هوفيك حبشيان
يبتعد الفيلم من طرح قضية بقدر ما يمنح جسداً ووجهاً لحال إنسانية، محولاً الواقع اليومي القاسي إلى دراما خالية من التجميل أو التهويل، فقد حقق "قصة سليمان" إيرادات معتبرة تجاوزت الـ 600 ألف مشاهد في فرنسا، واكبه استحسان نقدي حين وصفته مجلة "تيليراما" بـ "ثريللر يحبس الأنفاس".
ومن خلال إخراج دقيق يلتقط تفاصيل الحياة اليومية، يتعقب الفيلم خطوات مهاجر غير شرعي من غينيا يدعى سليمان (أبو سانغاريه) يعمل في توصيل الطلبات بدراجته النارية، فنتابعه خلال جولاته في شوارع باريس طوال يومين مكثفين يختزلان نمط وجود بأكمله، إذ تتقاطع المهمات البسيطة مع القلق والتوتر المستمر حول البقاء، لا فقط في المدينة بل في البلاد وربما في الحياة نفسها.
سليمان ليس بطلاً ولا مناضلاً ولا حتى موضوعاً للرأفة، هو شخص يحاول النجاة وعليه أن يقبض مستحقاته من مشغل يتعامل خارج القانون، وأن يتعلم من لاجئ سابق كيفية تخطي مقابلة اللجوء الرسمية، وعليه اللحاق في نهاية اليوم بالباص الليلي الذي سيعيده للمركز الذي يبيت فيه، و ما يبدو لوهلة أهدافاً بسيطة، يتحول إلى معركة متواصلة ضد فقدان السيطرة على أصغر تفصيل.
الكاميرا تلاحقه بتوتر، فلا وقت للتأمل أو الشرح، فالإيقاع سريع لا يهدأ ويجبر المشاهد على تقاسم القلق ذاته مع الشخصية، وبذكاء كبير يتلاعب المخرج بالمسافة بين المتفرج وسليمان فلا يمنحنا فرصة للاستقرار أو للراحة، ونحن كمشاهدين محكومون بالتتابع المضغوط للأحداث كما يعيشه سليمان نفسه، إنه زمن الطوارئ اليومية الذي تعيشه أعداد لا تحصى من المهاجرين في المدن الأوروبية الكبرى، وقد نجح لوجكين في تجسيده من دون استعراضية أو استدرار للعواطف. وما يضفي عمقاً خاصاً على الفيلم هو اختيار لوجكين لممثل غير محترف، أبو سانغاريه، الذي لا يؤدي فقط دور سليمان وإنما يقدم نسخة مكثفة من الحياة التي عاشها، فقبل اضطلاعه بالدور كان سانغاريه شاباً غينياً واجه قرار الترحيل من فرنسا، لكن بعد نيله جائزة التمثيل في "مهرجان كان" العام الماضي في قسم "نظرة ما"، مُنح إقامة لعام واحد على أن تجدد لاحقاً.
يحمل أبو سانغاريه في تفاصيل وجهه وحركات جسده صدقاً ما كان من الممكن ربما تجسيده لو لم يعش الممثل في مجال التوصيل، ولذلك فقبل التصوير اشتغل عامل "ديليفري" مدة أسبوعين متبعاً نهج الـ "أكتورز أستوديو"، مما أتاح له التماهي التام مع الدور بلا حاجز نفسي أو تقني.
صحيح أن الفيلم يرتكز جزئياً على تجربته، لكن السيناريو مبني على سلسلة من التحقيقات واللقاءات التي أجراها لوجكين مع مهاجرين ولاجئين في فرنسا، خصوصاً ممن يعملون في الاقتصاد الرمادي، أي الأنشطة الاقتصادية التي تمارس خارج الإطار الرسمي للدولة، ولذا لا يرسم الفيلم بورتريهاً لسليمان كحال منفصلة، فهو إنسان لديه طموحات بسيطة وشكوك وقوة داخلية غريبة في التحمل، لكنه في النهاية جزء بسيط من مشهد عام.
والخصوصية الفردية هي ما يميز الفيلم عن موجة الأفلام الاجتماعية التي تسقط الشخصيات في بعد رمزي خالص أو تختصرها في سردية الضحية، وعلى رغم الشحن العاطفي في بعض الأحيان فإنه يتفادى السقوط في التوسل أو في الخطاب التوعوي، فلا صوت راو يشرح ما يجري، ولا موسيقى تبالغ في تأطير اللحظات، ولا مشاهد درامية زائفة لانتزاع الدموع، بل على العكس يحترم الفيلم عقل المتلقي معتمداً على الحضور الجسدي للممثل، وعلى المونتاج الدقيق لإيصال التوتر، وحتى اللحظات الصامتة، حيث لا يحدث شيء مهم، تكون محملة بانتظار ثقيل. أما المُشاهد فلا يمنح امتياز التماهي الكامل مع سليمان، ولا يتوهم أنه يعيش المعاناة ذاتها، ذلك أنه يشعر بأنه مدعو فقط إلى الانصات بانتباه، وهذا الوعي بالمسافة بين التجربة المعيشة والمشاهدة السينمائية من أكثر مزايا العمل نبلاً، فهو تذكير بأننا مهما تعاطفنا وشعرنا فلن نفهم تماماً حياة شخص يعيش على الهامش إلا إذا استمعنا له مباشرة.
من الناحية البصرية يتبنى لوجكين أسلوباً هجيناً يجمع بين أساليب سينمائية مختلفة، فباريس هنا متاهة لوجستية قاسية مكونة من أحياء بعيدة وجسور علوية وطرقات لا تعكس أي رومنطيقية، وسليمان يعبرها كمن يخوض سباقاً لا نهاية له على دراجته، جسده دوماً في حركة لكن وجهه ساكن وكأن الزمن نفسه يلاحقه، وهذا الاشتغال على الجغرافيا كنسق عدائي يخلق إحساساً بالدوار لا لحظة استقرار واحدة في الفيلم، ووحده الليل عندما يحل يحمل معه شيئاً من الهدوء، وحتى هذا الليل ليس حيزاً للراحة بل للقلق المضاعف حيث يخشى سليمان أن يفوت الحافلة أو أن يُلقى القبض عليه أو ألا يجد مكاناً يأويه.
ولا يدخل الفيلم في خطاب مباشر عن سياسات الهجرة الفرنسية أو الأوروبية لكنه يلمح بمهارة إلى كيف يستنزف الشخص في صراعه مع مؤسسات لا تراه، وعلى رغم ذلك لا يُسلب سليمان كرامته ولا نشاهده منكسراً أو مكسور الإرادة، ومن خلال التوتر الدائم حول الورقة التي تنتظر الموافقة، يرينا الفيلم كيف تتحول البيروقراطية إلى آلية تمديد مؤلم للحياة المؤجلة.
قد يعتقد بعضهم أن مثل هذا الفيلم محصور في جولات المهرجانات وهذا غير صحيح، لأن ما يميز "قصة سليمان" هو أنه لا يحاول إرضاء جمهور بعينه، فهذه ببساطة سينما صافية تؤمن بقوة المشهد وتعلم أن الكاميرا إذا أُحسنت إدارتها يمكن أن تنطق الصمت، إنه فيلم يدعونا إلى أن ننظر إلى من لا نراهم، فاتحاً باباً صغيراً نحو الاعتراف بأن خلف كل عامل توصيل يمر قربنا على دراجة نارية يكمن سيرة كاملة مكتظة بالتساؤلات والمخاوف والشوق إلى شيء بسيط، مثل الحصول على الإقامة أو النوم الهادئ، وهو فيلم يجعل من اللاجئ شخصية كاملة، ويمنح اسماً (سليمان) لهؤلاء الذين اعتدنا اختزالهم في رقم أو ملف.