علي الشرع
احتاجت القوى السياسية الى حبل نجاة أيام المظاهرات الصاخبة المطالبة بالتعيين لاسيما حملة لشهادات العليا في عام 2019، ولم يكن لدى الحكومة حلولاً سوى التعكز على حل غريب عجيب هو تخفيض سن التقاعد. ولا شك فأن من اقترح هذا الحل كان مستشاراً جاهلاًهمّه جيبه لا مصلحة البلد؛ لأنه كان الخوف شديد ان تسقط الحكومة فيسقط معها المستشار هذا، وفعلا وقتها سقطت الحكومة. وبقيت اثار القرار تخنق التعليم العالي خاصة، فلم يتضرر قطاع من هذا القرار مثلما تضرر التعليم العالي (وقطاع الصحة أيضا). فقرار الحكومة الذي شرعه البرلمانبتخفيض سن التقاعد لم يفرز بين مختلف المهن حسب أهميتها بل خبطها خبط عشواء وأصدر قراراً غير مدروس وعلى عجل كون من قامبالمظاهرات آنذاك ليسوا فقط حملة الشهادات العليا بل انضمت لها فئات أخرى من الخريجين دفع الحكومة ان تطرح حلا سريعاً يستوعب اكبر عدد ممكن من العاطلين لغرض تهدئة الشارع دون النظر الى نتائجه السلبية. ويومها تعرض التدريسيين في الجامعات ممن لم يصل الى سن التقاعد القديم الى هجوم قاس من حملة الشهادات العاطلين مطالبين بالتخلص منهم (مستخدمين عبارات نابية)حتى يحلّوا هم محلهم! مع ان هؤلاء المهاجمين -من ناحية الكفاءة- ليسوا سوى اعشار متعلمين بل اقل وليسوا لاانصافاً ولا حتى ارباعاً. وسيتحمل المجتمع غب ما صنعته ايدي السياسيين (اذا لم يعاد النظر بقرار سن التقاعد المشؤوم) حيث ساءت مخرجات التعليم بعد ان تم زج نسبة كبيرة من حملة الشهادات في وزارة التعليم العالي مقابل اخراج المعتّقين من التدريسيينمنها، فليس كل من حمل شهادة عليا يصلح تدريسي ولا باحث حتى وإن نجح في اختبار طرائق التدريس.
ولم يستطع احد ان يعيد سن التقاعد للتدريسيين في الجامعات الىوضعه السابق على الرغم من اعتراضات وزارة التعليم العالي ومناشدات لجنة التعليم العالي في البرلمان وكأن الموضوع فيه مؤامرة خفية الغرض منها تصفية الجامعات الحكومية لصالح الاهلية؛ لأن هؤلاء من ذوي الخبرات تستوعبهم الكليات الاهلية اذا احيلوا على التقاعد، وهناك لا يُطلب منهم كتابة بحث انما يركزون على العمل في التدريس وشؤون أخرى إدارية تقتل العمل البحثي. فتكون الحكومة بقرارها هذا قد ساهمت بدفن التعليم والقضاء على التطور العلمي في البلد تماماً؛ لأن هذا التدريسي الشاب الجديد ممن تم تعيينه بدل هؤلاء يحتاج الى وقت طويل حتى ينضج علمياً،واذا بلغ سن النضوج العلميسيحال على التقاعد حسب القانون الحالي مثل الذين سبقوه. فالاستاذ ينضج علمياً بين سن 40 الى 67، وبعد تخفيض سن التقاعد ترى الأساتذة يتوقفون عن كتابة البحث في السنوات الأربع الأخيرة قبل التقاعد حسب القانون الحالي حيث تعتريهم حالة الحزن والكآبة (وهم في الخمسينات من العمر حيث اوج عطائهم العلمي) تخلق لهم حالة الإحباط عن متابعة التطورات العلمية او كتابة بحث ما.والأكثر ازعاجاً وخيبة ان تسمع منهم عبارات قاسية لا يصح منهم ان يتداولونها؛ومنها انكل واحد يقول لمن سبقه ممن روج معاملة تقاعدوكأنه ذهاب الى الهلاك (الى اللقاء في الفتحة السابعة).
