«بێکەس» مُخيّلة الطفولة تكتشف القوة الخارقة في أعماق اليُتم والتشرّد والضياع
19-تموز-2023
عدنان حسين أحمد
يندرج فيلم " بێکەس" للمخرج الكوردي العراقي كارزان قادر ضمن أفلام الدراما والمغامرات، كما يُعدّ من أفلام الطريق لأن القسم الأكبر من أحداثه تجري على طرق كوردستان العراق الخارجية وبعض بلداتها وقراها المبثوثة في تلك المضارب. يعتمد بعض المخرجين السينمائيين في أعمالهم الفنية الأولى على سِيّرهم الذاتية أو ربما على نُتفٍ أو شذرات منها يتكئون عليها في تشيّيد البنية المعمارية لأفلامهم، تمامًا، كما حصل لكارزان الذي هرب مع عائلته من العراق وهو في سن التاسعة إبان حرب الخليج الثانية عام 1990م، وانتقل إلى ستوكهولم ليدرس الإخراج في أكاديمية ستوكهولم للفنون المسرحية ويتوج دراسته بالحصول على جائزة "أوسكار للطلاب" عن فيلمه القصير "Bekas" سنة 2009م، وسوف يطوّره لاحقًا إلى فيلم روائي طويل يحمل الاسم ذاته، ويحقق شهرة محلية وعالمية حيث فاز بجائزة الجمهور، ورُشِّح إلى جائزة "المهر العربي" في مهرجان دُبي السينمائي لعام 2012م.
تعني كلمة "بێکەس" الكوردية "منْ لا أهل له"، كما تعني اليتيم أو المشرّد، وهذه المعاني الثلاثة تنطبق على الشقيقين "دانا" و "زانا" اللذَين فَقدا أبويهما في ظل النظام الدكتاتوري البائد في تسعينات القرن الماضي. تتمحور ثيمة الفيلم الرئيسة على الطفلين اليتيمين "دانا" وعمره عشر سنوات، و "زانا" وعمره سبع سنوات اللذَين يعملان في تلميع الأحذية، ويحلمان بالسفر إلى أمريكا ومقابلة سوپرمان واستدعائه إلى العراق لينتقم من صدام حسين وبقية الأشرار الذين قتلوا والديه، وقمعوا آلافًا مؤلفة من الشعب الكوردي في إشارة واضحة إلى عمليات الأنفال وغيرها من المجازر الجماعية التي ارتكبها أزلام النظام الدكتاتوري السابق، فهل ينجحان في تحقيق حلمهما المنشود، والتغلب علي كل العقبات التي تصادفهما بسبب شظف العيش، وضيق ذات اليد، وقسوة المجتمع في بعض الأحيان؟
تنطلق أحداث الفيلم من ملعب ترابي لكرة القدم صنع الصبيان أهدافه من ظروف القنابل الفارغة في إشارة واضحة إلى حروب العراق المتواصلة وقد اختار الفريق زانا لحراسة أحد المرمَيين، أمّا شقيقه الأكبر دانا فقد خصّه الفريق بمهمة الهجوم التي لا تخلو من الإعاقة والاحتكاك والإصابة. ومع أنّ حارس المرمى "زانا" يصد الكرة التي ارتطمت برأسه مصادفة وأوقعته أرضًا إلاّ أن لاعبًا مترهلاً من الفريق الآخر يضرب الكرة ويُدخلها في المرمى بسهولة الأمر الذي يعرّضه للوم والتوبيخ من قبل أخيه الذي اتهمه بالغباء وحثّه على الانتباه في المرات القادمة.
يصل خبر عرض سوپرمان في إحدى صالات السينما في أربيل فيترك الفريقان ملعبهما المتواضع ويندفعان عبر الأزقة لاقتناء التذاكر. وبما أنّ الأخوين زانا ودانا لا يريدان التفريط بأي مبلغ مهما كان صغيرًا فإنهما يقرران مشاهدة الفيلم من نافذة عليا تطل على شاشة السينما غير أن هذه المحاولة لا تمرّ من دون عقاب حيث يتسلق أحد عمّال الصالة ويشبع زانا ضربًا مبرحًا ويوعدهما بما هو أسوأ إن كرّرا المحاولة من جديد.
مخيّلة الطفولة
يؤسطر المخرج، وهو نفسه كاتب القصة السينمائية، شخصية سوپرمان ويضيف عليها من مخيلة الطفولة الشيء الكثير. فهذا السوپرمان، الذي يمتلك قوة خارقة يستطيع بواسطتها أن يمزّق الحديد بضربه واحدة، وينتقم من الأشرار جميعًا، بما فيهم صدام حسين الذي تسبّب في جريمة الأنفال، وقتل الآلآف من الكورد الأبرياء بضمنهم والديّ زانا ودانا، وأكثر من ذلك فإنه يمتلك القدرة على إحياء القتلى والمغدورين بحسب مخيلة دانا المجنّحة.
إنّ منْ يشاهد فيلم " بێکەس" الذي تناصف فيه الأخوان زانا ودانا دور البطولة يستطيع أن يصدّقه رغم نزعته السُريالية ونَفَسه الفنتازي مع أنهما لا يمتلكان جوازات سفر ولا النقود التي تكفيهما للقيام بهذه الرحلة التي تكلّف 17.000 دينار عراقي في حقبة التسعينات، أي ما يعادل صبغ وتلميع 30.000 أو 40.000 حذاء! والأغرب من ذلك أنهما يقرران تنفيذ هذه الرحلة الغرائبية على ظهر حمار اشتراه زانا بكل ما يملك من نقود وأطلق عليه اسم "مايكل جاكسون" الذي يحبه ويردد أغانيه في مناسبات الفرح والنشوة والحبور. إنّ أبرز دلائل نجاح هذا الفيلم هو إدامة زخم قصته السينمائية التي كانت تنمو رويدًا رويدا دونما تلكؤ أو انقطاع على صعيد الرحلة التي تنوعت بين الركوب على ظهر الحمار أو في الحوض الخلفي للشاحنات الكبيرة أو في الصناديق الخلفية لسيارات التاكسي التي أقلّتهم في المناطق الحدودية الحرجة.
يتذاكى دانا على شقيقه الأصغر زانا فهو يدّعي معرفته بأمريكا التي يعيش فيها سوپرمان ويصف بناياتها الطويلة الشاهقة التي تلامس سطح القمر، كما يزعم بأنه درس اللغة الإنگليزية وتعلّمها فلاغرابة أن يعرف كل شيء عن هذه الدولة الكبيرة التي تحتضن البطل الخارق الذي يمكن أن يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح في العراق أو أي بلد آخر يتعرض للقمع والظلم والاستبداد لكنه ما إن يفتح الخريطة التي يحملها حتى نكتشف جهله وتواضعه المعرفي فهو لا يميّز بين قارة وأخرى، فحينما يؤشّر على كوردستان العراق يضع سبّانته على قارة أفريقيا، وحينما يؤشر على أمريكا يضع أصبعه على قارة أوروپا. أمّا المسافة الفاصلة بين كوردستان العراق وأمريكا فيحصرها بقدر المسافة المفتوحة بين سبّابته وإبهامه. أمّا زانا، فهو لا يعرف جواز السفر ولم يرَه ذات مرة ولكن دانا يعطيه فكرة وافية مفادها أن جواز السفر هو عبارة كُتيب صغير يحتوي على صورة حامله، واسمه الثلاثي، وعمره، وعلاماته الفارقة وما إلى ذلك من معلومات مهمة تعرّف بصاحبه وتدل عليه.
اختبار المشاعر الغضّة
لم يكتفِ كارزان قادر بقصة السفر المحورية وإنما راح ينفتح على قصص أخرى جانبية وهي أشبه بالينابيع التي تغذّي النهر الكبير حيث نتعرّف على شخصيات جديدة من أهل مدينة أربيل من بينها الحكيم الأعمى "بابا خالد" الذي يحبهما كما يحب ابنه، ويقدّم لهما عصارة تجاربه الحياتية التي سنأتي على واحدة منها، ولكن الشخصية الأكثر أهمية في هذا السياق هي هيليا التي تعرّف عليها، وبدأ يلاحقها كلما لمحها في مكان ما، ومع ذلك فهي تتجاذب معه أطراف الحديث، وتختبر مشاعره الغضّة، وتقبّله في نهاية المطاف بعد أن تطلب منه أن يغمض عينيه، وتهدده بالقتل إن أخبر أحدًا بهذه القُبلة التي طبعتها على خدّه وأيقظت فيه كمًا هائلاً من المشاعر العاطفية التي كانت راكدة في أعماقه. وسوف ترافقه هذه الصبية حتى نهاية الفيلم تقريبًا، ولعل حضورها المتكرر في أمكنة متعددة في أزقة أربيل السكنية وسوقها العام، أو انتقالها مع أسرتها إلى مدينة أخرى هو الذي منح الفيلم نكهة خاصة أنقذته من الوقوع في فخ الفكرة الواحدة التي تهيمن على السياق السردي ولا تتيح لها إمكانية التشظّي والتنويع على أفكار وثيمات فرعية أخرى.
لم يكن الصبيّان يتيمَين فقط وإنما كانا مشردَين فهما يطلبان دلاء الماء من بعض نساء الحي اللواتي يتعاطفنَ معهما، وغالبًا ما يستحمّان على أسطح المنازل للتخلص من الأوساخ التي تعلق بهما خلال ساعات العمل الطويلة. يقتني زانا دفترًا صغيرًا يدوّن فيه أسماء الشخصيات التي أساءت له ولأخيه الأكبر وينوي تقديمها إلى سوپرمان حينما يلتقيه كي يُنزل بهم العقاب الصارم. يعّرفنا المخرج بشخصية "بابا خالد" أو الحكيم الأعمى الذي تزوّج من امرأة يحبها لكنها فارقت الحياة إثر ولادة كاروان. لم تكن الحكاية التي يرويها "بابا خالد" مجهولة تمامًا، فهي قصة واسعة الانتشار تتمحور على أنّ فكرة القوة تكمن في الاتحاد، بينما يتمثّل الضعف في التفرقة والتشتّت وخاصة بين الأخوة والأصدقاء والحلفاء، ويكلّف "الحكيم الأعمى" ابنه زانا أن يجمع له 30 أو 40 عودًا، ثم يطلب منه أن يكسر عودًا منفردًا فيقصمه بسهولة، ثم يطلب منه أن يكسر باقة العيدان فيفشل في ذلك لأنها قوية وهي مجتمعة، وعسيرة على الكسر والتحطيم. وهذه الثيمة هي الرسالة المعنوية للفيلم التي استقاها المخرج وكاتب النص من الحكايات الشعبية التي تدور في الذاكرة الجمعية للناس عن "قوة الاتحاد وهشاشة التفرقة والتشرذم" التي وظّفها المخرج بطريقة ميتاسردية ذكية. يعمل "بابا خالد" في تصليح المذاييع، وذات مرة صلّح مذياعًا عاطلاً لرجل لا يمتلك مالاً فأعطاه الرجل ساعته مقابل الجهذ الذي بذله في إصلاح المذياع المعطوب، وقد احتفظ بها في محله وقدّمها في النهاية هدية لزانا، الطفل الذي يحبّه ويتمنى له النجاح الدائم في حياته العملية التي لا تخلو من مصاعب جمّة ومشكلات كثيرة. وهكذا تتواصل القصص والحكايات التي استثمرها المخرج في فيلمه الروائي الذي بلغت مدته 92 دقيقة من دون أن يشعر المتلقي بالملل.
الجناح الدافئ للأبوّة المُستعارة
يمتلك الفيلم حبكة قوية على الرغم من كثرة القصص والحكايات الجانبية التي أشرنا إليها سلفًا، فالحكيم الأعمى يموت ويغادر هذه الحياة الفانية، ويفقد الطفلان اليتيمان "الأبوّة المُستعارة" والجناح الدافئ الذي كانا يستظلان به مذ فقدا أبويهما حتى الآن. أمّا الصبية هيلينا فقد رآها وهي تستعد للرحيل إلى أمريكا مع أسرتها ولكننا بعد مدة الزمن سنتكتشف أنها كانت تبالغ في كلامها، وأنّ عائلتها لم تسافر إلى أمريكا قط وإنما انتقلت مع عائلتها إلى مدينة جديدة يدرّس الوالد في إحدى مدارسها.
لا يمكن إهمال حكاية القلادة الذهبية التي سرقها "آزاد" من هيليا ورماها في البحيرة الأمر الذي سيدفع دانا، وهو لا يُتقن السباحة، إلى أن يغوص في مياه البحيرة لكي يستعيد قلادة حبيبته، ويثبت رجولته أمامها لكنه ما إن ولج مياه البحيرة حتى كاد أن يغرق لو لم يتداركه بعض المارة المزارعين الذين أنقذوه فوجدوا القلادة في قبضة يده المضمومة. سيضع دانا صورة أمه خديجة في القرص الدائري للقلادة وحينما يعرضها على المهرّبين يتعرّف عليها عثمان، صديق والده خسرو الذي سبق وإن أنقذ حياة عثمان من الموت خلال الحرب فيحاول أن يردّ له الجميل عبر ولديه المشرّدين الآن. وبما أنّ الجشع يسيطر على الغالبية العظمى من الناس وخاصة المهرّبين يقرّر دانا أن يعتمد على نفسه ويذهبا إلى أمريكا بواسطة الحمار الذي اشترياه. يقف زانا أمام قبريّ والديه ويخبرهما بأنهما ذاهبان إلى أمريكا للقاء سوپرمان وأن الرحلة لن تأخذ منهما أكثر من يوم واحد يتم بعدها استدعائه ليدمر صدام حسين وجنوده ثم يُعيدهما بقدرته الخارقة إلى الحياة مرة أخرى وكأنّ الطفلين يقصدان بالقوة الخارقة الله جلّ في عُلاه الذي يستطيع وحده أن يُحيي العظام وهي رميم.
لا ينفك زانا من إثارة الأسئلة وتوجيهها لشقيقه الأكبر دانا حتى ينفجر هذا الأخير متذمرًا من كثرتها وسيلها الجارف الذي أزعجه في خاتمة المطاف فيطلب منه التوقف والتزام الصمت.
ثمة منعطفات عديدة في هذا الفيلم وخاصة في الطريق الخارجي حيث يتوقفان ذات مرة قرب شاحنة محمّلة بالكوكو كولا التي يعتقد زانا أنها تكفي لإشباع العالم كله ويقترح على دانا أن يشرب واحدة منها الأمر يدفعه لتسلّق الشاحنة لأخذ زجاجتين فقط لكن السيارة تتحرك فجأة ولم يستطع أن يترجل منها فيفترقان ويصبُّ زانا جام غضبه على حماره مُقرّعًا إياه لأنه لم يستطع اللحاق بالشاحنة التي أخذت شقيقه إلى المجهول. وفي الطريق يصادف رجلاً كبيرًا يجر وراءه عربة نقل ثقيلة فيقترح عليه أن يربط العربة خلف حماره ليوصله إلى مشارف القرية التي يريد الذهاب إليها ويخبره بأنه فقد أخاه الذي علق في إحدى السيارات المحملة بالكوكا كولا ولم يستطع القفز منها. وفي أثناء الدردشة المتواصلة بين زانا ورجل العربة تتكرر ثيمة الفيلم مرة أخرى حينما يتساءل الصبي:"يا عم لماذا أخذ الله أخي بعيدًا عني وهو يعلم بأنني لا أمتلك أحدًا سواه، وأنا مشرّد ووحيد"! لكن هذا الرجل يطمئنه بأنه لن يكون وحيدًا لأنّ الله سيكون معه دائمًا، وقد اختطّ طريقًا خاصة لكل واحد منّا في الحياة. وفي أثناء هذه المحاورة التي امتدت من الحديث باللغة الإنگليزية إلى مايكل جاكسون وأغانيه ورقصاته الغريبة، وانتهت بالأقمار الاصطناعية التي يصنعها الصينيون وغيرها من الموضوعات الكثيرة التي ناقشاها في هذه الرحلة الممتعة للطرفين رغم فارق السن الكبير بينهما. وقبل أن يصلا إلى مشارف القرية يُفاجأ زانا برؤية أخيه دانا وهو يترجل من الشاحنة الكبيرة ويركض مُسرعًا ليعانق أخيه الأصغر من جديد.
مراوغة الحرّاس المتربصين
لا ينفكّ زانا من محاولاته المستميتة مع المهرّبين فيتفق مع المهرّب علي الذي يحيطه علمًا بالطريقتين المعهودتين في تهريب البشر، الأولى أن يختبئ الهارب تحت جوف الشاحنة التي تخرج من مصنع التبغ في المدينة وهي طريقة صعبة جدًا، وتتطلب حذرًا كبيرًا لأن هناك العديد من الناس سقطوا من الشاحنة ولقوا مصرعهم في الحال، أو تم القبض عليهم في المناطق الحدودية، والطريقة الثانية هي وضع الهاربين الصغار سنًا في الصناديق الخلفية لسيارات التاكسي وإيصالهم إلى الجهة الأخرى من الحدود وعليهم أن يتدبروا أمرهم بأنفسهم هناك. يبيع زانا الحمار بـ 45 دينارًا على أمل القيام بمجازفة العبور في صبيحة اليوم التالي لكن دانا يرى هيليا ويحاول أن يكلمها فتضرب له موعدًا في صبيحة اليوم الثاني وتبيّن له بأن العائلة لا تريد السفر إلى أي مكان وقد انتقلوا مع والدهم الذي يدرّس في هذه المدينة النائية. يتخلى دانا عن حلم السفر إلى أمريكا ولقاء سوپرمان حيث أعاد القلادة الثمينة إلى هيليا، وقرر أن يبقى في هذه المدينة ويعيش مع هذه الفتاة الجميلة التي خفق لها قلبه. فيفترقان ثانية ويذهب زانا إلى مصنع التبغ ويندس في منطقة خطرة أسفل الشاحنة وينجح بصعوبة بالغة في الوصول في الوصول إلى أقرب نقطة تفتيش عسكرية لكن دانا يلحقه ويتصالح معه، ويعِده بتنفيذ الخطة التي اتفقا عليها في الوصول إلى أمريكا ومقابلة سوپرمان. يأخذهما عثمان، صديق الوالد بسيارة السيد جمال الذي يضعهما في الصندوق الخلفي ويتركهما بعد عبور نقطة التفتيش لكي تتلاعب بهما الأقدار. كان الأخوان يمشيان إلى جوار الطريق في منطقة مليئة بمخلفات عسكرية قديمة وفجأة شعر دانا بأنّ قدمه اليمنى قد داست على لغم صغير فيطلب من شقيقه الابتعاد كي لا يصيب شقيقه بالأذى، وبعد نقاش طويل يذهب زانا إلى سوق شعبية عربية ويلتمس من ستة أشخاص أن يقدّموا له المساعدة لكن الجميع يزجرونه بطريقة فظة وقاسية تثير التساؤل لدى المتلقي. فهل يُعقل أنّ كل الناس في هذه السوق العربية لا يمدّون يد العون والمساعدة إلى طفل صغير يتوسل بهم ولا يجد منهم أية استجابة إنسانية؟ وبالمقابل فإن دانا الذي يتعب من الوقوف المتوتر الذي يرهق الأعصاب حيث يحرّك قدمه ويسقط إلى الخلف ليكتشف أنّ اللغم لم ينفجر فاندفع هو الآخر صوب السوق الشعبية نفسها يسأل عن أخيه لكن أحدًا لم يساعده أو يردّ على سؤاله غير أنه يفاجأ وبسقط في الدهشة وهو ينظر بين جموع المتسوقين حينما يرى زانا بينهم فيأخذه بالأحضان ويسأله هذا الأخير مُستغربًا:"كأنك لم تمت يا أخي؟" فيرد عليه بكلمات دقيقة لها علاقة وطيدة بثيمة الفيلم:"كلا، لم أمت. كيف يمكن أن يموت سوپرمان، أنا سوپرمان"! يحتضنه، ويتحد معه،ويدور به في قلب الزحام، وكأنه يقول للجميع بأن " الضعف يكمن في الفِرقة ةالتشرذم، والقوة تتجسّد في التآزر والاتحاد".
قصص إنسانية خفيفة الظل
لابد من الإشارة إلى الملحوظة المهمة التي أثارتها الناقدة السينمائية الفلسطينية علا الشيخ بأنّ السينما العراقية المعاصرة بدأت "تتناول قصصاً ذات بُعد إنساني مؤثر بعيدًا عن الشعاراتية الصارخة"( ) التي تتعلق بموضوعات الحرب والحصار وما إلى ذلك، فلاغرابة أن يلجأ كارزان قادر إلى هذا الموضوع الإنساني المُرهف الذي يمزج بين الفكاهة والطرافة والجدية الصارمة في بعض الأحيان مع الاحتفاء الدائم بالطفولة حتى في الظروف الكئيبة المعتمة.
تثير كلمة "بێکەس" الكوردية بعض الإشكالات في ترجمتها إلى العربية أو إلى اللغات الأخرى وقلنا بأنها تعني اليتيم أو المشرّد، ويمكن أن نعزّز هذا المعنى بتوصيف المخرج نفسه الذي قال في أحد مقابلاته التلفازية بأنّ كلمة "بێکەس" تعني "أولئك الناس الذين يفتقدون لصلة القرابة ويُعتَبرون وحيدين على هذه الأرض"( ) وهو يعمّم هذا التوصيف ليشمل به الكثير من الكورد الذين عانوا من ويلات الحرب وكوارثها في تسعينات القرن الماضي.
لا شكّ في أنّ الصبيين الموهوبين زانا "زامند طه" ودانا "سروار فاضل" لم يدرسا التمثيل ولم يتدربا عليه باستثناء المدة التي أمضياها مع المخرج كارزان قادر الذي بذل جهدًا كبيرًا في البحث عن شخصيتين تؤديان الدورين الصعبين المنسوبين لهما حيث زار العديد من القرى، والأرياف، والمدارس، والأسواق الشعبية، ودور الأيتام، وملاعب كرة القدم وغيرها من الأماكن التي يتواجد فيها الأطفال لينتقي منهم ما يلائم الأداور المرسومة في النص السينمائي حيث يقول في اللقاء التلفازي نفسه:"وبعد عملية بحث طويلة وجدتُ هذين الصبيّين في دار للأيتام"( ).
تنقية الضمائر والأرواح.
