البحث عن شمس
30-آب-2024

طه المراياتي
كعادتي، أبحث عنكِ ،اتضوَّر جوعا ، احبسُ انفاسي المحترقة بشهيق هواء تموز الساخن، أخطو بوجل على امل اللقاء بكِ ، و عند اول زقاقٍتَطأهقدمي ، ينطلق صوتي ليضج مسامعَ الكل ، صوتٌ أجش يردد بأنفاس متعبة:
يا ناس ، يا عالم.... منو شاف شمسة؟
يا ناس ، يا عالم .... منو شاف شمسة؟
لقد تعوَّدَ الكل أن لا يعطيني اذنا صاغية ،وقد تعودت انا ايضا على ذلك، حنجرتي تجدَّبت و قدماي لا يسعهما الا طريق العِثَار.. اتمدد على الارض ، ارض الله الواسعة ، و استرخي قليلا و لكن كالعادة يفاجئني اطفال اشقياء منحوا جسدي و لا زالوا جراحات العقها من شدة جوعي واصرخ هربا من فرط ما يرموني به من احجار و هم يلاحقونني بفرح سادي مرددين اغنيتهم المُرَّة
هسه تجي شمسه.... تتزوج عبيس
أبتعد عنهم و أهرب ، أركض ، أصرخ ، أصرخ بقوة ، لست مجنون، أبحث عن شمس ، حبايبي الحلوين ـــ أمجنون من يبحث عن شمسه؟ أصمت بيأس ثم أجهش ببكاء حار. تحيطني عيون الصغار ثانية و لكن في هذه المرة، جلسوا امامي و بصمت بكوا معي.... ايها الصغار الاحبةمن منكم رأى شمس؟ شمس... هنا.. هنا في البيت ، بيت جدها الكبير، لازالت تحتضن اطباق الطعام و من كوة الباب ترمي لي قطعة دولمة ملفوفة برغيفٍأسمر، ثم ترمي لي منديلا ـ كفكف دموعك ياعباس ــ ينتفض طفل شقي صارخا بوجهي ـ مجنون، مجنون ، مجنون، ثم يبدأون كعادتهم بإحاطتي ليرددوا معا :
هسه تجي شمسه !! تتزوج عبيس !!
انهض، و بتوجس ، اتوسل، لا داعي للأحجار ،لا ترمونني ارجوكم.. ها .. ها، ثم اهرب بكزتي الصوفية المثقلة بغبار السفر الدائم. لا مكان للراحة و الاستحمام. شاقني التفكير في جدوى البحث عن شمسه...
للمرة الالف، أسأل ... اين أنتِ الآن يا شمس ؟، ضلَّت خطاي الطريق ، تهت في مساحات الأزقة ، عبرت شرك الممنوعات كلها ،بحثت عنك في ساحات انهيار التاريخ ، في الدروب... لم أرَ و لم أسمع سوى............
هسه تجي شمسه!! .... تتزوج أعبَيّس !!
يا ناس ، يا عالم ، من رأى شمس، من يدلني على شمس... سأعطيه كزتي هذه بكل محتوياتها... اكرر صياحي ، علَّ صوتي يصل الى أُذٌنيكِ.. لكن لا جدوى، فالأطفال يحيطونني بجنون و يغنون ثم يبدأ العد التنازلي ، يتركوا حلقة احباطي و يتراكضون هنا و هناك بحثا عن حجرة كي ارتطم بها أو ترتطم بي ، و لأنني املك ساقَيين قويين ، يحدوني امل النجاة ، اهرب مستغيثاشمس .... شمس ... شمـ شـمـشمـسسسسسسسسسسسسسسسسس تختلط استغاثتي بصياح و صراخ الاطفال و نشيدهم الممل...
هسه تجي شمسه!!.... تتزوج عبيس!!
