الحداثة السائلة: تفكيك المفهوم
16-آب-2023
سعدون يخلف
لم تصمد الحداثة في مرحلتها الصلبة طويلا أمام عواصف التغيير والتبديل، بعد انقلابها على سلطة السماء، وإعلائها لسلطان العقل، إذ قامت، والحال هذه، بنفي الغيب وتهميش المقدس وتدنيسه، من خلال السعي إلى إزاحة كل ما يرتبط بالتصورات الدينية، والقضاء على كل «الولاءات التقليدية والواجبات والحقوق المعهودة» غير أن هذه المرحلة من الحداثة أسهمت، بلا شك، في وضع أسس جديدة للمجتمع والدولة الحديثة والثقافة، ونجحت في تحسين وضع الإنسان، تحققت بها كرامته، وحفظت حقوقه، كما تم اختراع وسائل مكّنته من العيش في سِعةٍ ورفاهيةٍ.
بيد أنّ ثقة بناة العالم الجديد في الحداثة كانت، على ما يبدو، عمياء للغاية، فاصطدمت أحلامهم وآمالهم بصخرة جليدية، كانت سبباً في تغيير مسار إبحار السفينة، لذلك لم ترسُ هذه السفينة في مرافئ الأمن والأمان والنظام، بل في جزر الخوف والحروب والفوضى، ربما اعتقد هؤلاء أن القواعد الصلبة الجديدة، التي اتكأت على العقلانية، لن يكون مآلها التدمير، كحال القواعد الصلبة السابقة، بل ستتحدى الصعاب، وتبقى صلبة عصيّة على التغير، وفاتهم أن البحث عن الصلابة سيقود حتماً، في الأخير، إلى السيولة، وهذا ما توصل إليه زيغمونت باومان عندما قال: «إن البحث عن صلابة الأشياء والحالات هو ما دفع إلى إذابتها، وأبقى استمرارية الإذابة، ووجه مسارها، فلم تكن السيولة خصماً معادياً، بل أثر من آثار البحث عن الصلابة» وعليه، فإن ظهور السيولة كان متوقعاً منذ البدايات، لأن رحلة البحث عن الصلابة، تستلزم، بصورة أو بأخرى، الوصول إلى السيولة، وبذلك انتقلت البشرية من عالم الحداثة الصلبة إلى عالم الحداثة السائلة، غير أن السؤال الذي يطرح هنا هو: ما المقصود بالحداثة السائلة؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال، تنبغي الإشارة إلى أن زيغمونت باومان في كتابه الحداثة السائلة، الصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر (2016) يقرُّ بأنّ العالم اليوم كله من «أهل حداثة» دون أي مبالغة أو شك، قد تكون هناك اختلافات في التفاصيل، أصالة التحديث، وأسبقيته من بقعة إلى أخرى، لكن، هذا لا يمنع من تعميم اسم الحداثة على الآخرين، إذ يقول: «لا نبالغ إذا قلنا إن جميع الناس الآن أو أغلبيتهم في كل بقعة من بقاع الأرض، أو في أغلبها، قد صاروا أهل حداثة» مقارنة بالعهود السابقة، على الأقل منذ عقد أو عقدين، ما يجعل التغير وسواساً قهرياً عاماً، يؤثر في العالم كله: «تغير وسواس قهري متواصل يطلق عليه هذه الأيام (التحديث)» هذا التغير المتواصل جعل الوضع الإنساني، يتسم بانعدام الثبات واليقين، ومن ثم، ولوجه إلى عالم اللااستقرار واللايقين.
ما معنى الحداثة السائلة؟
بعد فشل الحداثة في مرحلتها الأولى في تحقيق أهدافها بالوصول إلى «حالة نهائية من الكمال» انتقلت البشرية إلى وضعٍ جديدٍ، أُطلق عليه تسميات عديدة من طرف بعض المفكرين، من بينها: ما بعد الحداثة، الحداثة الفائقة، والحداثة الأخرى، غير أنّ باومان انفرد بتوصيف خاص للزمن الراهن، سماه الحداثة السائلة، ومعنى ذلك «أن صلابة المرحلة السابقة ذابت، فتداخلت الحدود، وتراخت السمات، وازدادت ضبابية، حتى صار يمكن أن نتحدث عن سيولة، أو ذوبان» بمعنى آخر أن التغير دائم ومستمر، وأن تحقيق الاكتمال غير ممكن، إذ تصير «المرونة هي الثبات الوحيد، والزوال هو الدوام الوحيد، والسيولة هي الصلابة الوحيدة، وباختصار شديد: اللايقين هو اليقين الوحيد» ولعل أبرز مثال تتجلى فيه هذه السيولة هو العولمة؛ فبواسطتها تلاشت الحدود بين الدول؛ فتحرر البشر بانتقالهم من مكان إلى آخر، وتدفق المال بسهولة ويسر، وصارت الهويات عرضة للتبديل، وتغيرت القيم الأخلاقية من خلال سيطرة النزعة الاستهلاكية، ولكي يتعمّق باومان أكثر في بحثه، يقدم تفسيرات مهمة لخمسة مفاهيم: التحرر، الفردية، الزمان/ المكان، العمل، والجماعة؛ وهي تفسيرات، بلا ريب، ستساعد في فهم الزمن المتغير الراهن.
التحرر
يرى باومان أن التفرقة بين الحرية الذاتية والحرية الموضوعية، أدّت إلى فتح صندوق باندورا، الذي يعج بإشكالات كثيرة، لعل أبرزها فكرة «المظهر عكس الجوهر» بمعنى أن ما يعتقد الإنسان أنّه حرية على المستوى الذاتي، قد لا يكون كذلك على المستوى الموضوعي، والغريب في الأمر أن الناس يحبون أن يكونوا أحراراً، لكنهم، في المقابل، يخافون من إمكانية التحرر، لأنّ ممارسة الحرية تجلب لهم المصاعب والآلام.
في السياق ذاته، يناقش باومان فكرة الحرية، طارحاً سؤالا حول ما إذا كانت نعمة أم نقمة؟ إذ يرى أن التحرر وضع على قائمة الإصلاحات السياسية، أي أنه قابل للتطبيق على أرض الواقع، بينما وضعت الحرية على قائمة القيم، التي يدعو إليها المفكرون، لأنها من القيم المثالية، التي تطلب ولا تطبق، وما يجعل ممارسة الحرية مهمةً صعبةً، هو نظرة الناس، بالأخص العوام والدهماء، إليها، فهذه النظرة تتميز بالشك والريب، بالإضافة إلى أنهم يرتابون في الفوائد التي تجلبها لهم، وبناء على هذا، يتوصل إلى أنّ الحرية، في كثير من الأحيان، نقمة، لأن الإنسان لو خُيّر بين حرية مطلقة وأخرى مقيدة، سيختار الأخيرة، حتى يتغلب على الفزع، ولن يتحقق ذلك إلا بوجود قيود، تحدُّ من حريته وتصرفاته، وإلا سينقلب إلى وحش كاسر. على صعيد آخر، يشير باومان إلى أن الفردية سمة المجتمع الحديث، وهذا نتيجة تفتت المجتمع إلى الأفراد، بعد أن تم فصل الفرد عن المجتمع، ثم صار «الفرد ضد المواطن» ما أدى، والحال هذه، إلى استعمار الفضاء العام بالفضاء الخاص، وهيمنة مصالح الأفراد على الفضاء العام، وغابت النقاشات حول المصلحة العامة والمصير المشترك، حتى المصلحة العامة اختُزلت، للأسف، في الرغبة في معرفة الحياة الخاصة للشخصيات العامة.
الفردية
يتخذ باومان من الرأسمالية نموذجاً تفسيرياً لفهم الفردية، متطرقاً، في الوقت ذاته، إلى التحولات التي طرأت عليها، فـ«رأس المال» مثلا، في مرحلة الحداثة الصلبة كان مقيداً بالأرض، مثل العمال الذين يعملون من أجله، بينما في المرحلة السائلة صار غير مقيد بأي مكان، وفي إمكانه أن ينتقل في سرعة وخفة، ولا يحتاج إلا إلى حقيبة صغيرة، تحتوي على محفظة وهاتف جوال وحاسوب متنقل. إن الرأسمالية الثقيلة، وفقاً لباومان، كانت مهووسة بالنظام، فانتصر «خطاب سفر يشوع» الذي يجعل «النظام هو القاعدة، والخلل هو الاستثناء» وكانت تمثل عالم السلطات، بالتالي، فهي في حاجة إلى سلطة القادة والمعلمين، أما الرأسمالية الخفيفة، فهي تهوى الخلل واللانظام، لذلك اعتمدت «خطاب سفر التكوين» الذي يجعل «الخلل هو القاعدة، والنظام هو الاستثناء» كما أنها تمقت السلطة، وتمجد المستهلك، من ثم، فهي ليست في حاجة إلى قائد يأمر «لا تأمرني بعد الآن» بقدر ما هي بحاجة إلى نموذج تقلده «أرني نموذجاً أقلده» والنموذج هو الشخص المشهور، الذي تحوّل إلى صانع سلطة، بفضل أعداد متابعيه في وسائل التواصل الاجتماعي. وعندما يتناول باومان النزعة الاستهلاكية بالتحليل، يتوقف عند تطور سُلّم الاستهلاك، متنقلا من «الحاجة» في المرحلة الصلبة إلى «الرغبة» في المرحلة السائلة، ليتخذ، في الأخير، شكل «الأمنية» في أكثر المراحل سيولة.
