كاتيا الطويل
"كاستينغ أمني" عمل كوميدي خفيف ذكي غير متوقع، بالكاد يربو على الساعة والربع، تنتجه وتخرجه جوزيان بولس ونقله عن الفرنسية الكاتب المسرحي ديمتري ملكي صاحب الأعمال المميزة في أرشيفه المسرحي. وتجدر الإشارة إلى أن هذا العمل هو في الأصل مسرحية فرنسية من كتابة جاك شامبون الممثل والكاتب والمخرج الفرنسي المولود عام 1962، الذي وضع عدة أعمال كوميدية بالفرنسية تعرض حالياً على الخشبات الأوروبية.
لبننة المسرحية
تدور أحداث هذه المسرحية في غرفة "بديع الطويل" (علي بليبل)، وهو شاب يطمح إلى أن يكون ممثلاً. فيجد المتفرج نفسه في غرفة متواضعة تعكس شخصية هذا الشاب المسكين بفقره وشبابه وفوضويته وعشقه للممثلين العظماء. وبين صور لفنانين معروفين وسرير مهترئ وطاولة مكتب مقلوبة رأساً على عقب، يكتشف الجمهور الشاب النائم بملابسه الداخلية والذي يحلم بتأدية أعظم الأدوار. ويدخل الخشبة فجأة الشاب القوي ذو العضلات "ألكسندر زعيتر" أو عبدو (جلال الشعار). محقق من الشرطة يدخل الغرفة البائسة بديكورها البالي والعتيق والمهلهل ليفرض حضوره وسلاحه وأدوات المراقبة الخاصة به. وتبدأ حبكة بوليسية غريبة عجيبة، قصص تجار ممنوعات وشبكات غير قانونية وأمور تفوق تصور الشاب الهزيل الذي يستيقظ من نومه على حين غرة ليجد نفسه في خضم حلقة مراقبة وتحليل بوليسي سري.
يبدو أن جوزيان بولس "اقتنصت" هذا العمل من مهرجان أفينيون للمسرح، فعملت مباشرة على البحث عن الكاتب لتتواصل معه ولتحصل على حقوق نقل النص إلى اللبنانية وإلى الجمهور اللبناني، فتقول بولس في مقابلة خاصة أجريناها معها عن كواليس هذا العمل "ما إن شاهدت المسرحية حتى تخيلتها بالعربية مباشرة وشعرت أنها ستكون مسرحية رائعة، وما لبثت أن عملت على نيل حقوقها. مررت النص عندها إلى ديمتري ملكي ليعربه، على رغم رغبتي الأولى في أن أنقله بنفسي إلى اللبنانية، لكنني لنقص في الوقت حولت المهمة إلى ملكي، وبعد ترجمة النص وخلال التمارين على المسرحية غيرنا ما وجدناه ضرورياً، وهو أمر طبيعي لأن التعديلات تحصل وفق خصائص كل جمهور وكذلك بحسب الأداء والممثلين. ويمكنني التأكيد أننا لم نقم بتغييرات جذرية على النص، قصرنا مدة العرض عن المدة الأصلية إنما في المطلق ظللنا أوفياء للنص الأصلي الذي وضعه جاك شامبون".
يبدو أن التعديلات التي أجريت على النص إنما هي تعديلات صائبة لكونها استجلبت تفاعل الجمهور وضحكه ورضاه. لكن النص ليس وحده المسؤول عن الفضاء الجذل الذي حل بالجمهور، فعدا عن النص الخفيف والكوميدي، أضاف الممثلان البارعان كثيراً من الخفة والظرف عليه، فجلال الشعار الذي يؤدي دور المحقق يبرع في دوره أيما براعة، سواء من ناحية ثورات الغضب التي تحل به أو نوبات البكاء على الحبيبة التي تهمله أو حتى التصرفات الشارعية العنجهية التي يتصف بها المحققون المتخفون عموماً. أما علي بليبل الذي يؤدي دور الممثل صاحب الغرفة فإنما يتميز بتأديته لدوره ببراعة لا يُعلى عليها من حيث الحركة على المسرح والتحكم بالجسد ورعشاته، وكذلك بتوظيف تعابير الوجه وأماراته بحسب مشاعر الخوف أو القلق أو التوتر أو غيرها.
