الحَضَر، عاصمة بلاد العرب تستعيد «الرأس» التُحفة الأثرية المسروقة
16-تشرين الثاني-2022
عدنان حسين أحمد
يشكِّل الولع بالآثار العراقية القديمة موضوعًا مهمًا لليسناريست والمخرج العراقي فيصل الياسري حيث يدور فيلم "الرأس" 1977م حول سرقة رأس الملك سنطروق الثاني وتهريبه إلى سورية ولبنان ومحاولة بيعه لتجّار الآثار لكنّ أجهزة الشرطة العراقية والسورية تتتبّع المهرّبين وتسترجع التحفة الأثرية المسروقة. إن فيلمًا يجمع بين الآثار، والتاريخ، والمُطاردة البوليسية، والتشويق، والإثارة لابدّ أن يتكئ على توطئة تاريخية تمهد للمتلقّي أن يتعرف على الزمكان، ومسرح الأحداث، وشخصيات الفيلم الرئيسة في الأقل. فلاغرابة أن يستعين المخرج بالتعليق الصوتي الذي يُوجزنا بهذه المعلومات الوافية التي تقول:"الحضر مدينة الشمس، عاصمة عربايا، بلاد العرب. ازدهرت قبل ظهور الإسلام بـ 400 سنة أو أكثر. موقعها الإستراتيجي بين الإمبراطوريتين الرومية والفارسية جعلها تتعرّض لأطماع الغزاة وتتصدى لهم مرارًا. وعندما حاصرها الساسانيون صمدت عامًا كاملاً بقيادة سنطروق الثاني الملقّب بملك العرب". حسنًا فعل الياسري، وهو المخرج المحترف العارف بأسرار مهنته الإخراجية، حينما اكتفى بهذا الاقتباس المُوجز الذي يسلّط الضوء الكافي على المشكلة الدرامية التي تُدلّ المُشاهِد على بوادر العُقدة. فالساسانيون يُحاصرون الحضر منذ سنة وهم على أعتاب المملكة المُعرّضة للهجوم والاجتياح في أية لحظة. وقد سبق للملك سنطروق الثاني أن لمّح لنا مُستفسرًا: هل سيُكتَب لنا تكملة هذا التمثال؟ وكأنه يتنبأ بوقوع الهجوم في أية لحظة وتقويض هذه العاصمة العربية وتحطيم تماثيلها ورموزها وتُحفها الأثرية التي لا تُقدّر بثمن. ثم يضيف التعليق الصوتي:"كان ذلك عام 241م وبعد حصار دام سنة كان خلالها شابور المُلقّب بذي الجند يحشِّد المزيد من العساكر الساسانية حول المدينة العربية الصامدة". ثم نستمع إلى الملك سنطروق الثاني وهو يتحدث إلى أفراد حاشيته وقُوّاده بأسلوب ديمقراطي قائلاً:"إنها ساعة المصير،أُريد أن أسمع وجهة نظركم، عندما يتعلّق الأمر بمصير أمة فليس لملك أو حاكم أن ينفرد بقرار، العدو على الأبواب منذ سنة والحصار لم يترك لنا فرصة للاتصال بإخواننا العرب. إنني أسألكم مالعمل؟ ولكن لا تنسوا وأنتم تقرّرون، لا تنسوا الذين ماتوا في هذه المدينة الشجاعة، أذكروا رفضهم للاستسلام، وكُرههم للغزاة. أذكروهم وأنتم تقرّرون مصير مدينتهم". ثمة مشهد يجسّد عنف الأعداء ووحشيتهم حيث تتطاير رؤس التماثيل ويتقوّض العديد من جدران المدينة الشاهقة وبين أكداس الأطلال سيعثر الآثاريون على رأس الملك سنطروق الثاني الذي لم تكتمل جهته الخلفية بعد لأن النحّات لم يستطع أن يضع لمساته الأخيرة عليه.
الطَواف في المعبد الكبير
ثمة مُرشِد آثاري يقود مجموعة من السياح الأجانب في معابد مدينة الحضر ويشرح لهم عن بعض التماثيل والرموز المهمة مثل آبو بنت ديمون ويستنتج من ضخامة التمثال ومكانه في وسط المعبد والمدينة بأنّ لها أهمية إلهة أو سيدة عظيمة في تاريخ الحضر. كما يشرح لهم عن أهمية النسور التي كانت لها منزلة كبيرة وسامية في الحضر، فالنسر رمز للإله "مِرن" الذي يعني الشمس على اعتبار أن النسر مثل الشمس يحلّق عاليًا في السماء. ثم يمضي المرشد السياحي في الحديث عن بقية المعابد مثل المعبد الكبير مرمرن وساحته التي تفضي إلى خلوة الشمس الذي كان أهل الحضر يطوفون حوله بأقدام حافية ويقدّمون القرابين.
أراد المُخرج فيصل الياسري أن يبيّن للمُشاهِد أهمية التماثيل التاريخية في مملكة الحضر وقيمتها الأثرية التي تتجاوز أي مبلغ مادي مهما كان كبيرًا ومُغريًا ومع ذلك فسيقْدم البعض سواء من العراقيين أو العرب على سرقة هذه الآثار وتهريبها إلى خارج الحدود على أمل بيعها بأثمان باهضة إذا ما وصلت إلى الأسواق الأوروبية التي تعرف قيمتها جيدًا.
ومع أنّ القصة السينمائية لا تخلو من نفس بوليسي يتمثّل بسرقة رأس الملك سنطروق الثاني من الحضر وتهريبه إلى سورية ولبنان ومحاولة بيعه هناك لكنّ المحاولات كلها تفشل، ويتمّ العثور على التمثال المسروق وإعادته إلى وطنه الأم إلاّ أنّ التفاصيل الأخرى أكثر تشويقًا وإثارة من هذه القصة النمطية المألوفة. فحينما يتصل مستر موغزي بسوزان من بروكسل تخبره بأنها ستنتظره في مطار بيروت فهو الزبون المضمون الذي يستلم البضاعة المهرّبة في بيروت ويتكفل بإيصالها إلى الأسواق الأوروبية. وحينما يصل يدور بينهما حديث مهم يسلّط الضوء على الآثار العراقية الكثيرة حيث تقول سوزان: "بأنّ العراق مليء بالتُحف الأثرية الرائعة التي ما يزال الكثير منها مطمورًا تحت الأطلال والبعض الآخر منها معروضًا في العراء والقاعات التي يسهل اقتحامها. فالاهتمام بالمنطقة حديث العهد ولم تبدأ التنقيبات إلاّ في عام 1952م وأنّ 90% من آثار المدينة ما يزال تحت التراب. فالحضر هي مدينة عظيمة تقع على شاطئ الصحراء وهي مزيج من الحضارات التي انبثقت قبل 2000 سنة. الحضر هي حضارة عربية عظيمة استطاعت أن تحتضن الحضارات المعروفة وتستوعبها وتضيف إليها من روحها الكثير". وعلى الرغم من اعتراضات السيد موغزي بأنّ العرب كانوا قبائل وشيوخًا ولم يكونوا دولاً أو ملوكًا إلاّ أنّ سوزان تضع الأمور في نصابها الصحيح حينما تقول عن الحضر:" كانت دولة عربية، وكل شيء فيها يشير إلى ذلك، آلهتها، سكّانها، لغتها، أسماؤها، ملوكها، فهذا مثلاً يلقِّب نفسه بملك العرب المنتصر . . . ". هذه التفاصيل الجانبية تعطينا فكرة واضحة عن منطقة الحضر المكتظة بالآثار لكن الحراسة عادية وتقتصر على المعبد الكبير الذي يتناوب على حراسته شخصان فقط مزودان ببنادق خفيفة، وستكون عملية السرقة سهلة جدًا لمن يعرف المنطقة جيدًا خاصة وأنّ الحضر تبعد 100كم عن محافظة الموصل.
الأوهام الشعبية المُستملحة
يستثمر المخرج الخرافات المحليّة لكي يمنح الفيلم نبرة أسطورية تقوم على الأوهام الشعبية المُستملحة. فالحارس جبار يتحدث لبعض الزائرين عن كثرة التماثيل في مدينة الحضر بحيث "أن البدو يتصورون أن هؤلاء كانوا بشرًا وأنّ الله غضب عليهم وحوّلهم إلى تماثيل" لكن الغريب تمامًا أنّ هذا الحارس الذي نقل الحكاية الخرافية فقط ولم يتبناها مؤكدًا بأنّ هذه التماثيل قد نحتها الناس في الأيام الغابرة وكأنه لا ينتمي إلى الذاكرة الجمعية المحيطة به.
لم يُثِر الزائران السوريان ومعهما السائق البدوي شكوك الحارس جبّار أول الأمر لكنه سينتبه لهما لاحقًا في محاولة لربط سرقة رأس الملك سنطروق الثاني بهما. كما أنّ المُرشد السياحي قد انتبه إلى غياب الرأس وهو يتحدث إلى التلاميذ الذين يزورون منطقة الحضر وكان مُوقنًا تمامًا بأنّ الرأس كان موجودًا البارحة وقدّم شرحًا وافيًا عنه للزوار الذين كانوا بمعيته. ينتبه عامر، أحد الموظفين في الحضر إلى خبير الآثار النمساوي الذي يتكلم العربية "وزوجته" التي تتكلم الإنگليزية وكانت تلمس التمثال بيدها خلافًا للقوانين والاشتراطات المتبعة في المتاحف والمناطق الأثرية. كما أنّ هذا الخبير لم يسجل اسمه في سجل الزوار وحينما ينبِّهه عامر إلى ضرورة تدوين اسمه يكتب اسمًا مزورًا وهو "غوتن مورغن همبورغ" لأنه لا يريدهم أن يعرفوا أنهما كانا هنا.
تتحرّك السرقة في أكثر من مسار، فالحارس جبار يتقلّب في فراشه ولم ينم جيدًا وحينما تلح عليه زوجته هدية يعترف لها بوقوع حادثة سرقة التمثال من دون أن يرى أحدًا هذا السارق المحترف. لم يبلّغ جبّار عن السرقة التي حدثت في وقت حراسته خشية من أن يتهموه، وأكثر من ذلك فقد قلع قطعة الحديد المثبّت عليها الرأس ورماها في بثر مجاورة لكن إصرار زوجته دفعه إلى التبليغ عن السرقة والاعتراف بتقصيره. يتم تحديد وقت سرقة رأس الملك سنطروق الثاني بين الساعة الواحدة ظهرًا وصبيحة اليوم التالي؛ أي في وقت خفارة جبّار راجح. أمّا منير فيعتقد أنّ الأسماء مكتوبة بسرعة مقصودة وهي ليست صحيحة بينما يعمم مدير الشرطة العام كتابًا إلى المطارات والمراكز الحدودية مُخبرًا إياها بفقدان رأس الملك سنطروق من إحدى قاعات المعبد الكبير وكان في زيارة الموقع لليوم السابق للحادثة قرابة العشرين سائحًا أجنبيًا وبما أنهم قد يغادرون القطر في أي لحظة طلب تفتيشهم جيدًا وإحاطته علمًا بالنتيجة.
لقد هُرب التمثال عبر الحدود العراقية إلى سورية أول الأمر، وبما أنّ المعنيين قد فشلوا في بيعه فقد هرّبوه ثانية إلى لبنان ولم تكن النتيجة أفضل من سابقتها، ويظل خالد النجم يدور به على المحلات والمهربين الذين يرفضون شراءه بأبخس الأثمان لأنّ أحدهم اقترح حكّ رقم التمثال فتصوره المهربون مزيّفًا. ستكتشف الشرطة العراقية بأن الاسم الحقيقي لخبير الآثار هو هالسبلمان، نمساوي الجنسية ويعمل في المعهد الألماني للآثار وأنّ مدام مارتا بوليفيلي ليست زوجته وإنما صديقته ولهذا لم يدوِّن اسمها في سجل الزيارات خشية من افتضاح خيانتها الزوجية.
حينما تتعذر عملية بيع التمثال يرهنونه لمحمود الناعم بأربعمائة ليرة وبفضل تكاتف الجهود المبذولة من قبل الشرطة السورية والعراقية يتم العثور على رأس الملك سنطروق وإعادة إلى موطنه الأصلي. وتُظهر مانشيتات بالخط العريض تشير إلى أنّ العراق قد استعاد تحفة أثرية مسروقة، وأنّ رأس الملك سنطروق الثاني قد عاد إلى الوطن في آب / أغسطس 1970م.
تلاقح الخبرات العربية
اشترك في فيلم "الرأس" 46 فنانًا عراقيًا وسوريًا نذكر منهم سامي قفطان، قائد النعماني، طعمة التميمي، شكري العقيدي، فاضل خليل، كارلو هارتيون، محسن العزاوي، ابراهيم جلال، عبد الجبار كاظم، نزار السامرائي، فوزية الشندي، سعاد عبدالله، سمر محمد، زهرة الربيعي، هناء محمد، ومن الفنانين السوريين سليم كلاس، لينا باتع، وليد شميّط، أحمد عدّاس، حسّان دهمش. وهذه ليست المرة الأولى التي يُشرِك فيها الراحل فيصل الياسري ممثلينَ عربًا في أفلامه. ففي فيلم "القنّاص" 1980م هناك عدد من الفنانين اللبنانيين والسوريين أيضًا أمثال روجيه عسّاف، آمال عفيش، سهيل نعماني، سليمان الباشا، نزار قباني وغيرهم، وهناك باقة من الفنانين المصريين الذين اشتركوا في فيلم "بابل حبيبتي" 1988م وهم يحيى الفخراني وأحمد عبدالعزيز وسماح أنور إلى جانب نخبة من الفنانين العراقيين مثل هند كامل، وسامي قفطان، ومحمد حسين عبدالرحيم، وبدري حسّون فريد، ويوسف العاني، وفوزية عارف، وكنعان علي وغيرهم. وسوف نقدّم للقراء الكرام دراساتٍ نقديةً معمّقة عن هذه الأفلام المهمة التي تركت أثرًا في المشهد السينمائي العراقي والعربي على حد سواء.
النزاهة تحقق في قضية تهريب الذهب من مطار بغداد
18-تشرين الثاني-2024
الأمن النيابية: التحدي الاقتصادي يشكل المعركة المقبلة
18-تشرين الثاني-2024
الجبوري يتوقع اقصاء الفياض من الحشد
18-تشرين الثاني-2024
نائب: الفساد وإعادة التحقيق تعرقلان اقرار «العفو العام»
18-تشرين الثاني-2024
منصة حكومية لمحاربة الشائعات وحماية «السلم الأهلي»
18-تشرين الثاني-2024
مسيحيون يعترضون على قرار حكومي بحظر الكحول في النوادي الاجتماعية
18-تشرين الثاني-2024
الموازنة الثلاثية.. بدعة حكومية أربكت المشاريع والتعيينات وشتت الإنفاق
18-تشرين الثاني-2024
النفط: مشروع FCC سيدعم الاقتصاد من استثمار مخلفات الإنتاج
18-تشرين الثاني-2024
تحديد موعد استئناف تصدير النفط من كردستان عبر ميناء جيهان التركي
18-تشرين الثاني-2024
فقير وثري ورجل عصابات تحولات «الأب الحنون» على الشاشة
18-تشرين الثاني-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech