«ظلال من الشك» الفيلم الذي كان ألفريد هتشكوك يعتبره الأفضل
19-شباط-2023
إبراهيم العريس
حتى نهاية حياته، كان المخرج ألفريد هتشكوك حين يسأل من قبل محدثيه، سواء كانوا من النقاد السينمائيين أو من هواة الفن السابع أو من المقربين منه، عن الفيلم الذي يعتبره الأفضل بالنسبة إليه من بين أعماله الـ50، كان جوابه السريع والمباشر، الذي لا يتبدل على رغم كل شيء، "ظلال من الشك" هو الأفضل من دون تردد.
ومع ذلك من المستحيل اعتبار هذا الفيلم الذي حققه سيد سينما التشويق في بدايات مرحلته الهوليوودية، الأشهر بين ما حقق من شرائط أو الأنجح في شباك التذاكر أو المجدد الأكبر في لغة هذا المعلم السينمائية.
لكنه بالتأكيد كان الفيلم الذي يحتوي منذ زمن مبكر (حققه هتشكوك عام 1943 عن سيناريو من كتابة المسرحي الكبير ثورنتون وايلدر، الذي كان من بين الكتاب الكبار الذين أغرتهم هوليوود بالتعاون معها في ذلك الحين)، على عديد من العناصر الجمالية والفكرية التي سيشتغل عليها نقاد وباحثون كبار كأساس لتحليل علمي وفكري للسينما الهتشكوكية ومدخل لتحديد مساهمات صاحبها في الربط الذي كان يبدو صعباً بين التحليل النفسي والفن السينمائي.
وهي بالطبع العناصر التي ربما تكون لصعوبتها وجدتها مسؤولة عن دفع "ظلال من الشك" إلى درجة دنيا من الشعبية في تراتبية سينما هتشكوك، هذا ناهيك بأن كثراً راحوا منذ ظهور هذا الفيلم يخلطون بينه وبين فيلم آخر سبقه زمنياً بعام ونيف يحمل عنواناً قريباً منه هو "الشك" (1941).
بلدة أميركية هادئة
لاحقاً طبعاً وبعد سنوات طويلة من إعلان صاحب الفيلم تفضيله له، سيمعن كبار الدارسين وحتى الفلاسفة الذين تصاعد اهتمامهم بالتحليل الفيلمي، سيتخذ "ظلال من الشك" مكانته الراسخة ويستعاد عرضاً وتعليقاً من جديد ليعم رأي مخرجه عنه ويتحول إلى فيلم أيقوني لا مفر من العودة إليه باستمرار، لمن يدرس علاقة السينما الهتشكوكية، خصوصاً بنظريات فرويد وبعالم الأحلام و"زلات اللسان في الحياة اليومية" من دون أن يفوتنا هنا ذكر ما هو ملتبس ويتعلق بالمحظورات الجنسية أو الاجتماعية كما سنرى بعد سطور.
أما هنا فحسبنا بعض المعلومات والحقائق حول هذا الفيلم، وفي المقام الأول أجواؤه التي لا شك أنها تدين في بنائها الواقعي للكاتب ثورنتون وايلدر المعروف خصوصاً بمسرحته "بلدتنا" التي تعتبر أساسية في حداثة المسرح الأميركي وكثيراً ما تمت محاكاتها في أعمال مسرحية أو سينمائية لمبدعين آخرين، ولا سيما في الأزمنة الأقرب إلينا، الدانماركي لارس فون ترير الذي افتتح قبل سنوات الجزء الأول من ثلاثيته السينمائية "يو أس إي"، متحدثاً عن بلدة أميركية تدعى "دوغفيل" أعارت الفيلم عنوانه إذ بدت تلك البلدة وكأنها نسخة من بلدة مسرحية وايلدر، وكان ذلك مقصوداً في فيلم هتشكوك.
بين تشارلي وتشارلي
في هذا الفيلم إذا كان التقابل الأول بين هدوء البلدة واحتدام العواطف في تصاعد تدرجي بين شخصيتي الفيلم الرئيستين وهما تحملان الاسم نفسه مرة مؤنثاً والأخرى مذكراً: تشارلي. وهما عم وابنة أخيه تقوم بينهما علاقة روحية من دون أن يفوت هتشكوك التعبير في لحظات كثيرة شديدة الالتباس في الفيلم عن إمكانية أن تكون جسدية أيضاً، والالتباس هنا متأتٍّ من كون مثل تلك الفرضية تشكل محظوراً في سينما ذلك الزمن، لكن ليس هذا هو المهم، بل إنه ينتمي إلى شكل الفيلم أكثر من انتمائه إلى مضمونه، أما المضمون فماثل وإلى حد كبير من خلال الشكل وعناصره.
المضمون يشكل هنا محتوى الشكل حيث أبدع هتشكوك في تجاربه السيكولوجية ولعبة المرايا في مجموعة كبيرة من التقابلات بين ابنة الأخ وعمها: تقابلات ظرفية وحدثية منذ البداية حيث العم مستلقٍ يفكر بما سنفهم لاحقاً أنه مجموعة جرائم اقترفها بوسامته وسحره وذكائه جاعلاً ضحاياها نساءً أرامل يوقعهن في شباكه ثم يقتلهن بعد استيلائه على ما لدى كل واحدة منهن من ثروات، وها هو ذا الآن إذ بدأت شبهات تدور من حوله وبدأ تحرٍّ عنيد يطارده، ها هو ذا يفكر بالعودة إلى بلدته الهادئة حيث سيصعب أن يكتشف أحد أمره.
