الاستراتيجية التربوية مرة أخرى
26-حزيران-2023
محمد عبد الجبار الشبوط
كررت في مقالات سابقة ان الاستراتيجية التربوية تتألف من محورين هما hardware و software. اي الجوانب المادية والجوانب التربوية.
يتألف الجانب الأول من المباني المدرسية، وتأثيثها، وتوفير الأجهزة الضرورية مثل الحواسيب والمختبرات، وطباعة الكتب .. الخ.
أما الجانب الثاني فيتألف من "المحتوى المعرفي والتربوي والقيمي" الذي يراد للمدرسة ان تربي الطلاب عليه.
وقد قرأت الاستراتيجية الوطنية للتربية والتعليم التي أعلنتها الحكومة مؤخرا فوجدتها ان تركز بشكل أساسي على المحور الاول (المادي) من العملية التربوية، وهذا امر جيد. لكنها أهملت الجانب الثاني (المحتوى) باستثناء جملة او جملتين.
لكن الأستاذ الجامعي الصديق اسحاق الموسوي كتب لي يقول:
"ارى انه اذا كان هدف الاستراتيجية للتعليم والتربية التي يدعو لها الاستاذ الشبوط المحترم هي تكوين جيل ( مؤلف من مواطنين فعالين يؤمنون بأسس الدولة الحضارية الحديثة كالمواطنة والديمقراطية والقانون والمؤسسات والعلم الحديث ) كما جاء في مقالة الأستاذ المعنونة بـ(الاستراتيجية الوطنية ) فإن ما يجري في الواقع هو نفس ما يدعو اليه، فإن التعليم والتربية والتثقيف على هذه الاسس والقيم جارٍ فعلا في جميع المراحل الدراسية من الابتدائية حتى الجامعة وليس حتى الثانوية بل يزداد التثقيف على هذه الاسس في الجامعة بشكل مكثف ومركز بسبب الحجم الكبير من التدريسيين والأساتذة المتبنين لهذه الأسس والقيم والتي يعملون تطوعاً وحباً على نشرها وتثقيف الطلبة عليها. فالواقع العملي الملموس هو ان الكثير من الكوادر التربوية والتعليمية تعمل على غرس هذه القيم والاسس في عقول الطلبة ونفوسهم. فليس المهم ان تسمى هذه الاستراتيجية بهذا الاسم او ذاك مادامت المضامين واحدة. كما انه ليس مهما أيضا ان تتبنى الدولة مضامين هذه الاستراتيجية او لا، مادام الواقع العملي هو تنفيذ وتطبيق لهذه الاستراتيجية. انا كأستاذ في الجامعة ارى واسمع الكثير من الندوات والمؤتمرات والورش والرسائل والاطاريح التي تتبنى هذه القيم والاسس وتدعو اليها وتعالج أسباب عدم اكتمال الاخذ بها او إخفاقها هنا وهناك وتدرس العوامل التي تؤدي الى تفعيلها وترسيخها كثقافة في الاجيال الحالية لتصبح مرتكزات في تفكيرهم ومناهج تعاطيهم مع الأحداث والوقائع".
وهذا امر مفرح وجيد جدا. لكني لا اتفق مع قول الاستاذ الصديق "انه ليس مهما ايضا ان تتبنى الدولة مضامين هذه الاستراتيجية او لا"، لان المسألة التربوية هي من اهم اختصاصات الدولة التي لا تقل في اهميتها عن السياسة المالية او الدفاعية او العلاقات الخارجية، ولا يمكن ان تترك للاجتهادات الشخصية والمبادرات الفردية التي يقوم بها الأساتذة والمدرسون. ومن هنا اهتمت الدول كلها او معظمها بهذا الامر. ولا اعرف دولة تركت حبل المسألة التربوية على الغارب، ربما منذ الثورة الفرنسية (١٧٨٩) الى اليوم. ومن هنا إصراري على ان تتضمن الاستراتيجية الرسمية نصوصا وشروحات واضحة ومحددة فيما يتعلق بالجانب التربوي، مع النص بوضوح على ان هدف الاستراتيجية هو تنشئة اجيال من الشباب المؤمنين بمنظومة القيم الحضارية العليا الحافة بالمركب الحضاري وعناصره الخمسة وهي: الإنسان والطبيعة والزمن والعلم والعمل. وهذه المنظومة هي الاساس في تنشئة المواطن الفعال وبناء المجتمع المنتج وإقامة الدولة الحضارية الحديثة، اي دولة المواطنة والديمقراطية والقانون والمؤسسات والعلم الحديث، دولة الحرية والعدالة والمساواة، والتوظيف الامثل للثروات الطبيعية. هذا ما قامت به كل الدول التي سارت في طريق التقدم والازدهار وتعظيم الانتاجية وتحقيق الرفاهية والخدمات لمواطنيها. انها ليست مسالة أيديولوجية يؤمن بها هذا الفريق ولا يؤمن بها ذاك الفريق، انها الضرورة الحتمية لكل انسان. وفي مجتمع إسلامي تقليدي لا يمكن التذرع بان هذا يخالف الإسلام لان جوهر القران هو تلك المنظومة القيمية العليا الحافة بالمركب الحضاري.