اما المعوق الرئيس الذي يمنع من عودة السن التقاعدي للتدريسيين في الجامعات الى سابق عهدهفهي وزارة المالية، والتبرير موجود وهو أن عودة سن التقاعد لهم يؤدي الى تحمل الموازنة مبالغ مالية اضافية. فالحكومة ووزارة المالية تضحي بمستقبل البلد العلمي من اجل اعداد ليست كبيرة من التدريسيين بينما تخصص لفك الاختناقات في الشوارع أموال طائلة خارج الموازنة من دون الرجوع الى البرلمان. ان قرار مثل هذا ليس مهماً بالنسبة للحكومةالتيتبحث عن أصوات انتخابية ستجلبها لهم فك الاختناقات حيث الالاف ستستخدم هذه الجسور وسيترحمون على من انجزها وسيذهبون الى صناديق الاقتراع وليس في بالهم سواه، اما هؤلاء التدريسيين فأعدادهم لا تكاد ترى بالعين المجردة، وتأثيرهم السياسي في المجتمع معدوم، فلا تعجب من التحجج بالجنبة المالية في حال قبول ارجاع سن التقاعد لهم. وكل هم وغم يصيب العراقيين ليس مصدره سوى وزيرة المالية وطاقمها في قانونية وزارة المالية الذين يفسرون النصوص تفسيراً ما انزل الله بها من سلطان، فهملا يفهمون النصوص ولا يفسرونها الا حسب هواهم الامر الذي ينم عن ان تعيينهم في المواقع جاء بناء على اساس توزيع محاصصي وليس على الكفاءة، وقد الفنا حالة دائما تتكرر وهي ان الكرة تترامي بين الدائرة القانونية في وزارة المالية والأمانة العامة لمجلس الوزراءاذا ما اريد اصدار قرار يفيد فئة معينة، ثم تنتهي الى لا قرار. هذه الوزيرة والدائرة القانونية التابع لها وقانونية الامانةالعامة لمجلس الوزراء يتدخلون في صنع استراتيجيةالتعليم التي من المفترض ان تصنعه هي بنفسها من دون تفرض عليهااية وجهات نظر: سياسية ام غير سياسية.
اما لجنة التعليم العالي في البرلمانفهي ميتة لا حس لها ولا نفس،وليس فيها نفع ولا دفع واعضاءها هم عبارة عن اصفار عن الشمال لا عمل لهم سوى ان تناشد فقط، ولم تحقق شيء مفيد للتعليم، وكانت من فترة الى أخرى تخرج منهم تصريحات عن اعادة سن التقاعد مطبقين متلازمة ديكارت (انا اصرّح اذا انا موجود)، ثم صمتت وانزوت ولم نعد لها نسمع لها طنيناً. والمشكلة انه كلما يخرج تصريح عن هذا الموضوع يرتفع بالتزامنمعه صوت بوم متشائم دائماً(معروف بقصر قامته ونحافته وشعره الأبيض)وهو عضو في اللجنة المالية في البرلمان مردداً عبارته الشهيرة (ان في هذا الموضوع جنبة مالية) فيقتل الاقتراح في مهده.
واذا اريد للحكومة والبرلمان ان تعيد الحياة الى التعليم وتبعد عنها تهمة التآمر على التعليم في العراق فعليها اعادةسن التقاعد الذي كان في عهد الطاغية هو 67 سنة مع إمكانية التمديد لمن كان لقبه أستاذ الى سن 70، لكن مع إعطاء فرصة لم يرغب في التقاعد عند سنة 63 او حتى 60 سنة. ان الجامعات بحاجة دائماً الى التدريسيين بسبب النمو السكاني المرتفع في العراق لكن مع ضرورة تقييد القبول في الدراسات العليا في الجامعات الحكومية (ومنعها تماما في التعليم الأهلي) بحيث يكون مخططاً حسب حاجة الجامعات حتى لا تحصل ازمة خانقة من المظاهرات التي تجبر الحكومة على ركوب مسارات مؤذية للتعليم. ان الضغط السياسي يمكن تفهمه على اية جهة لكن على التعليم والقضاء فهو مرفوض، فسياسات التعليم تصنعها وزارة التعليم العالي، والبرلمان يوافق على اقتراحاتها وليس العكس والا فهو الخراب والدمار المستعجل للبلد.