الحبيب السائح يوثق محنة الرهبان السبعة في «تبحيرين»
18-آب-2025

سارة النمس
خلال السنوات اللاحقة تعددت التصريحات بين دبلوماسيين فرنسيين ومسؤولين جزائريين إلى جانب شهادات لإرهابيين تائبين، وأعدت أفلام وثائقية ودونت كتب للتاريخ، بينما اختار الروائي الجزائري الحبيب السائح أن يوثق هذه المحنة من خلال فن الرواية، مقدماً معالجة أدبية لواقعة تاريخية تتيح للأجيال الجديدة الاطلاع على هذه الحادثة المؤلمة، والتعرف على رجال دين مسيحيين عرفوا بخصالهم الطيبة وعلاقتهم الودية بجيرانهم المسلمين.
اختار السائح لروايته، عنواناً رئيساً مختصراً في كلمة "تيبحيرين" وآخر فرعياً توضيحياً "محنة الرهبان السبعة". وتيبحيرين اسم المنطقة التي شيد فيها دير سيدة الأطلس عام 1938، وهي قرية ريفية معزولة تطل على مدينة المدية، معروفة بجبالها الوعرة وكثافة أشجارها. لكن في تسعينيات القرن الماضي تحولت من مكان ساحر مناسب للتخييم والتأمل إلى ملاذ للجماعات المتطرفة، حيث عاش أهاليها فترات متواصلة من الترويع والمجازر.
بافتتاحية مقتبسة من الكوميديا الإلهية: "من خلالي يدخل الإنسان المدينة المحزنة، ومن خلالي يذوق الآلام السرمدية، ومن خلالي ينضم للأجناس الضالة، فتخلوا عن كل آمالكم يا من تدخلون هذه الدار"، يمهد الحبيب السائح رواية "تيبحيرين"، وهو مدخل قوي ذو دلالتين، الأولى عامة تحيل إلى عبث الإنسان وضلاله في هذا العالم، والثانية خاصة توحي بما سيحمله النص من مواجهة مع الشر وما يترتب عليه من أذى ومعاناة.
ينطلق السرد من نهايته على لسان الراوي الأول، الراهب المعروف باسم "الشيخ أميدي"، الذي يقول: "ها قد أمسيت وحيداً في الدير كفأر كنيسة، أنا الناجي من المذبحة". يظهر جالساً إلى طاولة القراءة، يتأمل دفتر يومياته المفتوح إلى جانب سبعة دفاتر أخرى، قبل أن تعيده الذاكرة إلى بداية رحلته ولحظة وصوله إلى دير سيدة الأطلس بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. ومن خلال خط زمني غير متسلسل، يعود سنوات إلى الوراء، مستعيداً طفولته وشبابه وتنقلاته ومعايشته لمراحل مفصلية من تاريخ الجزائر بين زمن الاستعمار وثورة التحرير وكيف أنه بصفته راهباً لم ينحز لأي طرف لكنه لم يتوان عن تقديم العون للثوار. وبعد الاستقلال، وعلى خلاف آلاف المستوطنين المعروفين بـ"الأقدام السوداء"، اتخذ الشيخ أميدي هوية جديدة واختار الجزائر وطناً له. يصف الراوي منطقة تيبحيرين، بطبيعتها الساحرة، ويروي عن ارتباطه بالأرض التي عاش عليها بسلام لعقود حتى حلت سنوات التسعينيات الدامية.
تطغى النبرة الروحانية على سرد الشيخ أميدي لذكرياته، بما يتناسب مع شخصية رجل دين تقي، كرس حياته للكنيسة وخدمة الرب والآخرين، وهو ما جعل النص قابلاً للتصديق والمعايشة. فقد نجح الحبيب السائح في تقمص شخصية الراهب ببراعة، محتجباً تماماً خلفها، بحيث ينسى القارئ أنه أمام نص لكاتب آخر، وبذلك بدا الفصل الأول وكأنه منقول حرفياً من يوميات الراهب، لا من صفحات كتبها الروائي، ومع ذلك خضعت بعض الوقائع لتعديلات بسيطة، إما لأسباب فنية أو لاعتبارات أمنية، من دون أن تخل بجوهر السرد أو تحرف حقيقة موثقة.
في الفصل الثاني، تتعدد الأصوات السردية، إذ يبدأ أحمد الأمين حارس الدير بإعادة رواية ما جرى ليلة الاختطاف من منظوره الخاص، قبل أن ينتقل الشيخ أميدي إلى تقديم الرهبان، واحداً تلو الآخر عبر يومياتهم، من الراهب كريستيان إلى الأخ برينو وسيليستان وكريستوف ولوقا وميشيل وبول. يروي كل منهم لمحة عن حياته وقصة مجيئه إلى دير سيدة الأطلس. لكن مع التقدم في الصفحات، يبرز تماثل واضح في الأصوات مما يخلق إحساساً بالتكرار وإطالة في السرد، إذ تتقاطع وجهات النظر وتتشابه في كثير من التفاصيل والسمات. فجميعهم يعبرون عن روحانياتهم وتسامحهم بالطريقة ذاتها، ويتناولون الأفكار نفسها عن الحروب والسلام وشرور الإنسان.
هذا التشابه يجعل المتلقي يشعر وكأنه يقرأ اعترافات راهب واحد بأسماء متعددة، مع تغييرات طفيفة في التفاصيل الشخصية. عدا هذا يغيب التباين الضروري بين الشخصيات وتؤدي هذه التقنية دوراً باهتاً على امتداد صفحات شغلت الحيز الأكبر من الرواية، من الصفحة 45 إلى غاية الصفحة 206 من أصل 245 صفحة. وعلى رغم أن التشابه يبدو مبرراً بحكم تماثل القيم والمصير والانتماء الطائفي، فإن اعتماد صوت واحد لكتابة يوميات متشابهة، أفقد النص تنوعه، ربما كان بالإمكان العمل على صياغة سيرة كل راهب بأسلوب يميزها عن الأخرى، بدلاً من أن تتحول الشهادات إلى صدى مشترك، يتردد بالصوت ذاته.
رؤية إنسانية في غياب الخطاب السياسي
اختار الحبيب السائح في رواية "تيبحيرين" معالجة إنسانية، ركز فيها على سير الرهبان ومعاناتهم في المناخ المتوتر الذي ساد في فترة التسعينيات. كانت تلك السنوات دوامة عنف وخوف، عاش فيها الجزائري وهو يشعر أن حياته مهددة وهو معرض للقتل في أية لحظة. في المقابل، غاب الخطاب السياسي عن الرواية، فلم يقدم الكاتب على ألسنة شخصياته مواقف صريحة واكتفى بإشارات مقتضبة إلى مرحلة التفاوض أثناء الاختطاف، متجنباً الخوض في كل ما أثير من جدل في تلك الفترة. فنجده على سبيل المثل، يصف تدخل طرف أجنبي في المفاوضات بقوله عن نهاية الرهبان: "كان يمكن أن تكون مختلفة لو لم تحاول جهة خارجية استباق الأحداث والدخول على الخط بالاتصال مع الخاطفين لتحقيق سبق سياسي انتخابي". ثم يعود في الفقرة التالية ليشير إليها بوصفها: "عاصمة غربية في ضفة المتوسط الشمالية"، من دون أن يذكر أن تلك التدخلات كانت فرنسية أو يسمي الشخصيات السياسية والدبلوماسية التي تداولتها الصحف ووسائل الإعلام.
تاريخياً، عام 1996، أعلنت الجماعة الإسلامية المسلحة "الجيا" بقيادة أميرها جمال زيتوني مسؤوليتها عن عملية اختطاف الرهبان، وتواصلت عبر وسيط مع جان شارل ماركياني، حاكم مقاطعة الفار، الذي اتصل بدوره بوزير الداخلية الفرنسي شارل باسكوا، وبالتشاور مع الرئيس جاك شيراك، سمح بإجراء تفاوض سري مع الخاطفين، بشرط أن يظل الأمر بعيداً من علم وزيره الأول آلان جوبيه. تضمنت مطالب الجماعة الإفراج عن أحد المعتقلين الإرهابيين لدى السلطات الجزائرية، إضافة إلى مبالغ مالية معتبرة، وختمت رسالتها بتهديد مباشر: "والخيار لكم، إن شئتم أطلقتم فأطلقنا وإن أبيتهم ذبحنا". أما السلطات الجزائرية فتمسكت بسيادتها ورفضت التفاوض مع الجماعة والاستجابة لمطالبها.
في فيلم وثائقي أعده الصحافي الجزائري مليك آيت عودية، أكد الراهب الناجي أن السلطات الجزائرية عرضت على الرهبان الحماية مراراً، بتسليح الحارس ووضع حراسة مشددة حول الدير، لكنهم رفضوا لأن حمل السلاح يتعارض مع مبادئ الكنيسة. وعرض والي المدية على الراهب كريستيان، الانتقال موقتاً إلى مقر آمن في المدينة أو في العاصمة ريثما تهدأ الأوضاع، إلا أن كريستيان أجابه: "نحن نفكر مثلكم أنتم المسلمين، إذا قرر الله مكان موتنا ولحظته، فلا راد لقضائه".
اختتم الحبيب السائح رواية "تيبحيرين" بفصل مؤثر، مشحون بالعنف، أعاد للسرد قوته بأحداثه الأليمة والمتسارعة في الصفحات الأخيرة. فهو قدم تصويراً دقيقاً لبشاعة الحادثة وتفاصيلها، مما منح العمل طابعاً توثيقياً وتحقيقاً روائياً بدا بمثابة إهداء إلى أرواح الرهبان وتخليداً لذكراهم.

لجنة مشتركة لتنظيم ضوابط الدعاية الانتخابية في بغداد
27-تشرين الأول-2025
مرصد يحدد أسباب تلوث الأجواء في بغداد
27-تشرين الأول-2025
العمال الكردستاني يعلن سحب جميع مقاتليه من تركيا إلى شمال العراق
27-تشرين الأول-2025
التعليم تعلن قبول قرابة 185 ألف طالب في الجامعات العراقية
27-تشرين الأول-2025
مؤشر القوة الناعمة لعام 2025: العراق في المرتبة الـ 97 عالميًا
27-تشرين الأول-2025
زيارة سورية لبغداد لإحياء خط أنابيب النفط كركوك - بانياس ما هي أهميته؟
27-تشرين الأول-2025
سباق مبكر بين «تقدم» و«عزم» وتحالفات جديدة تعيد رسم الخريطة الانتخابية
27-تشرين الأول-2025
بيانات ميتا: إنفاق 1.4 مليون دولار على الحملات الانتخابية خلال شهر
27-تشرين الأول-2025
مطار الموصل من «دولي» الى «رحلات داخلية فقط»
27-تشرين الأول-2025
اليونسكو: دورة تدريبية لتعزيز الدعم النفسي والاجتماعي للصحفيات في بغداد
27-تشرين الأول-2025
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech