علي محمد مجيد
في العراق، غالبًا ما تُختزل العدالة إلى مشهد إعلامي يُقدَّم فيه موظف صغير أو مقاول فرعي كـ"كبش فداء"، بينما تمرّ أسماء ثقيلة الوزن مرور الكرام، رغم أن ملفاتهم تُغرق الأروقة السياسية وأحاديث الشارع.
لماذا لا يُحاسَب الكبار في العراق؟ هل لأنهم فوق القانون؟ أم لأن القانون ذاته وُضع بشكل يتيح لهؤلاء التسلل من ثقوبه الواسعة؟ بُنيت الدولة العراقية بعد 2003 على توازن هشّ بين مكوّنات لا تتفق إلا على مبدأ تقاسم النفوذ. هذا التوازن أنتج نظامًا سياسيًا لا يُحاسِب، لأن المحاسبة قد تهزّ البنيان كله. فكل متهم محتمل هو "مرشح للمساومة"، لا للمساءلة.
النتيجة؟ دولة بلا أنياب. دولة لا تستطيع ملاحقة مسؤول كبير دون أن تُتهم بـ"الاستهداف السياسي"، ولا تقدر على استرجاع أموال منهوبة دون أن تصطدم بجدار المحاصصة والطائفية والحماية الحزبية.
أحد أبرز تجليات هشاشة الدولة هو العدالة الانتقائية. ملفات الفساد الكبرى، التي يعرفها الجميع، إما تُغلق بـ"عدم كفاية الأدلة" أو تُؤجل إلى أجل غير مسمى. في المقابل، تُفتح القضايا الصغيرة بسرعة، وتُقدَّم على أنها انتصار للدولة وهيبتها.
لم نرَ وزيرًا فاسدًا يُدان ويُزجّ في السجن، رغم وجود عشرات تقارير ديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة. السبب؟ لأن فتح ملف "كبير" يعني الصدام مع شبكة من المصالح المتشابكة، ومواجهة أحزاب تملك أدوات ضغط إعلامية وسياسية وأمنية. من دون أمثلة حقيقية على المحاسبة، تتحول الدولة إلى مؤسسة شكلية، ويُفقد المواطن ثقته بها. عندما يرى الناس أن السياسي المتهم يُكافأ بمنصب جديد، أو يخرج من التهمة "أشرف من الشرف"، فإن القانون يصبح في نظرهم مجرد أداة انتقائية، لا ميزان عدالة. غياب الردع يُنتج المزيد من الجرأة على المال العام، ويغري الصغار لأن الكبار طلقاء. هكذا، يتحول الفساد إلى ثقافة، لا إلى جريمة. الطريق إلى دولة قوية لا تبنى الدول بالشعارات، بل بالعدالة. ودولة لا تستطيع محاسبة الكبار، هي دولة لا تستحق ثقة الصغار. ما لم تتحول المحاسبة إلى مبدأ لا استثناء فيه، وما لم تكسر الأحزاب يدها حين تُخطئ، سيبقى العراق يدور في حلقة فساد مغلقة. المطلوب اليوم ليس فقط قضاء مستقل، بل إرادة سياسية تضع القانون فوق الولاء، والمصلحة العامة فوق التسويات. حين يُحاسب أول "كبير"، سيفتح الباب لاستعادة الدولة، وحين تُكسر القاعدة، سيفهم الجميع أن لا أحد أكبر من العراق.