إيتالو كالفينو بين عالم مكتوب وآخر لم يُكتب
23-كانون الثاني-2023
سناء عبد العزيز
صدر للكاتب الإيطالي الرائد إيتالو كالفينو منذ وفاته عام 1985 وحتى يومنا هذا، ستة أعمال غير روائية تنوعت بين النقد الأدبي والسيرة الذاتية، وها هي دار "بنغوين كلاسيك" للنشر، تستهل عامها الجديد بنشر مجموعته السابعة "العالم المكتوب والعالم غير المكتوب"، التي طرحت عدداً من الأسئلة الطريفة عن مدى سعة أدراج الساحر كالفينو لتحوي كل هذا القدر من الأعمال، وهل ما زالت أدراجه الأسطورية تلك، تخفي المزيد؟
سر "الكونت المشطور"
ولد إيتالو كالفينو عام 1923 في سانتياغو دي لاس فيغاس، إحدى ضواحي هافانا في كوبا. لم يمضِ عامان، حتى انتقلت أسرته إلى إيطاليا لتستقر بشكل دائم في مدينة سانريمو بدفئها المحمي بالجبال، حيث عاش العالم الشهير ألفريد نوبل. كان والده ماريو عالم نبات ورائداً في زراعة الفواكه النادرة مثل الأفوكادو والجريب فروت، وكذلك والدته جوليانا لويجيا إيفيلينا. وهذا ما يفسر افتتانه بالطبيعة وتغلغلها في كافة أعماله. ومنها "البارون ساكن الأشجار"، ذلك الأرستقراطي الأسطوري الذي هرب في طفولته إلى الغابة واعتلى الأشجار، معلناً عن موقفه المتردد من الهبوط إلى أرض الواقع. لكن كالفينو الذي نشأ في أسرة تقدر العلم وتستهين بالأدب، فضل النزول على رغبة والديه والتحق بكلية الزراعة. حتى في أوقات الفراغ، حرص أن يوازن بين استرضاء روحه الساكنة في عالم الخيال بقراءة أعمال إيليو فيتوريني، وأوجينيو مونتالي، وتشيزاري بافيز، ويوهان هويزينجا، وبيساكان، وتحفيز تفكيره العلمي مع أعمال ماكس بلانك وفيرنر هايزنبرغ وأينشتاين. يقول كالفينو: "أنتمي إلى تلك الفئة من البشر؛ الأقلية على نطاق الكوكب وإن كنت أعتقد أنهم يمثلون السواد الأعظم من جمهوري، هؤلاء الذين يستغرقون يومهم في عالم خاص، عالم مرتب في أسطر أفقية حيث تتبع الكلمات بعضها، وتتخذ كل جملة وكل فقرة مكانها المحدد؛ عالم بوسعه أن يكون ثرياً جداً، بل ربما أكثر ثراءً من العالم غير المكتوب الذي يضطرني إلى إجراء تعديل خاص لموضعة نفسي داخله".
من رحم القراءة إلى طقوس الولادة
عاش كالفينو حياة بدت مصنوعة من الكلمات، الشكل الذي كان أكثر تكيفاً مع بصره، وكان عليه كي يخرج من عالمه المكتوب إلى العالم القائم على ثلاثة أبعاد وخمس حواس، أن يجرب في كل مرة صدمة الولادة، وطقوس الاستعداد لمواجهة الواقع، المشوش لا محالة أمام عينيه: "لكوني قصير النظر أقرأ بلا نظارات وأضعها بمجرد أن أترك الكتاب، بينما أغلب الناس يفعلون العكس، أي يخلعون نظاراتهم عقب القراءة".
لقد نجح كالفينو بلا جدال في الإحاطة بالعالم المكتوب، وفشل تماماً في القبض على العالم غير المكتوب، كتب يقول: "معظم الأمور لا أستطيع استيعابها، من أكثرها عمومية إلى أكثرها تفاهة. أجد نفسي في كثير من الأحيان في مواقف لا أعرف كيف أصل فيها إلى رأي، فأختار تعليق الحكم".
لطالما اعتقد كالفينو في شبابه، أن العوالم الخيالية بوسعها أن تضيء العالم الحقيقي والعكس صحيح، ومع تقدمه في السن، أدرك أن التجربة داخل الكتب دائماً ما تكون ممكنة، بحيث لا يتجاوز مداها فراغ الصفحة. بينما ظل العالم الخارجي بالنسبة إليه لغزاً عنيداً ولا يمكن التنبؤ به، عالم لم يتوقف أبداً عن "مفاجأتي وإخافتي وإرباكي"!
في "السيد بالومار" 1983، يستكشف كالفينو الأنا المتغيرة لشخصيته الرئيسية، معرجاً على وصف الطرق التي تعرفنا بها الحواس الخمس على العالم وتجعلنا مسجونين داخل عقولنا. فحين يتأمل بالومار النجوم، ويواجه هذا الشسوع اللانهائي للكون، يساوره القلق لأنه لا يستطيع أن يحدد إذا ما كان عليه وضع نظاراته عند استخدام التلسكوب، أم أن عليه خلعها: "أهذه هي الهندسة الدقيقة للحيز الفلكي الذي طالما أحس السيد بالومار بالحاجة إلى مخاطبتها لكي ينفصل عن الأرض موطن التعقيدات التي لا طائل فيها والتخمينات الملتبسة".
بين استرضاء القارئ وتحديه
تغطي "العالم المكتوب والعالم غير المكتوب"، كل ما كتبه كالفينو في الفترة من عام 1952 إلى عام 1985، في مجموعة من المقالات والمقابلات والمراسلات والملاحظات والشذرات المتفرقة، تكشف نهجه الاستثنائي والملهم في كتابة الأدب وقراءته وتفسيره. بعض منها نشر في صحف متفرقة أثناء حياته، والبعض الآخر لم يرَ النور إلا مع هذا الإصدار بترجمة آن غولدشتاين إلى الإنجليزية للمرة الأولى.
يضم القسم الأول موضوعات قيمة عن القراءة والكتابة وفن الترجمة، فنتعرف من خلاله إلى كتابه المفضلين؛ ستندال وتشيخوف وبوشكين وجين أوستن وكاثرين مانسفيلد. وعلى عادة كالفينو، يستهل الكتاب بمقدمة طريفة قبل أن يأخذنا معه إلى الأغوار: "لقد قرر القارئ الجيد في عطلة هذا الصيف أنه سيقرأ هذا الكاتب بالفعل".
عبر الأجزاء المتناثرة (بعض منها جمع من فوق طاولته دونما تحرير، وبعض منها يحتاج إلى مصدره ليمكن فهمه)، يستكشف كالفينو ببراعة مفهوم الأدب في عالم سريع التغير من الكلاسيكيات إلى الأدب المعاصر، ومن التقليدي إلى التجريبي، وذلك من خلال مناقشة ذكية لأعمال باختين وبريخت وكورتازار وتوماس مان وأوكتافيو باز وجورج بيريك وإمبرتو إيكو وغور فيدال، وسلمان رشدي، وغيرهم من الكتاب. ويعتبر كالفينو "ترفيه القارئ" أو على الأقل عدم إشعاره بالضجر، هو واجبه الأول والأكيد. لتحقيق تلك الغاية، عمد إلى التخلص من الأثقال غير الضرورية في طرحه لأفكاره المتراكبة، أو بالأحرى المعقدة: "لقد حاولت حذف الثقل، أحياناً من الناس، وأحياناً من الأجرام السماوية، وأحياناً من المدن؛ وقبل كل شيء حاولت إزالة الثقل من هيكل القصص ومن اللغة". على النقيض، نتفاجأ به يرد على ناقد امتدح كتابه "الزمن صفر"، قائلاً: "يسعدني أن تجده محبوباً، ولكن كلما كان الكتاب غير محبوب، زادت أهميته".
لطالما كان كالفينو يقدّر الخفة، لهذا يدعو القراء في كتابه إلى تخطي مقاطع أو فصول معينة من الكتب التي يتناولها. منها مقالته عن "إزعاج الكون" لفريمان دايسون، حيث ينصح القراء الذين يعانون من ضيق الوقت بالبدء بالفصل الثالث ثم التأكد من الانتقال إلى الفصل السادس عشر. وتتناول بعض مقالات هذا الجزء، النظرية النقدية لما بعد البنيويين الفرنسيين، والرواية الجديدة لآلان روب غرييه.
على الطرف الآخر للكلمات
يشتمل الكتاب أيضاً على قسم مستقل عن أدب الخيال، وجزء أخير عن الكتب العلمية، تعامل معها كالفينو بأسلوب أكثر من رائع، لفت انتباه القراء والنقاد. بالإضافة إلى بعض انشغالاته الأكثر شيوعاً بالحكايات الشعبية التي تعود إلى كتابه "حكايات شعبية إيطالية" عام 1956 وكان له الفضل في ذيوعه على نطاق واسع بقدر ما ألقى بظلاله على أعماله التالية.
يتضمن "العالم المكتوب" أيضاً، بعض ردوده على أسئلة الصحافة، من مثل "لماذا تكتب؟"، فيقول: "أكتب لأنني غير راضٍ عما كتبته بالفعل وأرغب في تصحيحه وإكماله، وتقديم بديل عنه"، أو لأن "لدي فكرة: آه! كيف أستطيع أن أكتب مثل إكس X! لسوء الحظ إكس يفوق إمكانياتي تماماً! ثم أحاول أن أتخيل هذه المهمة المستحيلة، أفكر في الكتاب الذي لن أكتبه أبداً، لكني أرغب في قراءته، لوضعه بجانب الكتب المحبوبة الأخرى على رف مثالي. فجأة تظهر بعض الكلمات والجمل في ذهني". ومن زاوية أخرى، يكتب كالفينو كي يسمح للعالم اللامكتوب أن يتضح من خلاله. فهو يستشعر بأنه على وشك إدراك ما في الطرف الآخر للكلمات، "شيء يحاول الخروج من الصمت، العبور من خلال اللغة، مثل طرقات تقرع جدران السجن".