تقول جوزيان بولس عن اختيارها للممثلين: "بعد كل ما مررنا به خلال الأشهر الأخيرة في لبنان، شعرت أنه من واجبنا أن ندخل الضحكة والفكاهة إلى مسرحنا. إنها المرة الأولى التي أخرج فيها نصاً وعشقت هذا العمل وأشعر بنفسي شغوفة به، وبخاصة أن الممثلين اللذين رافقاني خلال هذه التجربة مميزان وفريدان. تبادلت معهما الأفكار والخبرات والآراء في جو من الألفة والمحبة والصداقة والتعاون. وتحولت هذه المسرحية إلى نوع من الدواء والشفاء لنا جميعاً. بدأنا في خلال الحرب بقراءة النص وبالتحضير له، ووعدنا أنفسنا بأننا ما إن تهدأ الأوضاع حتى نؤدي المسرحية أمام الجمهور اللبناني. وحلت الهدنة لحسن الحظ فرحنا نتمرن، وبدأنا التمارين بعد انتهاء الحرب مباشرة وها نحن اليوم نقدم العروضات التي ستستمر حتى الـ23 من فبراير (شباط) الجاري، ومن ثم من الـ26 إلى الـ30 من مارس (آذار) المقبل".
وتضيف: "وقع اختياري مباشرة على جلال وعلي، فهما صديقان لي ولمسرح مونو، وعندما رأيتهما ذات ليلة عرفت أنه لا يمكن لغيرهما تأدية هذه المسرحية. وشعرت تلقائياً أن الطاقة والتناسق والكيمياء الفنية الموجودة بينهما ستجعلهما يؤديان النص بصورة رائعة، وهذا ما حصل تماماً، وأظن بأنني لم أخطئ في خياري. وأضيف أن الفارق الشاسع في شكلهما الخارجي تبدى عاملاً بارزاً في تعزيز التناسق المسرحي لحبكة النص، فأحدهما عريض ويملك جسداً رياضياً قوي البنية يخوله أن يكون المحقق المحترف، بينما الآخر هزيل ورقيق البنية ويليق به أن يؤدي دور الممثل الرعديد المسكين. ويبدو أن خياري راق للكاتب الفرنسي الذي سعد بالملصق الدعائي وقال إن صورة الممثلين جسدت تماماً ما كان في ذهنه عندما كتب النص".
المسرح اللبناني
عن تحديات إنجاز هذا العمل في الظروف المحلية الراهنة تقول بولس: "إن التحدي الأول كان أن أجد الكاتب وأن أقنعه بأن يمنحني حقوق النص، وهو أمر حصل بسلاسة لكبير فرحتي. ولم ألتق الكاتب شخصياً لكننا كنا على تواصل دائم خلال التحضير للعرض، وتبادلنا الإيميلات والرسائل ويبدو لي من خلال ما عرفته منه شخصاً طيباً لطيفاً وكريم النفس، كما أنني دعوته لحضور العرض الأول للمسرحية لكنه للأسف كان مشغولاً، ومع ذلك حرص على إرسال فيديو شخصي تشجيعي صنعه خصيصاً للجمهور اللبناني. أما التحدي الأكبر بالنسبة إلينا فكان الحرب والظروف المحلية التي رافقتها، والتي كانت غير مواتية لحضور أي أحد للمسرح. أما على الصعيد الشخصي فكان التحدي في أن أتخطى خوفي من الإخراج وأن أجرؤ على القيام بهذه الخطوة الجديدة علي. ولاحظت أن تاريخي في المسرح سهَّل علي هذه المهمة وأتاح لي الاستمتاع بها، فحصلت الأمور بكل أريحية وطبيعية نتيجة لاحتكاكي لأعوام بمخرجين عظام وبصناع مسرح من الطراز الرفيع".
وتضيف: "أظن أنني متأثرة شديد التأثر بلينا أبيض لأنني خلال التدريبات مع الممثلين وجدت أثرها وحضورها ونصائحها حاضرة معي وفي ذهني. أحب طريقتها ومنهجيتها، وحاولت أن أجبل هذه الطريقة بشيء من ذاتي وتجربتي. ويمكنني الآن أن أقول إنني جربت كل شيء في عالم المسرح، ومع تقدمي في العمر أعتقد أنني سأتوجه من التأدية على الخشبة إلى الإخراج من خلف الكواليس. وأظن أن الإخراج هو أقل الوظائف ضغطاً، على أن لاعتلاء الخشبة ميزة خاصة، وللتمثيل مكانته الفريدة".