سيد محمود
بدأ ادب السخرية المصري من كتابات عبدالعزيز البشري وبيرم التونسي، وتواصل عبر أعمال محمد عفيفي ومحمود السعدني وأحمد رجب خلال حقبتي الخمسينيات والستينيات إلى أن وصل إلى جيل بلال فضل وعمر طاهر وهيثم دبور خلال العقدين الأخيرين، فقد أنتج هؤلاء أعمالهم تأكيداً لما يسميه أمبرتو إيكو "الحق في التسلية والمتعة"، وتميزت على اختلافها بالحرص على تأطيرها ضمن فضاء درامي له ملامح واقعية، لكنه ظل يحفل بشخصيات لا تتوقف عن إنتاج أفعال فانتازية تماثل أفعال الحمقى، على رغم ما تدعيه من حكمة وبلاغة.
إيكو في كتابه "كيفية السفر مع سلمون" أكد أن "مفهوم السخرية إنما يدين بصلاحيته الفلسفية إلى الحماقة وليس إلى أي امتياز آخر"، وهي مقولة يجد قارئ الرواية مئات الإشارات التي تؤكدها داخل النص، وربما آمن بأن أبطال الرواية ليسوا سوى حمقى.
يبدأ السارد من واقعة عائلية بعد أن يتلقى حمامة الفلايكي دعوة من عمه يحثه فيها على طلب يد ابنته سعاد بدلاً من خطيب لا يعرفه، فتقدم للزواج منها وحين يذهب حمامة استجابة لطلب العم يفاجأ برفض الطلب لأنه في نظر العائلة شاب بلا عمل أو دخل ثابت، مما يضعه في حرج بالغ يواجه معه أزمة وجودية حول مدى تحققه أمام أفراد عائلته الموسرين، في حين بقي في نظرهم الفقير المولع بـ "التنظيرات الفلسفية" التي لا طائل منها.
وتتحول لحظة الرفض إلى نقطة فاصلة بين عالمين، الأول يتمثل في عالم العائلة داخل حي المعادي والثاني في عالم حارة "ودن القطة" التي يقرر حمامة الفلايكي العيش فيها ولقاء صديقه الشاعر شرحبيل بن نوسه الذي يتبادل معه التأملات والتفكير في مصير العالم، وخلال اللقاء بين الصديقين أمام النهر يكشف حمامة عن ألمه، في حين جلس شرحبيل على الشاطئ للتأكد من مقولة قرأها لأحد الحكماء الصينيين قال فيها "اجلس على حافة النهر وسيحمل لك التيار جثة عدوك"، وفي تلك الأثناء يفاجأ الفلايكي بجثة طافية لرجل يدعى إسماعيل بالونة هربت معه قبل أيام نوسة، والدة شرحبيل، من دون أن تحصل على الطلاق من زوجها الحاج إبراهيم كازوزا، مما جعل شرحبيل يعاني عقدة الوصم التي تلاحقه طوال الرواية، ولا سيما بعد القبض على أمه بتهمة قتل عشيقها، وتتوالى محاولات شرحبيل إنقاذ أمه بدعم من صديقه لدرجة أنه يضحي بالقيمة المالية لجائزة كبرى نظير بحث قدمه الى المؤتمر الدولي للمناخ، لكنه يتعرض لعملية نصب من المحامي المكلف بقضية الأم.
يجد القارئ نفسه أمام جملة من الوقائع والمصادفات ذات الطابع الميلودرامي بغرض التهكم من الخطاب الذي كرسته السينما المصرية، إذ يعيد الأبطال إنتاج مجموعة من الحيل الدرامية مستمدة كلها من الشاشات، سواء ما ارتبط منها بقصص العشق أو صور الانتقام الهزلية، وبفضل تلك الحيل تتأكد أمام أهل الحارة المكانة العقلية المميزة التي يتمتع بها شرحبيل بن نوسة وصديقه الفلايكي، إذ يصبحان محوراً لاهتمام المستشرقين في العالم وتصبح حارة "ودن القطة" موضوعاً للبحث والدرس ونقطة استقطاب الدارسين.
تتدفق الحكايات الساخرة بغزارة لافتة للنظر وفق تقنيات سريالية، وانطلاقاً من النص النواة الذي يفرز خلايا عدة، على رغم ما يبدو من اعتماد الرواية على مجموعة بورتريهات تمثل ألبوماً ساخراً يستعرض الشخصيات التي تطورت لاحقاً لتصبح فاعلة داخل نسيج متجانس يتسم بطابعه الدرامي، فالشخصيات تتحرك على خلفية بصرية متكاملة العناصر وفي الوقت نفسه وثيقة الصلة بالواقع، على رغم أفعالها التي تمضي على العكس من ذلك، وتتعدد صور المحاكاة الساخرة سعياً إلى إنتاج أكثر من مفارقة، في حين تظل دوافع الشخصيات غير موجودة أو مبررة لأن الأفعال تمثل مفاجآت فانتازيا لا يجري التأسيس لها داخل النص.
من جهة أخرى تحفل الرواية بمجموعة من الاستعارات الرمزية التي لا تعطي فقط أدلة متعددة على تنوع ثقافة الكاتب، وإنما تشير إلى صور التفاعل النصي بين الرواية ونصوص أخرى مضمنة فيها، إذ ترد شخصيات من عالمها الفني لتأكيد دلالة الاستعارة ورمزيتها، مثل استدعاء المخرج الإيراني عباس كياروستامي وفيلمه "كلوز آب" الذي يستعمل لتأكيد وجود الحياة المتوهمة بكامل عناصرها، إذ يحكي الفيلم قصة محاكمة حقيقية لرجل ينتحل شخصية المخرج السينمائي الشهير محسن مخملباف، وأوهم أسرة عاش معها أن أفرادها هم أبطال فيلمه الجديد، وهو ما حاول أسامة غريب تمثله في روايته التي تضع القارئ أمام جملة من الشكوك إزاء السردية التي ينتجها.
وهناك مجازات داخل النص يصعب فصلها عن خطاب الحياة اليومية في مصر لكنها تعمل في الوقت نفسه على تفكيك هذا الخطاب، سواء عبر الشخصيات التي أفرزها الواقع المعقد أو نتيجة للوقائع الفانتازية المناهضة لهذا الواقع، بما تتضمنه من سمات غرائبية تقفز فوقه وتتحايل عليه، وفي المقابل تنتج الرواية خطابها المضاد الذي يعزز منطق التحايل الاجتماعي كآلية للتعامل مع واقع ملتبس وغائم يمتلئ بصور التواطؤ على الصعيد الدولي ومختلف أشكال الفساد المحلي التي تنعكس على سلوكيات الشخوص الباحثين عن سبل للنجاة وفرص للثراء السريع.
وتمتد عملية التفكيك داخل النص لتشمل السخرية من المجتمعات الرأسمالية التي أفرزت نمطاً من المعرفة يقوم على الاستهلاك وثقافة الـ "توك شو" التي تسهم في استمرار اغتراب الشخصيات عن واقعها الحقيقي، إذ تبدو "حارة ودن القطة" مركزاً بديلاً للعالم أنتجه الخيال الخصب، حيث لا يجوز طرح أسئلة منطقية أو توقع الحصول على أجوبة لها معنى، لأن الحارة ليست سوى محطة انتقال من مجتمع الـ "ديستوبيا " إلى الـ "يوتوبيا" تحقق أحلام الجوعى.
وهناك مجازات داخل النص يصعب فصلها عن خطاب الحياة اليومية في مصر لكنها تعمل في الوقت نفسه على تفكيك هذا الخطاب، سواء عبر الشخصيات التي أفرزها الواقع المعقد أو نتيجة للوقائع الفانتازية المناهضة لهذا الواقع، بما تتضمنه من سمات غرائبية تقفز فوقه وتتحايل عليه، وفي المقابل تنتج الرواية خطابها المضاد الذي يعزز منطق التحايل الاجتماعي كآلية للتعامل مع واقع ملتبس وغائم يمتلئ بصور التواطؤ على الصعيد الدولي ومختلف أشكال الفساد المحلي التي تنعكس على سلوكيات الشخوص الباحثين عن سبل للنجاة وفرص للثراء السريع.
وتمتد عملية التفكيك داخل النص لتشمل السخرية من المجتمعات الرأسمالية التي أفرزت نمطاً من المعرفة يقوم على الاستهلاك وثقافة الـ "توك شو" التي تسهم في استمرار اغتراب الشخصيات عن واقعها الحقيقي، إذ تبدو "حارة ودن القطة" مركزاً بديلاً للعالم أنتجه الخيال الخصب، حيث لا يجوز طرح أسئلة منطقية أو توقع الحصول على أجوبة لها معنى، لأن الحارة ليست سوى محطة انتقال من مجتمع الـ "ديستوبيا " إلى الـ "يوتوبيا" تحقق أحلام الجوعى.
ويعد مؤلف الرواية أسامة غريب أحد أبرز الكتاب الساخرين في الصحافة المصرية خلال العقدين الأخيرين، فقد درس الصحافة في كلية الإعلام بجامعة القاهرة، ثم عمل في إحدى شركات الطيران وكتب في أدب الرحلات، وحظي كتابه الأول "مصر ليست أمي... دي مرات أبويا" بحفاوة كبيرة من القراء وتجاوزت طبعاته الـ 20 حتى الآن، ومن أبرز مؤلفاته روايات "أفتوكا لايزو" و"همام وإيزابيلا" و"لمس أكتاف" و "إرهاصات موقعة الجحش" و"عازفة الكمان" و"ليالي الأنس في فيينا" و "آه لو تدري بحالي".