الزمان/ المكان
في هذا الفصل يتحدث باومان عن قضية مهمة، وهي قضية الأمن، التي يعتبرها «جوهر الموضوع» في زمن كثرت فيه مظاهر الخوف والقلق، واختفت فيه كل مظاهر الأمن والأمان، إذ صارت الفضاءات العامة، مزودة بآلات المراقبة والحراسة، فضاءات مخيفة طاردة للثقة والعيش المشترك. وعند حديثه عن أماكن الاستهلاك، يصفها بأنها معابد بلا روح وبلا معنى، معابد خالية منغلقة لا تُشعر من يدخلها بالطمأنينة والسكينة، حيث شبّهها بسفينة فوكو: «فضاء عائم، مكان بلا مكان، مكان يستمد وجوده من نفسه، مكان منغلق على نفسه». ولا غرابة في أنّ العالم الذي يقدس معابد الاستهلاك وثقافة التسوق، يكون حذرا في إقامة علاقات اجتماعية، وفي نسج روابط جديدة، فيصبح الحديث مع الغرباء خطراً «لا تتحدث إلى الغرباء» والتفاعل مع الآخرين علاقة محفوفة بالمخاطر، لأنّ الروابط الإنسانية تطلب الديمومة، في حين أن ما ترمي إليه ثقافة الاستهلاك هي حياة اللحظة.
يرى باومان أن العمل وسيلة للتقدم وصانع للمستقبل، لذلك ينبغي للمجتمع أن يمتلك وعياً بالنمو الاقتصادي، وأن يلتزم بمستوى مرتفع لمعيشة أفراده، وأن يعتمد على التخطيط والتوجيه والتحكم في التغير الاجتماعي، «حتى تتولى البشرية قيادة مستقبلها» إلا أن الإعياء الذي أصاب الدولة الحديثة أثّر في السلطة (السياسة) باعتبارها القوة، التي تدفع الناس إلى العمل، كما أن العمل في زمن الحداثة السائلة جُرِّد من معانيه المثلى، «فلم يعد يمثل محوراً آمناً تدور حوله تعريفات الذات والهويات ومشاريع الحياة» فضلا عن أنّه لم يعد الأساس الأخلاقي في حياة الأفراد والمجتمعات. كما يقارن العلاقة بين رأس المال والعمل في الحداثة الصلبة والحداثة السائلة، فتميزت هذه العلاقة بالارتباط الوثيق بين رأس المال والعمل في المرحلة الأولى، بفضل الاعتماد المتبادل بينهما، في حين اتصفت العلاقة بينهما في المرحلة الثانية، بفك الارتباط أو بارتباط عابر، ومدة قصيرة.
الجماعة
يناقش باومان في الفصل الأخير مسألة الحاجة إلى الجماعة، بين من يدافع عنها بوصفها ضرورةً، ومن يعتبرها شيئاً من الماضي «موضة قديمة» هذا الاضطراب في ما يتعلق بالحاجة إلى الجماعة، يعود، في الأساس، إلى «تناقض وضوح الرؤية، في ما يتعلق بحقيقة الدافع الذي يدعيه تمثيل الجماعة» بالإضافة إلى التحولات الجديدة في الحياة الحديثة. إن الجماعية من الناحية الاجتماعية ما هي إلا رد فعل على عمليات التمييع، التي تتسم بها هذه الحياة، وتناقص الظروف التي تحقق الأمن والأمان، وازدياد مسؤوليات الفرد، الأمر الذي أدى إلى انعدام مصادر الحماية، وهشاشة الروابط الإنسانية، ما جعل الأفراد يسعون وراء أهدافهم الفردية، دون التمكن من الوصول إليها، فتكون الجماعة بالنسبة للأفراد الملجأ الحصين لتحقيق وعد الأمن والأمان. في الفصل، أيضاً، مناقشات كثيرة، منها النقاش الدائر حول القومية والوطنية، إذ يرى باومان أن القومية تقوم على إقصاء الآخر، ولا تتسامح مع ثقافته، في المقابل، تسعى الوطنية إلى دمجه، وتُظهر مسامحة تُجاه التنوع الثقافي.
وعلى الرغم من ذلك، فإن النتيجة النهائية، كما يخلص باومان، تكاد تكون متشابهة، فكلا المذهبين، القومي والوطني، لا يسمح للآخر «في إمكانية الانتماء المشترك» إذا بقي محتفظاً باختلافه. كما يناقش باومان مسألة الأمن في هذه المرحلة، التي تضاءلت فيها فرص تحقيق الأمن والأمان إلى حدٍّ جعل مجرد التفكير في هذا الأمر من الأجندات غير الواقعية، لذلك كانت رؤية باومان المستقبلية لحال العالم موغلة في التشاؤم، إذ يتصور أنّ هناك جزيرة «تنعم بالهدوء والأمن والراحة في بحر يهيج بالاضطراب وفقدان الأمان والاطمئنان»؛ هي رؤية صادمة ومرعبة حقاً، وبالنظر إلى الوضع العالمي الآن، فإن تحققها غير مستبعد.