نخلص إلى القول بأنّ المخرج كارزان قادر يركِّز في هذا الفيلم على الأطفال والمراهقين من كلا الجنسين ومن خلفيات ثقافية واجتماعية متنوعة فهم يمثلون روح الفرح والمرح والمحبة حتى في أحلك الظروف وقد رأينا دانا في عزّ محنته، وقساوة يتْمِه، وهو يقع تحت تأثير تجربة الحب الأول مع هيلينا، وكاد أن يلغي فكرة السفر من ذهنه تمامًا رغم أنه كان عازمًا على لقاء سوپرمان واستدعائه إلى كوردستان العراق لكي ينقذهم من ظلم صدام حسين وجَبروته رغم أننا كمتلقين نُدرك جيدًا بأن هذا السوپرمان هو مجرد شخصية خيالية لا وجود على أرض الواقع. ربما لم ينتبه كارزان قادر إلى أنّ لقطات السوق العربية التي ظهرت قبل نهاية الفيلم بقليل تسيء إلى العرب، وتجرح الأخوّة العربية- العربية، وهو يفعل ما فعله هينر سليم في فيلم "الكيلومتر صفر" لكننا نعترف بأنّ الإساءة في فيلم "بێکەس" أخفّ من سابقتها فقد أظهرت الشخصيات العربية العادية التي ترتاد الأسواق خالية من الرحمة والإنسانية والتعاطف ولا تمدّ يد العون والمساعدة إلى طفل منكسر يتباكى وكأنّ قلوب العرب القاسية قُدّت من حجر أصمّ! بينما نحن العراقيين أحوج ما نكون إلى نشر ثقافة التسامح، والمحبة، وردم الهوة العميقة التي زرعتها الأنظمة الدكتاتورية على مرّ السنوات العجاف. وأنّ السينما هي الأقدر على إذابة الجليد وتنقية الضمائر والأرواح.
وفي الختام لابد من الإشارة إلى أنّ كارزان قادر من مواليد 8 سبتمبر 1982م بمحافظة السليمانية في العراق. هاجر مع عائلته إلى السويد وهو في سن التاسعة خلال حرب العراق سنة 1990م. التحق بأكاديمية ستوكهولم للفنون المسرحية (SADA) حيث درس الإخراج وتخصص فيه، كما مارس التمثيل وكتابة السيناريو. أنجز خلال مشواره الفني عددًا من الأفلام القصيرة وهي على التوالي:"اصطدام"2008م، "كوان" 2009م، "بێکەس" 2009م، و "الساعة الأخيرة" 2010م، وفيلمين طويلين وهما " بێکەس" 2012م، و "مطابقة الألوان" 2018م الذي اشترك فيه عدد من النجوم الأمريكيين والأجانب من بينهم جون ترافولتا، ومايكل مادسون، ومغنية البوب الكندية شانيا توين، والممثل والموسيقي البريطاني توبي سباستيان.
الاقتصاد النيابية تبحث المواصفة العراقية لاستيراد المركبات مع جهاز التقييس
3-نيسان-2024
وزير العدل خالد شواني لـ"العالم": نعمل على "أتمتة" عمل التسجيل العقاري وكتّاب العدول
25-آذار-2024
الحسناوي لـ"العالم": حصة المواطن من الموازنة العامة سنويا 4 آلاف دينار
23-آذار-2024
وزير الداخلية لـ"العالم":نخطط لاستبدال المنتسبين الرجال في المطار بكادر نسوي
12-آذار-2024
حادث سير يودي بحياة "مشرفين تربويين" على طريق تكريت - موصل
12-شباط-2024
العراق يتأثر بحالة ممطرة جديدة تستمر لأيام تتبعها ثالثة "وربما رابعة"
12-شباط-2024
هزة أرضية تضرب الحدود العراقية التركية وسكان يستشعرون قوتها في دهوك والموصل
12-شباط-2024
العراق يدعو إلى تدخل دولي لمنع خطط التهجير الجماعي لسكان جنوب غزة
12-شباط-2024
بمشاركة السوداني وبارزاني إنطلاق قمة عالمية بدبي للحكومات
12-شباط-2024
الأمن والدفاع: العراق لا يستطيع حماية أجوائه من المسيرات
12-شباط-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech