أوروبا تتألم في غزة
12-تشرين الثاني-2023

بوفينتورا دي سوسا سانتوس*
أوروبا ركن ضيق من قارة فسيحة تدعى أوراسيا وتمتد من كايب روكا إلى كايب ديجنيف - قارة ضخمة ذات تاريخ غني جدا. في ذلك الركن الصغير، نرى أن ما نسميه شبه الجزيرة الإيبيرية أصغر بالتأكيد. وخلال ألف عام كان مجرد فضاء محدود لا يمكن لأي فاتح أن يمنحه اهتماما خاصا. فهو نهاية العالم البطلمي - طريق مسدود. ولكن استعمل الرومان هذه الزاوية من العالم لإضعاف القرطاجيين، ولطردهم من شبه الجزيرة الإيطالية. وبعد عدة قرون، حينما تهاوى القوطيون الغربيون، جاء المسلمون من شمال إفريقيا ليطوروا ثقافة هذه المنطقة الطرفية من أوروبا ويغنوها. وبلا المثاقفة مع الأندلس ما أمكن للثقافة الغربية التي نعرفها الآن أن ترى النور.
ومنذ القرن الخامس عشر وما بعد، بدأت أوروبا بالتخلي عن أولوية أعطتها لعلاقاتها القديمة مع أوراسيا، ثم غزت مناطق أخرى من العالم، كانت تفصلها محيطات، بعد ئذ توسعت أوروبا باتجاهات جديدة، وعبرت البحار نحو الغرب والجنوب، وحتى الشرق الأقصى. وسجلت قصة من فاز بهذا التاريخ كؤوس النصر الضخمة. أما قصة المهزومين فقد كانت بحاجة لفترة طويلة لنتعرف عليها، وحاليا نحن لا نعرف إلا الجزء اليسير منها. وطريقة أوروبا في "الحياة المشتركة" مع هذه العوالم الجديدة كانت دائما عرضة للتبرير والنهب والعنف، ودائما باسم الإيديولوجيات النبيلة (المسيحية، الحضارة، التطور، التقدم، حقوق الإنسان، الديمقراطية). ولو لا أن هذه الإيديولوجيات عديمة الأهمية، وغير مقنعة، ما أمكن أن يكون لديها العزم والقوة لتلغي جوهر مبدأ التعايش، والذي بدوره يتطلب إشعال حرب دائمة بلا انقطاع.
ولا ينمو لعلمنا غير القليل عن "ظروف العيش المشترك" هذه، المتبعة في الداخل والخارج. فأطول فترة سلام عاشتها أوروبا لم تستمر أكثر من مائة عام (1815 - 1914)، وحتى آنذاك، وقعت الحرب الفرانكو - بروسية. أما ثاني فترة رخاء، بدأت عام 1945، لم يقدر لها أن تستمر طويلا كما يبدو. والسبب هو الخطيئة الأصلية التي ارتكبتها حضارة أوروبا. فقد اعتبرت نفسها متفوقة، دون أن تتفق مع أحد على معايير التفوق، ودون أن يتفق العالم على جهة لديها الحق الشرعي في وضع هذه المعايير. ولهذا السبب، منذ القرن الخامس عشر، كانت أوروبا تعمد لتعريف نفسها باتباع سياسة الاستبعاد المتبادل. كانت روسيا أحيانا هي أوروبا، وأحيانا الطرف الثاني المعاكس لأوروبا. وروسيا نفسها ما كانت ترى أوروبا على أنها أرضها الدائمة أو أنها وطن عدوها. وحصل ذلك بالمثل مع شعوب البلقان. كانت أوروبا الشرقية بنظر هتلر شعبا من البربر (برأيه ليس لدى البولونيين ثقافة). أما جنوب أوروبا فقد كانت الباحة الخلفية لشمال أوروبا، وتعتبرها نصف إفريقية بنمط حياتها ودمائها المختلطة. من جهة مقابلة كانت إيرلندا مستعمرة إنكليزية تعرضت لمجاعة شديدة لا يجاريها إلا المجاعة التي فرضها ستالين على أوكرانيا. وخلال الحرب الباردة تم حل مشكلة روسيا، ليس بتقسيم أراضي روسيا، ولكن بتجزئة أوروبا إلى كتلتين.
وبعد نهاية الحرب الباردة، بدأت الهزيمة التاريخية والحقيقية لأوروبا. ومجددا لم تتمكن أوروبا من التوحد باستثناء تكتلها ضد روسيا. وفي هذا السياق لم يكن ذلك ليتم بمبادرة منها (فقد ذهبت بالاتجاه المعاكس تماما، وهو اتجاه السياسة الشرقية أو اوستوبوليتيك الذي اتبعه ويلي براندت)، لو لا تدخل الولايات المتحدة الجاهزة لاستعادة ديونها التي تراكمت خلال الحرب العالمية الثانية. وكان فشل وضع حد ينهي الناتو (وحصل العكس، وهو توسعته بعد الانتهاء من حلف وارسو)، أداة استعملت لفصل أوروبا عن روسيا. أما نهاية الاستعمار التاريخي فقد صعّب مهمة الحصول على مصدر رخيص وغير محدود للاحتياجات الطبيعية التي تنقص أوروبا. وطيلة عشرين عاما، مع بداية ظهور سلطة فلاديمير بوتين عام 2009، حلت روسيا هذه المصاعب، وقدمت لأوروبا 35% من غازها الطبيعي بأسعار تنافسية لصالح الشركات (وعلى وجه الخصوص الألمانية). ولكن انتهى هذا الحل بتفجير أنابيب الغاز في 26 أيلول 2022. وإن لم تتسبب الولايات المتحدة بالتفجير (كثيرون يعلنون أنها فعلت ذلك)، فهي على الأقل المستفيد الأول منه، فقد أصبحت أوروبا أكثر اتكالا على أمريكا، وبهذه الطريقة جعلت الاقتصاد الأوروبي أقل تنافسية. واستمرار الحرب في أوكرانيا، يعني فشل أوروبا في بناء سلام عادل يواجه أطماع الولايات المتحدة الجيو استراتيجية، وهو الجانب الأوضح الذي يؤشر على الانحطاط التاريخي الذي لحق بأوروبا. ولن يكون هذا آخر قشة. فالاستعمار شبح سيسكن أوروبا لفترة طويلة آتية. وأحدث مظاهره الحل الإجرامي الأخير الذي فرضته إسرائيل على فلسطين وحولت بنتيجته شعبا كاملا إلى شهيد واحد. كانت الصهيونية ضرورة للإمبراطورية البريطانية، لأنها منعت ظهور دولة عربية قوية في الشرق الأوسط، ودعم ذلك مفهوم العداء للسامية. ومرت المسألتان بتاريخ فظيع وطويل بدأ منذ القرن السادس عشر بالمخاض النازي، تبعه برنامج عام 1881 في روسيا، وقضية درايفوس في فرنسا (1894). تذكر فقط أن واحدا من الكتب التي أسست للصهيونية نشر عام 1896 (وهو "الدولة اليهودية" لتيودور هرتزل). واليوم تحكم الصهيونية إسرائيل، وهي مزيج فتاك من أسوأ تراثين خلفتهما الحضارة الأوروبية: الكولونيالية والفاشية. وإسرائيل دولة كولونيالية مقسومة بخط صدع عميق: ديمقراطية لليهود، وفاشية للفلسطينيين، سواء كانوا مواطنين اسرائيليين أو غير مواطنين.
سياسيا تابعت إسرائيل خدمة مصالح الإمبريالية الغربية في الشرق الأوسط، وفي هذه المرة ليس الإمبراطورية البريطانية، ولكن الأمريكية. على صعيد إيديولوجيا الأخلاق تبدو إسرائيل صورة لأوروبا على سطح مرآة متوحشة تعكس أقبح وجه في تاريخها، وهو تاريخ يرفض بإصرار أن يتذكر الحساب الذي لا يمكن تسويته مع العالم. ومتابعة المشاهد القادمة من غزة على شاشة التلفزيون ووسائط التواصل الاجتماعي، يثبت أن العالم الذي كانت تستعمره أوروبا أصبح يئن من الإحساس بحالة دي جي فو déja vu (العودة لتجربة سابقة). وها هو يتذكر الحقائق التالية: حياة المستعمر (بكسر الميم) لا تتساوى على الإطلاق مع حياة المستعمر (بفتح الميم). وإذا قاوم من وقع عليه الاستعمار بطريقة ملحوظة إلى حد ما، فهو إرهابي، والحل المفهوم والأخير للإرهابيين - هو الإفناء. وإن المستعمرين يتصرفون وفق مبادئ عالية، لكن المستعمرين (بفتح الميم) يتصرفون ببربرية. المشكلة أن أحدا لم يناقش موضوع التناقض بين مبادئ الاستعمار وبربرية المستعمر (بفتح الميم). ولا يوجد جدوى من التفكير بالمسؤولية الفردية لأن الخطيئة والعقاب جماعيان، فالمستعمر (بفتح الميم) لم يكن هدفا للعقاب على أفعاله، ولكن لما هو عليه (لأنه أدنى ويمكن التخلي عنه). والمستعمرون (بفتح الميم) إذا لم يكونوا إرهابيين فهم عقبة بوجه التطور، ولذلك يجب تنظيف الأرض، وتمهيدها للبديل، وهو طريق الحرير (الصيني)، وضمان وصوله إلى ميناء حيفا بأمان. ولا فائدة من طلب المساعدة من بلدان استعمارية أخرى ما داموا يستفيدون من الأعمال القذرة التي يقترفها الآخرون.

• بوفينتورا دي سوسا سانتوس Boaventura de Sousa Santos أستاذ علم الاجتماع المستشار في جامعة كويمبرا في البرتغال. أحدث كتبه "تحرير الجامعة من الاستعمار: تحدي العدالة المعرفية العميقة".
ترجمة د. صالح الرزوق عن موقع Znetwork.

النزاهة تحقق في قضية تهريب الذهب من مطار بغداد
18-تشرين الثاني-2024
الأمن النيابية: التحدي الاقتصادي يشكل المعركة المقبلة
18-تشرين الثاني-2024
الجبوري يتوقع اقصاء الفياض من الحشد
18-تشرين الثاني-2024
نائب: الفساد وإعادة التحقيق تعرقلان اقرار «العفو العام»
18-تشرين الثاني-2024
منصة حكومية لمحاربة الشائعات وحماية «السلم الأهلي»
18-تشرين الثاني-2024
مسيحيون يعترضون على قرار حكومي بحظر الكحول في النوادي الاجتماعية
18-تشرين الثاني-2024
الموازنة الثلاثية.. بدعة حكومية أربكت المشاريع والتعيينات وشتت الإنفاق
18-تشرين الثاني-2024
النفط: مشروع FCC سيدعم الاقتصاد من استثمار مخلفات الإنتاج
18-تشرين الثاني-2024
تحديد موعد استئناف تصدير النفط من كردستان عبر ميناء جيهان التركي
18-تشرين الثاني-2024
فقير وثري ورجل عصابات تحولات «الأب الحنون» على الشاشة
18-تشرين الثاني-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech