البوصلة
15-تشرين الأول-2022
محمد عبد الجبار الشبوط
لا اخفي القراء الاعزاء حقيقة انني فرحت جدا بانتهاء حقبة حكومة الكاظمي المظلمة. فقد كان تكليف هذا الشخص بتشكيل الحكومة من "سخريات القدر" التي جعلت العراق يتدحرج في حفرة التخلف بسرعة قياسية، وتدهور كل شيء. وقد قلتها اكثر من مرة ان الذين جاءوا به الى سدة الحكم يتحملون وزر هذه الخطيئة الكبيرة بحق العراق الذي ترتبط باسمه الحضارة الانسانية منذ الاف السنين.
لكن هذا لا يعني التفاؤل الحتمي بالحكومة الجديدة، لان اسباب الفرح ليست هي نفسها اسباب التفاؤل. وحتى نتفاءل فيجب ان تتوفر الاسباب الخاصة بالتفاؤل. ومعيار التفاؤل عندي هو نفس المعيار الذي جعلني ارفض حكومة الكاظمي وهو القدرة على وضع العراق في الطريق المؤدي الى الدولة الحضارية الحديثة. يعاني العراق من التخلف الحضاري ومن تسلط الدولة السلطانية منذ عقود، واية حكومة جديدة لا ينطلق منهاجها الوزاري من وعي هذه الحقيقة، ومن السعي لمعالجتها، فانها ستكون جزءً من المشكلة وليست جزءً من الحل. قلت هذا بالنص عن حكومة الكاظمي، حيث كتبت في الاول من شهر تشرين الثاني من عام ٢٠٢٠: "ان اي بديل يأتي بعد فشل تاريخي يفترض ان يكون قادرا ومؤهلا لان يخطو بالبلد خطوة نوعية ملموسة الى الامام، والامام هو بناء الدولة على اسس حضارية حديثة. وكما انطبق هذا على الطبقة السياسية التي تولت زمام الامور بعد سقوط نظام صدام المتخلف لمدة ١٧ سنة، فان الامر ذاته ينطبق على حكومة الكاظمي، المعلنة والمخفية، حيث لا تمثل هذه الحكومة امكانيةً لحل المشكلة الاساسية التي يعاني منها العراق، وهي الخلل في المركب الحضاري للمجتمع العراقي ومنظومة القيم الحافة به. ويتضح ذلك من اجراءات الكاظمي حتى الان، وخطبه، وبرنامجه الحكومي، وورقته البيضاء. ان الرجل وحكومته بنوعيها لا يملك المؤهلات العلمية والمعرفية والقيادية لاخراج العراق من حالة التخلف الغارق فيها منذ اكثر من ١٠٠ سنة. وبالتالي، فان وصوله المريب الى قمة السلطة في العراق لا يمثل انجازا حضاريا الى امام، ولا يمثل خطوة صوب نموذج الدولة الحضارية الحديثة. بل انه في نفس المستوى الحضاري المنخفض الذي مثلته الطبقة السياسية الراهنة، بل هو في مستوى اكثر هبوطا. انه جزء من مشكلة التخلف الحضاري، ولا يمكن ان يكون جزءً من مشروع النهوض الحضاري الذي تبشر به الدولة الحضارية الحديثة."
انا على علم بظروف ترشيح الاخ محمد شياع السوداني، كما انا على معرفة سابقة به، لكن هذا لا يكفي لترجمة الفرح بانتهاء حقبة الكاظمي الياً الى تفاؤل بتوليه زمام الامور، ما لم تتوفر اسباب وعوامل التفاؤل؛لان التفاؤل/او التشاؤم/ يجب ان يتم على اساس بوصلة واضحة وثابتة، وهي، عندي، مؤشر الدولة الحضارية الحديثة، لان الدولة، اية دولة، اما ان تكون حضارية حديثة، او لا تكون.
اعلم ان العمر الافتراضي لحكومة السوداني المزمعة سيكون بحدود الثلاث سنوات، وهي فترة قصيرة بالقياس الى حجم التحديات والمشكلات التي سوف تواجهها. وهو عمر لا يكفي لتحقيق الكثير من طموحات وامال وتوقعات المواطنين. لكن سيكفي ان نجد الحكومة تضع اقدامها في الطريق الصحيح بناء على بوصلة الدولة الحضارية الحديثة.
قلت في منشورات سابقة ان بامكان رئيس الوزراء ان يضع منهاجا وزاريا يتضمن ثلاث حزم من المهام، عاجلة ومتوسطة وبعيدة. لكن المهم ان تحكم هذه الحزم الثلاث رؤية موحدة هي نموذج الدولة الحضارية الحديثة التي ستشكل البوصلة التي تسترشد بها الحكومة، بحيث تكون اجراءات المهام العاجلة والمتوسطة والبعيدة خطوات محسوبة نحو نموذج الدولة الحضارية الحديثة.