لعبة المرايا
وهنا ينقلنا الفيلم إلى البلدة، حيث تشارلي ابنة الأخ راقدة بدورها بوضعية العم نفسها إنما معكوسة كما لو أنها صورة في المرآة له، تدخن مثله سيجارة وتفكر فيه. وهكذا تبدأ التقابلات بين الاثنين بالظهور، حيث ما إن يرسل هو إلى الفتاة برقية تنبئها بحضوره تكون هي قد أرسلت له برقية تخبره فيها باشتياقها إليه وتدعوه للحضور.
انطلاقاً من هذا "التقابل" البسيط، يصعد الفيلم تلك التقابلات حتى يحولها إلى لعبة مرايا مدهشة تصبح هي جوهر الفيلم بحيث سيقترح الفيلم كما لو أن الشخصيتين شخصية واحدة: الأول يمثل الشر المطلق والعتمة فيما تمثل الثانية الخير المطلق والنور.
ويصبح الفيلم بالتالي بصرف النظر عن حبكته البوليسية صراعاً حقيقياً بين النور والعتمة يتوسطه التحري الذي يصل إلى البلدة لاحقاً ليعزز شكوكه بالعم ومطاردته له وربما هنا عن طريق إثارة الشك لدى الفتاة من حول عمها ناسفاً إعجابها به.
بالنسبة إلى التحري الذي يدخل على الموضوع من خارجه ويستعمل الفتاة وسيلة في معركته ضد المشتبه فيه هو متيقن من مسؤولية العم عن الجرائم وحتى على رغم العثور على مشتبه فيه آخر.
وفي الحقيقة سيكون نجاح التحري كبيراً في نهاية الأمر، لكن من خلال الأخطاء التي يرتكبها العم وتعزز شكوك تشارلي الفتاة به.
ليس ملاكاً
تلك الأخطاء تتمثل في أن ذكاء العم والحالة النفسية التي انتقلت إليها الفتاة في علاقتها بعمها تؤكد لهذا الأخير أنها باتت على ما يشبه اليقين من أنه لم يعد ذلك "الملاك" الذي كانت تعتقده، بالتالي لم يعد أمام العم إلا أن يحسم الصراع الصامت بينهما، ولا يكون ذلك ممكناً إلا بقتلها قتلاً يبدأ طقوسياً أول الأمر حين نراه يقطع إحدى درجات سلم خشبي كي تقع منه فتقتل (رمز السلم والهبوط عليه).
لكن تلك الخطة الأولى تفشل، مما يعزز في الوقت نفسه شكوك الفتاة بعمها ويزيد من رغبة هذا في قتلها، لينتقل إلى خطة جديدة تقوم هذه المرة على رمزية مفتاح مرأب السيارة في البيت حيث يسجنها وقد انكشفت اللعبة بينهما، ويدير السيارة أملاً في أن يتخلص منها هذه المرة بخنقها من طريق الغازات المنبعثة من السيارة، غير أنه يفشل في خطته هذه المرة أيضاً بالنظر إلى أن الصراع بات مكشوفاً بينهما.
ولا يكون من أمره في محاولته الجديدة التي كانت أكثر عنفاً ووضوحاً هذه المرة، إلا أن يجرها إلى محاولة ثالثة عبر رميها الصريح من قطار استقلاه معاً في تحدٍّ واضح يمارسه كل منهما تجاه الآخر.
وهذه المرة تفشل الخطة أيضاً لكن بفضل صراع بين جسدين لا بين جسد (يمثله العم) وروح (تمثلها الفتاة) كما لو أن أحد وجهي الشخصية نفسها قد تمكن من الانتصار على الوجه الآخر، مما يعني في المنطق الهتشكوكي انتصار الخير على الشر، والنور على العتمة، واستحالة بقاء الوجهين المتصارعين، وربما المتوحدين جسدياً في الإمكان في الأقل، متعايشين معاً.
فالوجه الخير يمثل في نهاية الأمر خطراً حقيقياً على الوجه الآخر الشرير، تماماً كما أن الوجه الشرير يشكل بدوره خطراً على الوجه الخير، ومن هنا بانتصار الخير على الشر يصل هتشكوك إلى الغاية المتوخاة من صنع هذا الفيلم، لكنه في الوقت نفسه يحقق غاية خفية أخرى لا تقل أهمية بالنسبة إليه عن الغاية الأولى وهي متابعة المزاوجة في فكرانية سينماه بين نوعين من الفكر والإبداع كان يعرف أنهما توأمان ولدا معاً بأبعادهما الحديثة عند بدايات القرن العشرين ولا بد من أن يطلع سينمائي ليعيد بينهما لحمة كان فرويد قد فككها عبر احتقار لفن السينما لم يوافقه عليه كثر من المفكرين، وذلك على خطى ألفريد هتشكوك الذي يبدو اليوم من غير الممكن تجاهل دوره المهم في الربط بينهما ولا سيما خلال المرحلة التي حقق فيها "ظل شك" كتتويج لسلسلة أفلام سبق له فيها اللجوء إلى التحليل النفسي عنصر التشويق البوليسي وما شابهه.