لابأس، لازلت قويا ، و الطعام يأتي ، المؤنة تأتي من هنا و هناك ، من بيتٍ يتكأ على الله لا غير ، من امرأة مسنة لازمت ولاتزال ماكنة الخياطة بصبر أيوبي لا يطاوله صبر ، من حاوية صغيرة أجمع منها مؤونة السفر الدائم . ثم أبدا رحلتي من جديد ،اقطع كل المسافات، كل الامكنة التي فَقدَت عندي زمنها ، حتى لم يعد هناك وقت للذاكرة و لم يعد هناك وقت للتفكيرو في ظل بحثي و سفري هذا الذي لا ينتهي ، رأيتك.!!!!.... .. نعم هناك رأيتك... لم تُصدّق عيناي حقيقة تجسّمك.. كانت دهشتي اكبر من المفاجأة، لا أدري كيف منحني قدري و للمرة الاولى رؤية الاشياء الغير مرئية، رأيتك يا شمس تلفّينعباءتكعلى امتدادقدّك المياسبغنج لطالما ثارمشاعري و داعب كل غرائزي ،تعوَّدتِ ان تتركي لقطعة وجهك البلوري العنان للرؤيا، فيمنحك اسوداد العباءة الفاحم و بياض بشرتك الوضاءة قدرة ضوئية تمتد حتى المريخ.... ركضت دون شعور نحوك، لن يمنعني ازدحام الطرقات ولنابالي بسواك...ما دمتِ انتِ يا شمس بدمها و لحمها فلا جدوى من الطرق على الابواب المؤصدة ، فجريت بفرحة تغمرها دهشة المفاجأة الابدية ، ركضت نحوك ، صرخت بأعلى صوتي : شمس... شمس .. شمســــســسسسسسس ، ولكنك لن تبالي ، صرخت ثانيةً ، التفتِّ الى الوراء... نحوي ، نحوي يا شمس ، التقت عينايَ بعيّنيكِ بعد سنين و سنين.... و لكن دون اي ردِّ فعل، انهكني هذا الشعور بل استفزني ثم جريتِ ، جريتُ انا ، اسرعت في جَرْيي ،، حاولتأنأصل اليكِ عبر أكثر الطرق اختصارا، اقتربتُ منك حتىبُتِّ تسمعي صوت انفاسي المتعب و صرير لهاثي المزمن، صرختُ ثانيةً و لكن بصوت مبحوح اتعبته الدهشة ،
ـ شمس ... شمس آني عباس يا شمس
هرولتِ اولا ثم بدأتِالعدو دون شعور. لكم هزّني! و أحزنني بل أبكاني صوت استغاثتك الهلع..يــــــــــــبو.... يــــــــبو ، لما هذه الاستغاثة يا شمس؟ توقفي أرجوكِ....و لكن لاجدوى ، فقد اختفيتِ ، سرعان ما اختفيتِ ، لابأس يا شمس ، طالما إني رأيتك ، سأنتظر هنا ، أنتظر مجيئك بفارغ الصبر.

نظرتُلما حولي ، كان السوق عاجا بالمارة و المتسوقين ، شعرت بالضيق ، قلت لنفسي ، لما لا اسأل عنك ، لتكن المرة المليون، ما المانع ؟ ، اقتربت من رجل طاعن في السن، ترقّب مجيئي بقلب مضطرب ووجه محتقن تفصح عيناه الغائرتان عن صمت مخيف ، تراجع خطوات بينما وسَّعت أنا خطوتي الاولى ، و وجها لوجه... قلت
ـ ألَم ترَ شمس؟
ابتسم هو بخوف ،ثم هزَّ لي رأسه بالنفي
ـ اذاً.. بيتها يا عم ، اين بيتها؟
هدأت قسمات وجه الرجل ، ثم اجاب بطيبة
ـ ايةشمس يا عباس ، الم تستسلم بعد؟
ثارت ثائرتي ، لا أدري لماذا استفزني ، و كيف طاوعتني يدي برفعه الى الأعلى ثم كيف تركته يسقط أرضا و عدت الى مكاني و جلست.
