القيم العليا لمجتمع صالح
6-أيلول-2022
محمد عبد الجبار الشبوط
(٣)
بدون الدخول في الجدل القديم حول اولوية الفرد او المجتمع، فان الذي لا يجادل فيه اثنان ان المكون الاول للمجتمع هو الفرد. فالفرد هو بمثابة الخلية في المجتمع. ومجموعة الافراد الذين تربط بينهم علاقات، بدءاً من علاقة رجل وامرأة لتكوين عائلة، يولد المجتمع.
الافراد الموظفون في دوائر الدولة، والافراد الذين يمارسون نشاطا في السوق، والافراد الذين يتظاهرون، بما في ذلك الذين دخلوا مبنى مجلس النواب، او اولئك الذين انتخبهم الناس فاصبحوا نوابا، كلهم يمارسون ادوارا بصفتهم افرادا في صنع الظواهر الجيدة او السيئة في دوائرهم واماكن تجمعاتهم.
الظواهر الاجتماعية، سواء كانت ايجابية ام سلبية، "طرق للفعل او السلوك تنبثق عن القواعد و المباديء الاساسية والممارسات سواء الدينية او الدنيوية التي تشكلت بطرق جمعية فاكتسبت بالتالي قوة الزامية".
لا تتشكل الظواهر الاجتماعية في اي مجال من مجالات المجتمع الا من خلال سلوك الافراد. قد تبدو البداية وكأنها تصرفات فردية، وبمرور الزمن تتراكم هذه التصرفات وتتحول الى اتجاهات سلوكية مسيطرة على المجتمع من خلال افراده. وحين تتعاظم وتنمو تنتقل الى المؤسسات، فتنعكس هذه الاتجاهات السلوكية السلبية او الايجابية على عمل المؤسسات فيظهر ما يمكن تسميته بمأسسة الظاهرة الاجتماعية. وبدلا من ان تكون المفردة السلوكية شأنا فرديا تصبح شأنا مؤسساتيا.
يلعب المحتوى الداخلي دورا مهما في سلوك الفرد، ويمارس المحتوى الداخلي للمجتمع دورا اكبر في صناعة سلوك الافراد. في مجتمع لا يقدر قيمة الزمن من النادر ان نجد افرادا يلتزمون بالمحددات الزمنية (المواعيد) لسلوكهم. انتهاك المواعيد الدستورية مثلا هو نموذج واحد لعدم احترام الافراد للزمن في اطار المؤسسة التي يعملون فيها. وفي مجتمع لا يقدر النظافة العامة، من المتوقع جدا ان يرمي الافراد النفايات في قارعة الطريق.
القيم العليا الحافة بعناصر المركب الحضاري التي يؤمن بها الانسان تؤثر في سلوكه اتجاه عناصر المركب الحضاري. التصرفات السلبية التي يقوم بها الانسان اتجاه عناصر المركب الحضاري، اي الانسان والطبيعة والزمن والعلم والعمل مؤشر الى حدوث خلل في هذه القيم العليا الموجهة للسلوك. اذا اردنا اصلاح المجتمع فيجب اصلاح منظومته القيمية على المستوى العام وعلى المستوى الخاص. والجدل حول بايهما نبدأ جدل غير منتج. المنتج في الامر الشروع باعادة بناء منظومة القيم على اي مستوى متوفر وممكن.
قد يرى البعض ان الدعوة الى اعتناق قيم عليا مجترحة اجتراحا لن يغير شيئا، مفضلين الانطلاق مما هو كائن حقا، للتنظير الى ما ينبغي. قد يكون هذا الرأي سليما بقدر ما يتعلق الامر بفهم الواقع المعاش ومعرفة قيمه السائدة. وهذا امر مفيد على كل حال. لكنه لا يكفي لان القيم العليا هي في جوهر الامر مؤشرات وضوابط لما ينبغي ان يكون مستقبلا، وليس التقيد بما هو كائن فعلا. ولو اكتفينا بذلك لما امكننا تصور نقطة مستقبلية تشكل هدفا يتعين الوصول اليه من خلال الاتجاهات السلوكية التي تصنعها القيم المقترحة. وهذا هو ما قامت وتقوم به كل الحركات التغييرية في التاريخ. وبالتالي فلابد من تنشئة الاجيال الجديدة على القيم المقترحة سواء ما كان متعلقا منها بالسلوك الفردي ام بالسلوك الجمعي في اي مجال من مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والدينية الخ. ان قيما مثل النظافة، والحرص على المال العام، والاخلاص في الوظيفة الحكومية، والتسامح، والعفو عند المقدرة، وغير ذلك لا يمكن ان تنشأ لوحدها في الارضية الاجتماعية كما تنبت النباتات البرية، كالفطر او الكمأ، انما لابد من تعهدها بالرعاية والتربية حتى تتحول الى اتجاهات سلوكية تتمتع بقوة الزامية حال كون الفرد ضمن المجتمع.