إبراهيم العريس 
مرة أخرى تثير القضية المعروفة بقضية "تأريخ جورجيو فازاري لحياة فيليبو ليبي ومساره الفني" سجالات واعتراضات غالباً ما تؤدي إليها النصوص التي أوردها فازاري حول "حيوات أفضل الرسامين والنحاتين والعمرانيين" في كتابه العمدة الصادر عام 1550، والذي يعد عادةً المرجع المعتمد للتأريخ للمراحل السابقة لذلك التاريخ من الإنجازات الفنية النهضوية. فالحال أن ثمة دائماً أسئلة تتعلق بصدقية ما يرويه فازاري وإمكان اعتماده حقا هو الذي عايش تلك المرحلة، وكان جزءاً من مبدعيها، بالتالي لا يمكن أن يكون موضوعياً في كيفية تناوله لها. فكيف الحال وقد تواصلت على مدى الأزمنة التالية اكتشافات تتعلق تحديداً بما يحكيه فازاري، بين أمور أخرى تقديم بالمغالطات، عن حياة ليبي كما عن فنه، واصلاً إلى اختراع حكايات لا أساس لها من الصحة لعل أهمها تلك الحكاية التي تتعلق بما اخترعه فازاري حول أسر "العرب البرابرة" ذات حقبة لفيليبو ليبي، كما سنرى بعد قليل.
قد يكون من المفيد أن ننقل هنا عن مؤرخين معاصرين لنا ما استنتجوه من أن فازاري كان مفعماً بالإعجاب بذلك الفنان منطلقاً من اعتباره أعماله الفنية رائعة وتجديدية على أكثر من صعيد، لكنه كان في المقابل غير دقيق، بل بالغ التردد بالنسبة إلى ما يحكيه عن حياة ليبي العائلية، مقابل لجوئه إلى أقصى درجات الخيال، ولا سيما حين أصر على حكاية لا يعرف أحد من أين استقاها حول ذلك الأسر الذي تعرض له الفنان في منطقة يسميها فازاري "بارباريا" وكان الاسم في ذلك الحين يطلق على مناطق في الشمال الأفريقي تتاخم جنوب البحر الأبيض المتوسط ولن يعرف على أية حال عن ليبي أنه زارها أو رسم فيها أو حتى رسمها من خياله.
مدرسة فنية حقيقية: مهما يكن من الأمر لا شك في أن في الإمكان على أية حال الاتكال على فازاري لمعرفة أن فيليبو دي توماس ليبي قد ولد في فلورنسا عام 1406، ولما كان وُلد يتيماً سرعان ما الحق وهو في الثامنة بدير سانتا ماريا ديلا كارميني، حيث تبدَّى منذ صباه المبكر مشاكساً وذا روح مستقلة وراغباً في التصدي لكل القواعد التي كانت تفرض عليه، كما على رفاقه. ولقد تجلت لديه باكراً نزعة معادية للقراءة تميل به ناحية الأشغال اليدوية التي كان يخوض بها وبقدر كبير من الإفراط، ما يتعارض مع ما كان يفترض أن تكون الحال معه بالنسبة إلى من ينذرون ليكونوا رهباناً.
وبالنسبة إليه لن يلبث أن بدت لديه توجهات صوب الرسم الذي وجد رؤساؤه أنه يسعى إلى اكتساب مهارات فيه دون أي تمهيد لا في الدير ولا خارجه. ولم يجد الرؤساء ضيراً في تكليف من يكبرونه سناً وموهبة في اطلاعه على أسرار ذلك الفن، ومنهم راهب معروف بتضلعه هو الأخ أريغو. غير أن فيليبو راح تدريجاً ينصرف عن تعاليم هذا الراهب ليمضي وقته متأملاً في اللوحات المنتشرة في الدير الذي يعيش فيه، كما لاحقاً في كاتدرائية برانديزي التي راح يزورها بين الحين والآخر، ولا سيما حين بلغ سن الشباب وصار بمقدوره أن يتنقل على هواه. وهناك استهوته أعمال مازولينو، وبخاصة مازاتشيو الذي سيعده أستاذه الحقيقي. وكان مازاتشيو بالفعل واحداً من كبار مثوري الفن الكنسي في ذلك الزمن ومؤسسي حداثته. ومن هنا ما يقوله فازاري من أن المعنيين لم يتوانوا عن القول إن "روح مازاتشيو بدت على الفور وكأنها تلبست جسد ليبي وتغلغلت إلى أصابع يديه".
ومن المعروف أن مازاتشيو كان من أوائل الرسامين النهضويين الذين تجرأوا على رسم الوجوه أكبر حجماً مما هي في الطبيعة، وهي "تقنية" سيرثها عنه ليبي ويشتهر بها، كما سيدرس لديه أسرار المنظور وأبعاد العمق وما شابه ذلك من تجديدات كانت جديدة تماماً على الفنون الكنسية.
كل هذا عبر عنه فازاري ولم يعارضه فيه أحد على أية حال، وكذلك لم يكذب أحد مؤرخ النهضة الفنية الإيطالية حين سمح لنفسه بالخوض في الحياة الشخصية لليبي، وبالتحديد في تلك الحكاية التي كانت استثنائية في ذلك الزمن وتتعلق بزواجه من حبيبته لوكريزيا وإنجابه منها ابنه فيليبينو الذي سيربيه في الدير ثم خارجه ليخلفه في الرسم تحديداً، ويصبح ثمة في تاريخ النهضة الفنية اثنان بالاسم نفسه تقريباً ينتميان إلى أسرة ليبي نفسها: فيليبو الذي نتحدث عنه هنا طبعاً، وفيليبينو - أي فيليبو الصغير - الذي أنجبه الأول من لوكريزيا.
وحكاية فيليبو جديرة بأن تروى، باعتبارها واحدة من قصص الحب الاستثنائية التي عرفتها الحياة الكنسية في منطقة توسكانيا في ذلك الزمن، بل وثمة أشعار كتبت عنها وربما كتب واحد أو اثنان من أهل المسرح النهضوي قطعاً مسرحية لم يكن فيها على أية حال ما يخدش سمعة الكنيسة أو حياءها، بل على العكس اعتبرت تلك القطع المسرحية نوعاً من التمجيد لموقف الكنيسة من غرام فيليبو ولوكريزيا.
فالحكاية أن فيليبو وحين كان يعيش في مطلع شبابه في الدير، ارتبط بصداقة سرعان ما تحولت إلى إعجاب من ناحيته فحب متبادل بين الاثنين، وتحديداً من ناحية فيليبو تجاه تلك الصبية التي كانت دائماً ما توصف بأنها رائعة الجمال وغاية في اللطف وكرم الأخلاق. غير أن المشكلة الحقيقية كانت أن الفتى وفتاته معاً، ينتميان إلى سلك الرهبنة، حيث الزواج محرم على الذكور كما على الإناث، وبخاصة على الراهبات، حتى وإن كان يمكن في بعض الحالات غض النظر عن زواج يعقده راهب مع فتاة من خارج السلك، لكن فيليبو الذي كان مشاكساً في كل تصرفاته، تبدَّى هنا أكثر مشاكسة، وهكذا لم يلبث أن اختطف حبيبته وتزوجها لتنجب له ولدهما كثمرة لحب اعتبره بعض أهل الكنيسة حراماً، فيم اعتبره البعض الآخر حباً حلالاً لا شائبة فيه طالما أنه عقد في إطار كنسي حقيقي.
وبعد مداولات ولأن الفتاة كانت تحب رهبنتها بقدر ما تحب حبيبها وابنها، لم يتردد مسؤولو الكنيسة طويلاً، حيث في حكم يضيئه قدر كبير من تسامح كان يمكن أن يكون هرطقة في ظروف أخرى، تقرر أن تعود لوكريزيا إلى الدير وإلى رهبنتها متى تشاء، وأن تتركها متى تشاء، ولكن تركا نهائياً هذه المرة، وأن تتولى في أثناء ذلك تربية ابنها ومشاركة حبيبها حياته "طالما أنه هو من ناحيته مخلص لها ويخدم الكنيسة بفنه وبكل ما استطاع إليه سبيلاً".
وبهذا تمكَّن الحبيبان من الاحتفاظ بإيمانهما وبفنهما المشترك كما ربَّيا ابنهما معاً، على حب الفن واحترام الكنيسة التي مكَّنته من أن يعيش في كنف والدين ظلا حتى نهاية حياتهما أمينين لتلك الكنيسة ممتنين لها، أو هذا ما رواه فازاري وشاركه في روايته معظم كاتبي سيرة فيليبو ليبي ومحللي أعماله الفنية الكبرى التي بدورها قدمت للفن الكنسي خدمات كبرى تتضمن استخدام فيليبو لملامح حبيبته لوكريزيا في لوحة تمثل السيدة العذراء مع الطفل... بل يقال إن الطفل نفسه في اللوحة لم يكن سوى فيليبينو.