هنا سأنتظرك ، سأنتظر العمر كله ، كله يا شمس . مرَّت الساعة الاولى و الثانية ، و الثالثة ، قلت لنفسي لأنتظر المساء و لا بأس ان تأخرَ الليل قليلا ، لقد نذرت عمري كله في البحث عنك لم يعد صبر الانتظار يقلقني... تصوري مرت أيام و ليال و أنا في نفس المكان... كلها من العمر يا شمس.. حتماستمرين ، بيتك ليس ببعيد يا شمس.. و اليوم بالذات كانت بوادر ظهورك واضحة.. ومن بعيد لمحتك اذ لاحت لي عباءتك الفاحمة المطرزة بالدانتيل ، لازالت ثيابك مدمنة على تناول الدانتيل ياشمس، لن اصمد ، هرولت نحوك ، ركضت بسرعة البرق ، اما انتِ فلم تلتفتي.. المرة الاولى التي بقيتِ فيها تسيرين كما عهدتك برويَّة... آه يا شمس ، مشية طاووس يتبختر بسمو ، اقتربتُ اكثر و حينما اصبحت الخطوة هي المسافة ، سحبتك من يدك بقوة نحوي، التقت عيناكِ بعيني لبرهة، ثم اخذتي تصرخين بقوة و فزع... يبــــو ...يبــــوووه....، جاء احدهم لينتشلك مني لطمته على وجهه؛ سقط ، اقترب اخر لطمته هو الاخر؛ فخرّ صريعا ، ثم ثالث و رابع بينما لا زلتُأشدد بقبضة يدي الأخرى على معصم يدك ، أراد ان يقترب آخر.... صرخت ، صرخت بعنف، بقوة.... مرددا بهستريا
ـ ان اقترب احدكم سأقتله... سأقتلكم جميعا , قلت ذلك و انا أشير بقبضة يدي المرتجفة ، نشيج خفي رافق صراخي حاولت أن لا تسقط دمعة واحدة في حضرة شمس لكن دموعي خانتني فأجهشت ببكاء حار..... استسلمت لبكائي مع إنَّه لازالت قبضة يديتشتد على معصمك، اراد البعض استغلال هذا الضعف (كما يروه) للتحدث معي فثارت ثائرتي.. صرخت مهددا من جديد
ـ سأقتلكم جميعا ، سأقطعكمإرْباًإربا.. لم و لن تستطيعوا أخذها مني بعد الان، شمس التي انهيت جل عمري في البحث عنها ،و حين وجدتها وقفتم لي بالمرصاد ، ماذا جنيت ،ما الذي ارتكبته بحق الشيطان ، سنين أدور كالكلب ، أبحث عنها ، هل جربتم ان تحبّوا مرة، مرة واحدة ،احبوا مثلي يا ناس ، حاولوا... حاولوا أن تحبّوا بصدق ولو لمرة واحدة يا ناس, تركتهم منذهلين ، ثم نظرت اليكِ ، كان كل شيء فيك يرتعش ، حتى دموع الخوف التي سالت على خدك ، سألتكِ بحنين و ود ممزوج بفرح بشري حقيقي
ـ لما هذه الدموع يا شمس؟... ربما هي دموع الفرح.. أليس كذلك؟
لم تتكلمي بل أوغلتِ ببكاء حاد ايضا، كفكفتُ دموعك بحذر.
قلت لكِ
ـ انا عباس ، شمس ما بالك!! ، هل نسيتِني؟ ، انا عباس و .. وأنتِ شمس ، شمس التي أحب ، لم تردّي علَي ، ظل صمت الخوف يغطي ملامح وجهك الكيمر ، قلت بصوت عال : شمس لا أريدك ان تتكلمي الان ، الصدمة أكبر من المتوقع ،سنين خلت و نحن لن نلتقِي ، اعرف ذلك ... و لكن ارجوكِهزي ولو برأسك فقط ، صمتك ينهكني يزيدني وجلا و يعمّق جراحي ، اترجاك ، اتوسل اليك ان تعترفي و لو لمرة واحدة بوجودي. رفعتُ راسي الى السماء مستغيثا ، اوقفني حجم الوجود البشري الذي احاطنا من كل جانب ـــ جموع تراقب بحذر و صمت و توجس لما يحدث ،كنت ارى البعض منهم ، يشجعونك على الكلام... ويهمسون بوجل ـ تكلمي... تكلمي يا شمس،يهزون برؤوسهم تشجيعا و يشيرون بأيديهمبالإيجاب ... كما لو انهم يريدون ان يصرخوا بصوت واحد... نعم ، نعم انتِ شمس ، قولي له ذلك ـــ عادت عيناك لتتفحص وجهي ثانيةً.قلتُ لكِ بهدوء مشوب بانتظار قاس
ــ ها يا شمس ، تذكرتِ .. ها؟
هززتِ راسك بالإيجاب مع انك مازلتِ تحتفظينبذات الخوف ،قلت لك بفرح غامر...
