الروائية فرانسواز ساغان حررت الكتابة من أية وصاية
14-تشرين الثاني-2022
باسكال تابت
"كان الأدب هو كل شيء. كان كل شيء بذاته، كان الأكثر والأسوأ والقاتل، ولم يكن يوجد شيء آخر نقوم به ما أن ندرك ذلك، لا شيء سوى مواجهته ومواجهة الكلمات، عبيده وأسيادنا"، تقول فرنسواز ساغان في سيرتها الذاتية "مع ذكراي الأجمل".
لا تنتمي فرانسواز ساغان التي تحتفل الأوساط الأدبية في فرنسا بالذكرى الـ 18 لرحيلها إلى أي مدرسة أدبية أو مذهب أدبي، فقد كانت كتاباتها حرة وفيها كثير من الموسيقى والسلاسة والبساطة التي تحمل في عمقها بعداً إنسانياً وجودياً ونفسياً يميز عالمها، هذا العالم الذي اعتبره بعض النقاد عالماً سطحياً مادياً ورديئاً، في حين اعتبره بعضهم الآخر تعبيراً عن قلق الإنسان الوجودي.
في الواقع تتميز روايات ساغان، ويشار إلى أنها كتبت أيضاً مسرحيات ومقالات ومذكرات سفر، ببعدها السيكولوجي. يعيش أبطالها في عالم الرفاهية والشهوانية والرغبة التي تذكرنا بكثير من المواضع بمبدأ اللذة عند فرويد، ففي روايتها الأولى "صباح الخير أيها الحزن" التي كتبتها وهي في الـ 17 من العمر وتم نشرها عام 1954 وهي في سن الـ 19 وحازت على جائزة مجلة "كريتيك"، وحملت فرنسوا مورياك على وصف ساغان في صحيفة "لوفيغارو" بـ "الوحش الصغير الساحر"، كانت البطلة سيسيل تعيش مع والدها المتحرر في عالم الرفاهية في باريس وتتسامح مع غروره الذكوري ونزواته ومغامراته العاطفية، وقد اكتشفت هي أيضاً اللذة الجسدية مع سيريل الشاب الذي التقته في الكوت دازور، إذ استأجر والدها فيلا لقضاء عطلة الصيف.
بطلة الترف
ولكن يبدو أن سيسيل تبحث في العمق عما هو أبعد من ذلك، فخلف حياة اللذة والترف واللامعنى الظاهر التي تقودها هي ووالدها ريمون والتي تبدو غريبة عن كل أخلاق، يوجد بحث مؤلم عن الذات ومحاولة لفهم الذات ولحب الذات تتجسد من خلال محاولة الهرب من ذلك، فسيسيل التي تعتبر ذاتها "غير معتادة على التفكير" تحاول العودة لذاتها ولكن من دون أن تنجح في المصالحة مع ذاتها. تقول "اكتسبت وعياً فيه انتباه للآخ أكثر للآخرين ولذاتي عينها، كانت العفوية مع أنانية سهلة هي رفاهية طبيعية بالنسبة إليّ، والحال أن هذه الأيام القليلة أقلقتني بما يكفي لتقودني إلى التفكير وإلى تأمل ذاتي وأنا أعيش. لقد مررت بكل عذابات الاستبطان ولكن من دون أن أتصالح مع ذاتي".
نلاحظ في قولها هذا ما هو أبعد من الحياة العفوية السطحية التي تعيشها، ونلاحظ غربتها عن ذاتها وكرهها لذاتها الذي يتكرر ذكره في الرواية، فهي كانت تخطط لإبعاد والدها من آن التي قرر الزواج منها، معتبرة أن هذه الأخيرة التي تمثل العقلانية وصورة الأم التي تبحث عنها ساغان في رواياتها، أو ربما الأنا الأعلى، تمنعها من الاستمتاع بعلاقتها مع سيسيل ومن اكتشاف جسدها ومن اللذة ومن تحقيق رغباتها، وكأننا هنا أمام صراع بين الـ "هو" والـ "أنا" الأعلى بحسب نظرية فرويد.
كما كانت تعتبر أن هذه المرأة تمنعها من حب ذاتها، "هذا تحديداً ما كنت ألوم آن عليه، كانت تمنعني من أن أحب ذاتي وأنا التي بطبيعتي مصنوعة للسعادة واللطافة واللامبالاة، كنت أدخل من خلالها عالم اللوم والشعور بالذنب، إذ كنت أضيع ذاتي، وأنا التي لست معتادة على الاستبطان"، كما كانت سيسيل من خلال علاقتها بسيريل تبحث عن أن يجعلها تحب ذاتها.
ضد الذكورية
لم تكن فرنسواز ساغان ملتزمة بالحركة النسائية مثل سيمون دو بوفوار، ولكنها كانت شديدة الاهتمام بوضع المرأة وحالتها في تلك الحقبة ورغبتها في تحقيق ذاتها وأحلامها في عالم يسود فيه الرجال، فساغان التي دافعت عن حق المرأة بالإجهاض ووقعت المنشور 343 للمدافعة عن هذا الحق، جسدت في رواياتها نساء متحررات جنسياً ومستقلات يتمتعن بحرية اختيار الشريك.
لم تعد المرأة في روايات ساغان موضوعاً يتحكم به الرجل، ولكنها تتمتع بالعقلانية التي تجعلها قادرة على اتخاذ القرارات، وحتى القرارات المتعلقة بحياتها العاطفية. في رواية "هل تحبين براهمز؟" تحب بول، وهي امرأة في العقد الرابع من العمر ومطلقة، روجيه منذ ست سنوات، هذا الرجل الذي يتركها من أجل أعماله ونزواته، متأكداً من أنه سيجدها دائماً مستعدة للقائه ومخلصة له عندما يقرر العودة، لكنها التقت بالشاب سيمون الذي عاشت معه الهوى وأتاحت لنفسها بقرار منها فرصة الاستمتاع بحبه لها.
وفي "صباح الخير أيها الحزن" تصف سيسيل مفهومها للحب بكثير من الحرية والجرأة، "كان هذا المفهوم يجذبني، غراميات سريعة عنيفة وعابرة، ولم أكن في سن يجذب فيه الإخلاص".
وتقول أيضاً "اعتقدت أن كل غرامياتي كانت كذلك. انفعال مفاجىء أمام وجه، إشارة تحت قبلة ولحظات فرحة من دون ترابط، هذا كل ما أذكره".
إن وصف الحب بهذا الشكل على لسان امرأة جديد في رواية ساغان، ولكن في مقابل مفهوم سيسيل هذا للحب تعرض آن مفهوماً أكثر عقلانية أو ربما أكثر تقليداً، "تتصورين الحب بطريقة ساذجة بعض الشيء، ليس الحب سلسلة أحاسيس مستقلة الواحدة عن الأخرى، إنه شيء آخر، يوجد الحنان المستقر والرقة والنقص وأشياء لا يمكن أن تفهميها".
شعور مزدوج
يجد القارئ نفسه هنا أمام ازدواجية الشعور بالحب عند ساغان وأمام وجهين للحب يتعارضان ويرمز كل منهما إلى نسق أخلاقي محدد، وعلى رغم أن ساغان عاشت في باريس الخمسينيات زمن ما بعد الحرب الذي سادت فيه الفلسفة الوجودية في فرنسا، وعلى رغم أنها التقت جان بول سارتر كثيراً وتحديداً خلال السنتين الأخيرتين من حياته وتأثرت بموته، معتبرة أنها خسرت صديقاً ينصحها كما لا يستطيع أحد آخر أن يفعل ذلك، فهي لم تكن كاتبة وجودية، غير أنها في كتاباتها تطرح مسائل عدة شغلت الفلاسفة الوجوديين، مثل مسألة الحرية التي تشدد عليها ساغان في رواياتها كما في حياتها، ففي "صباح الخير أيها الحزن" تجسد سيسيل الحرية من خلال حياة اللذة التي تعيشها ويعيشها والدها، هذه الحياة التي تسيطر عليها الرغبة إذ تقول سيسيل، "كنت أدخن كثيراً وكنت أجد نفسي منحطة وكان هذا يروقني"، وتعبر عن شخصيتها قائلة "إن طعم اللذة والسعادة يمثل الجانب الوحيد المترابط في شخصيتي"، وكانت سيسيل تخطط للتخلص من آن، هذه المرأة "العقلانية" بحسب تعبيرها التي تجعل من حياتهما حياة منظمة ومنتظمة ومبنية على أسس أخلاقية وفكرية، في حين أنها هي كانت تبحث عن الحرية، "حرية التفكير وسوء التفكير والتفكير قليلاً، وحرية اختيار حياتي بنفسي واختيار نفسي بنفسي. لا يمكنني القول بأن أكون نفسي بما أني لست سوى عجينة قابلة للقولبة، ولكن حرية أن أرفض القوالب".
ويذكرنا هذا الرفض للقوالب بقول سارتر أن "الوجود يسبق الجوهر"، أي أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتمتع بحرية أن يختار ما يريد أن يكون، وتتجلى هذه الحرية والرغبة في التحرر من القيود في عدم تقبل سيسيل لبرغسون، فيلسوف الأخلاق، وفي الملل الذي تشعر به عند قراءته.
الكآبة والوحدة
وفي رواياتها تطرح ساغان موضوع الكآبة والوحدة والقلق والفراغ واليأس والملل، وفي كتابها "ابتسامة ما" تعرض ساغان حياة مراهقة فريسة رغبات عابرة، تعيش الملل وتنشغل بالتفكير حول الحياة والملل من الوجود.
وفي "صباح الخير أيها الحزن" تعبير واضح ومباشر عن الخوف من الملل إذ تقول سيسيل، "كنت أخاف كثيراً من الملل حتى الموت، ومن دون شك كنت أخشى أثره أقل من السابق منذ أن بدأت أحب سيريل في الواقع وفي الجسد، وقد حررني هذا من كثير من المخاوف، ولكنني كنت أخشى الملل والهدوء أكثر من أي شيء آخر، فلكي نكون هادئين داخلياً كنا في حاجة، والدي وأنا، إلى الضجيج الخارجي"، وكأن هذا الضجيج أو هذا الصخب الخارجي دواء وعلاج للوحدة وللملل ولما يمكن أن يؤدي إليه هذا الأخير على مستوى القلق الوجودي، وكأن الملل يضع الإنسان أمام اللاشيء وأمام هرب الزمن والعدم.
في الختام ليست روايات ساغان التي تدور في عالم الناس مصابون فيه بالخمول والسطحية والشهوانية والرغبة، مجرد وصف لهذا العالم ولحياة اللذة هذه أو مجرد الإشادة بها، ولكنها تعبير عن الحال الإنسانية وعن بحث الإنسان عن المعنى وعن معنى وجوده وراء اللامعنى، وربما من خلال اللامعنى من أجل الخروج من الكآبة والوحدة والقلق.
وتتميز ساغان في كتاباتها وفي تعبيرها عن هذه الحال ببراعتها ودقتها في وصف المشاعر الإنسانية، في وصف حالات شخصياتها النفسية.
تكتب جوليا كريستيفا في كتابها "شمس سوداء: اكتئاب وكآبة"، "إن تسمية الألم وتمجيده وتشريحه في أصغر عناصره هي من دون شك طريقة للقضاء على الأسى"، وهذا ما حاولت ساغان القيام به من خلال أدبها.