وبالعائلة وقد قامت على أساس غياب كلمة "أنا على حق" أو الحق معي أو الحق عليك من حواراتك ونقاشاتك معهم. تخيل هذا وسترى انك في جنة! وقبل ان تقطع مع الصديق والحبيبة والزوجة والاهل حبال الود والتفاهم فكر كثيرا قبل ان تقول أنا على حق!
وتذكر في أي نقاش (فيسبوكي او سياسي او عائلي) إن تلك الجملة وصفة شيطانية مجربة في تخريب العلاقات وتخريب التفكير.
لقد تخلّص منها "الأبالسة" في العالم المتحضّر فتطوّروا وتنوّعت عندهم الأفكار والاراء، لكنها وجدت في ثقافة وسياسة وتعصب الرجال الجوف سوقا رائجة في حياتنا بكل اسف!
كل خراب في حياتك بدأ بإصرارك انك على حق وبسعيك لفرض رايك على غيرك.
واذا كنت ترى غير هذا فانت.. على حق!