ـ أذن ، انطينيعلاكةمسواكج...لأساعدكِ ياشمس،
سحبتُ حافظة التسوق من يدك بهدوء وفرح ، ثم سرنا معا داخل السوق، سألتك بحنين ، حنين مفعم بود ابدي
ـــ ألا زلتِ مندهشة من وقع المفاجأة؟ لم تردّي ، حاولت أن اخفّف من حدة خوفك ، فقلت ببراءة عاشق ولِه
ـــ اذا ما تخلصتِ من قلقك هذا ، فسأمنحك كزتي كلها و فيها درهم... ها ماذا قلتِ؟
و للمرة الاولى ابتسمتِ ، ففرحتُ ، فرحتُ كثيرا ، دخلنا السوق ، واستقبلتني احدى البقالات بالترحاب
ــ هلا بعبيس ، هلا بيك... هاي منو الوياك؟
قلت لهابخيلاء
ـ انها شمس..... شمس يا عمه
ــ و ماذا تريد ان تشتري شمس يا عبيس؟
اجبتِ انتِ بهدوء يشوبه قلق ظاهر
ـــ طماطة و اي شيء اخر
فتحتُالحافظة وضعت كل الاشياء في داخلها و بدفعة واحدة ، قلت للبقالة مداعبا... اريد زواده.... ثم مددت يدي في جيبي.....سألتِ بعينين مستغربتين
ــ ماذا تفعل؟
ـ اعطيها.... أعطيها مبلغ الاشياء
ــ و كم في جيبك الان؟
قلت بفرح
ــ عندي درهم
ضحكتِ ثانية ، ثم أردفتِ قائلة
ـ لا يا عباس.... ضع الدرهم في جيبك
حملتُ علاقةَ تسوّقك على ظهري بفرح... و اتجهنا خارج السوق.. سألتي بطيبة
ــ اين ستذهب الان؟
قلت
ـ سأنتظرك هنا.... الى الغد
وإن لم آتِ غدا
ــ سأنتظرك لـ بعدِ غد
ــــ و بيتك... اليس لك بيتا يا عباس؟!
تفحَّصتْ عيناكِ وجهي بدقة ، كنتِ تبحثين عن شيء في عيني ، قلتِ بحُنوّ
ـ انت جميل ، و طيب يا عباس ... ولكن حرامات... حرامات
لم ابالِ بما قلتِ ، كان الفرح بك اكبر من كل الاشياء ، سرنا صامتين ،كاد ضجيجنا يرهقنا ، سالتك بتوجس
ـ اخشى ، اننا قد وصلنا البيت ياشمس

لم تجيبِي ، انما نظرتي الي بشزر ،نظرة يشوبها وجع الضياع ، الشك.. ثم سألتِ بهدوء قلق
ـ هل حقا انا شمس يا عباس؟
حاولت أن لا اصمت ، لا اسكت ، أن لا انزوي مع لساني داخل فمي.. و لكنّي سكتّ .
سحبتِعلّاقة التسوق من يدي بهدوء... ثم بابتسامة يملأها حنين مفعم بود مطلق ، ود لم و لن اتصوره قط... قلتِ
ـــ أنا.... أنا لست شمس يا عباس... لست شمس
لم أجبكِ ، حاولت... حاولتولكني التزمت الصمت ثانية ، كنت أبكم ، أبكم بحق، خطوتي خطوتين و كطاووس خطوتي الخطوة الثالثة ، و انا لا زلت متسمرا في مكاني. شعرت بالخجل ، بالإحباط ، احباط شل قواي و انتابتني رعشة امتدت من رأسي حتى قدمي ، حاولت ان ابدأ بخطوتي الاولى ، لم تسْعفني قدماي ، بينما خطوتِ انتِ خطوتك الرابعة ، ، فاضت روحي بيأس شيطاني ، فسقطت الدمعة الاولى ثم الثانية و عند الدمعة الثالثة ، التفتِّ نحوي ، ثم قلتِ ، قلتِبصوت أقرب الى الصياح.... صوت يخرج من القلب الى القلب ..قلتِ
ـ سأراك غدا.... لا تنسى... غدا يا عباس

النزاهة تحقق في قضية تهريب الذهب من مطار بغداد
18-تشرين الثاني-2024
الأمن النيابية: التحدي الاقتصادي يشكل المعركة المقبلة
18-تشرين الثاني-2024
الجبوري يتوقع اقصاء الفياض من الحشد
18-تشرين الثاني-2024
نائب: الفساد وإعادة التحقيق تعرقلان اقرار «العفو العام»
18-تشرين الثاني-2024
منصة حكومية لمحاربة الشائعات وحماية «السلم الأهلي»
18-تشرين الثاني-2024
مسيحيون يعترضون على قرار حكومي بحظر الكحول في النوادي الاجتماعية
18-تشرين الثاني-2024
الموازنة الثلاثية.. بدعة حكومية أربكت المشاريع والتعيينات وشتت الإنفاق
18-تشرين الثاني-2024
النفط: مشروع FCC سيدعم الاقتصاد من استثمار مخلفات الإنتاج
18-تشرين الثاني-2024
تحديد موعد استئناف تصدير النفط من كردستان عبر ميناء جيهان التركي
18-تشرين الثاني-2024
فقير وثري ورجل عصابات تحولات «الأب الحنون» على الشاشة
18-تشرين الثاني-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech