بغداد - العالم
في قلب الرصافة، حيث تختلط رائحة القهوة مع عبير التاريخ، تقف الصدرية شامخةً كحيّ لا يُشبه غيره.
هنا لا تُقاس الجماليات بالأبراج العالية ولا بالمقاهي الحديثة، بل بالعُمق الإنساني، والوجه البغدادي الأصيل، والذاكرة التي لا تنام.
الصدرية ليست مجرد سوق شعبي مزدحم، بل هي رواية طويلة مكتوبة بالعرق والكرامة والمودة.
في زواياها القديمة، تتعانق ملامح الشقاوات الطيبين، الحمالين، الكسبة، والعطارين، مع بسطيات الحب والفقر والصبر.
كتب قديمة، مجلات نادرة، وأشرطة موسيقى شعبية و"مقامات" راح زمنها، لكنها تعيش هنا.
محلات صغيرة تبيع الشاي والفستق والتتن، بجانب أحاديث سياسية ونكات عن الحكومات.
ووسط كل هذا الزحام، تجد الجمال، لا بالصورة، بل بالحياة. هنا الناس يعرفون بعضهم بالاسم، وينادون بعضهم بـ"عمي" و"خال" و"حبيبي"، كأن المدينة ما زالت قريةً واحدة لم تفقد دفئها.
الصدرية ليست منطقة عادية، بل مرآة لعقود من التحولات. هي شهدت الانقلابات، والحروب، والعقوبات، والانفجارات… لكنها بقيت، تفتح دكاكينها كل صباح كأن شيئًا لم يكن، وتُقدّم للعراق نموذجًا مصغّرًا عن شعبٍ لا يُقهر.
فبين الأزقة الضيقة، قد تجد شاعرًا يبيع كتبًا، أو طالبًا جامعيًا يساعد أباه في دكان عطارة،
أو رسامًا يعرض لوحاته على الرصيف… لأن الفن والفقر في الصدرية ليسا ضدّين، بل رفيقان.
ومع أن العمران تغيّر، والطرق ضاقت، والسياسة ضغطت، تبقى الصدرية "بغداد المصغرة" كما يعرفها أهلها:
بأهلها، بطعامها الشعبي، بشتائمها اللطيفة، وقلوب ناسها الواسعة كأبو نواس ونهر دجلة.
فهل نُدرك أن هذه المناطق الشعبية هي الروح الحقيقية لبغداد؟
وهل نعرف أن الجمال لا يسكن في الرخام، بل في بساطة الحياة اليومية كما تعيشها الصدرية كل يوم؟
الصدرية لا تطلب شيئًا... فقط أن تبقى حيّة، وأن يتذكر العراقيون أن هناك مكانًا في قلب بغداد لا يزال ينبض رغم كل شيء، باسمه، بلهجته، وبابتسامته الخفيفة التي تقول: "إحنا بخير... بعدنا نحب بغداد".