الكواكبي في فيلم عن سنواته الحلبية يعفيه من الأسئلة والقلق
6-تشرين الثاني-2023

إبراهيم العريس
حتى اليوم وعلى رغم التقدم الذي طال الذهنيات في المجتمعات العربية، لا يزال تحقيق فيلم سينمائي، وربما تلفزيوني أيضاً، ينتمي إلى نوع "أفلام السيرة" حدثاً كبيراً. فالرقابات هنا تكون أكثر حضوراً وتعنتاً وليس دائماً من جانب السلطات الرسمية. فهنا تكون رقابة المجتمع أشد فإن كان صاحب السيرة فناناً ها هم أهله يكتشفون أهميته ويتصدون لأي محاولة لتحويل حياته إلى عمل فني (حالة أسمهان مثلاً أو حالة مي زيادة...)، وإن كان سياسياً توضع خطوط حمر لا يمكن تجاوزها (مثلاً منع المقربين من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر المخرج السوري أنور قوادري من تصويره بـ"البيجاما" في فيلم عنه لأن ذلك "لا يليق"). ومن هنا، على رغم أن تاريخ السينما العربية بات طويلاً، ويمتد أكثر من نحو قرن، وعلى رغم أن هذه السينما عالجت في مئات الأفلام التي حققتها، عدداً كبيراً من المواضيع، فإن ما ظل غائباً حتى اليوم أو شبه غائب على أي حال، هو "أفلام السيرة" أي تلك التي تتناول التاريخ انطلاقاً من شخصيات عاشته وأثرت فيه. ولئن كانت أفلام "السيرة الذاتية" قد شهدت بعض الرواج منذ افتتح يوسف شاهين هذا النوع بفيلم "إسكندرية ليه؟"، فإن أفلام السيرة غير الذاتية ظلت تعد على أصابع اليدين، في طول السينما العربية وعرضها، إذا استثنينا سير الفنانات الوهمية غالباً والمحظيات التي برع في رسمها مخرجون من طينة حسن الإمام.
نماذج نادرة
وكان الأمر بحاجة إلى انتظار "الناصر صلاح الدين" الذي حققه يوسف شاهين قبل أن تعرف السينما العربية أفلاماً تاريخية ولكن "مؤدلجة" تروي الحاضر عن طريق الماضي. وشاهين نفسه هو الذي حقق بعد ذلك فيلماً عن "بونابرت" وآخر عن "ابن رشد"، فاتحاً الطريق أمام مخزون تاريخي غزير. ولعل ما يمكن قوله عن سينما السيرة، إنها في نهاية الأمر باهظة الكلفة، غير مضمونة النتائج، ما يؤخر ازدهارها، تاركاً إياه لبرامج تلفزيونية تستسهل مثل هذه الأمور، وتفرض عليها جمالياتها وشروطها. المهم أن هذا اللون السينمائي لم يلق الرواج الذي كان يمكن أن يتوقع له في مجتمعات تفتخر عادة برجالها وتاريخها. ومع هذا، فقد شهدت العقود الأخيرة، التفاتاً جدياً إلى هذا النوع من الأفلام، فكان "المصير" عن حياة ابن رشد و"جمال عبدالناصر" لأنور القوادري، وأخيراً "تراب الغرباء" للمخرج السوري سمير ذكرى عن فصل من حياة المفكر النهضوي العربي عبدالرحمن الكواكبي.
حياة أم جزء من حياة؟
ولئن كان مخرج "جمال عبدالناصر" قد رأى أن الزمن السينمائي يمكن أن يستوعب 35 سنة من حياة بطله ما كثف الفيلم وجعل مسار أحداثه سريعاً ضاغطاً، فإن كلاً من شاهين في "المصير" وذكرى في "تراب الغرباء" آثر أن يختار مرحلة فقط من تاريخ صاحب السيرة، تجاوباً مع ضرورات ذلك الزمن السينمائي نفسه، ناهيك بأن "المصير" و"تراب الغرباء" يشتركان في رغبتهما "الأيديولوجية" في قول الحاضر عبر حكاية الماضي. ولئن كانت هذه الرغبة تنطبق تماماً على "المصير" وتعتبر جزءاً أساسياً من نسيجه الفكري والشكلي، فإنها في "تراب الغرباء" أقل وضوحاً، وتأتي في التفسير والحوارات وفي رسم النوايا، أكثر مما تأتي في قماشة الفيلم نفسه. طبعاً لا يمكننا الإيغال في المقارنة بين تحفة يوسف شاهين، وفيلم نزيه هادئ ليس أكثر حققه مخرج لا يزال بحاجة إلى خبرة شاهين وجرأته قبل أن يتمكن من تحويل حياة الكواكبي إلى تحفة وإلى عمل معاصر، لذلك نترك هنا ابن رشد شاهين، لنتوقف عند "تراب الغرباء"، إلى جانب "نسيم الروح" لعبداللطيف عبدالحميد، الذي عرض في إحدى دورات مهرجان القاهرة السينمائي، فكان نصيبه إحدى الجوائز الثانوية.

الأكثر كلفة
منذ البداية لا بد من الإشارة إلى أن "تراب الغرباء" كان في زمن تحقيقه، واحداً من الأفلام السورية الأكثر كلفة حتى ذلك الحين، فهو بديكوراته ومجاميعه وأشغاله التقنية اقتضى جهوداً قلما نعم بمثلها فيلم سوري. من هنا ما كان بإمكان هكذا فيلم أن يحقق إلا بمؤازرة أساسية من القطاع العام. وفي مشاهد الفيلم وغناه الشكلي ما يشي بتلك الكلفة. ولربما يصح التوقف بشكل خاص عند قدرة المخرج المتميزة في رسم البيئة الحلبية حيث تدور الأحداث أواخر القرن الـ19، بأجوائها الشعبية وعلاقاتها العائلية، وخصوصاً بمناخها السياسي في ظل الاحتلال العثماني، ولكن هنا لا بد من القول إن "تراب الغرباء" يبدو وكأنه وقع ضحية لهذا الإبهار التشكيلي، بحيث أتى الفيلم في المحصلة الأخيرة "برانياً" أكثر منه "جوانياً" ويذكّر خصوصاً بنمط من الأفلام السوفياتية التعليمية حيث البطل إيجابي، والصراع أسود وأبيض بين الخير والشر، بين الظالم والمظلوم، بين المستعمر والمستعمَر. ولئن كان من دور لهذا النوع من السينما التاريخية، فإن الدور الذي يمكن أن تلعبه هو دور الكشف. وفي حياة عبدالرحمن الكواكبي من الأسئلة والألغاز ما كان من شأنه أن يستدعي مثل هذا الكشف والتنقيب. بخاصة في الفترة التي اختارها الكاتب والمخرج أي الفترة الحلبية. فتاريخياً، نعرف أن هذه الفترة هي التي شهدت ذلك الانقلاب الأساسي الذي عرفه فكر الكواكبي حيث تحول من مفكر إسلامي إلى مفكر عروبي، وذلك تحديداً، تحت تأثير جماعات من الاشتراكيين الإيطاليين الكاربوناري "السان سيمونيين" من الذين كان لهم مركز في حلب.
في خلفية أفكار الكواكبي
ويبدو أن الكواكبي كان على علاقة بذلك المركز، وعن طريقه قرأ نصوصاً مكنته من جمع مادة كتابه الأشهر "طبائع الاستبداد". وهذا التحول لديه هو الذي ألب عليه السلطات العثمانية، لا سيما الشيخ أبو الهدى الصيادي، وأدى إلى اضطهاده، ومحاكمته ثم هربه إلى مصر. غير أن الفيلم يتجاهل هذا كله، رغم أنه كان من شأنه أن يوفر للفيلم العنصر الدرامي، عنصر القلق، الذي يفتقر إليه الفيلم ككل، ويقدم لنا الصراع بين الكواكبي والسلطات وكأنه مرسوم سلفاً في كتاب مدرسي مبسط. والحال أن غياب العنصر الدرامي، هو الذي جعل الفنان الذي لعب دور الكواكبي عاجزاً عن تقديم أي ملامح شخصية لبطل بدا واضحاً أنه خارج من الأدب لا من الحياة. ولذا كان دائماً راضياً بما يحدث له متوقعاً إياه، مستعداً للذهاب إلى السجن وإلى المنفى من دون أن يرف له جفن، واثقاً من أفكاره وصوابه السياسي وواثقاً، خصوصاً، من وقوف الجمهور، متفرجي الفيلم، معه!

في منأى من الأسود والأبيض
يتابع "تراب الغرباء" بعض سنوات من آخر أيام عبدالرحمن الكواكبي في حلب، قبل أن يسافر إلى القاهرة، ومنه في جولة في بلدان الخليج وشرق أفريقيا على متن سفينة إيطالية عسكرية وتحت رعاية قنصل إيطاليا، وقبل أن تأتي نهايته مسموماً ربما على يد عملاء لأبي الهدى الصيادي أو للسلطات المصرية التي قد تكون قتلته استجابة لرغبة الآستانة. والسنوات الحلبية التي يرسمها لنا الفيلم، هي سنوات كان الصراع فيها يدور على نقابة الأشراف وبلدية حلب وعلى فتح الكواكبي مكتب محاماة أو منعه من ذلك. وهذا كله قد يصح اعتباره ثانوياً في حياة ومسيرة ذاك الذي سيرى محمد عمارة وغيره أنه كان أول من أدخل البعد الاشتراكي في الفكر النهضوي، وسيرى آخرون أنه الأب الراعي لـ"القومية العربية" المصوغة على النمط القومي الإيطالي بالتوازي مع "اختراع" نابليون الثالث لها في حديث شبيه بينه وبين الأمير عبدالقادر الجزائري، وسيكتب "أم القرى" متخيلاً مدينة إسلامية جامعة فاضلة، هذا كله لن نشاهد منه شيئاً في "تراب الغرباء"، بل لن نفهم، كذلك، حين نشاهد الفيلم، ما هو مبرر ذلك العنوان الذي يوحي ويعد بالكثير. صحيح أن المخرج، وكاتب الرواية، حاولا الابتعاد عن الشوفينية بتقديم شخصيات عربية سلبية- الصيادي مثلاً- وشخصيات تركية إيجابية كالبيك الذي يرسله السلطان للتحقيق في ما يدور في حلب، لكن هذا لا يكفي بالطبع لضخ الفيلم بكثافة فكرية ودرامية، وكذلك تقصر عن هذا حوارات تحاول "عصرنة" الموضوع عبر الحديث عن "التطرف" و"التعصب" و"الاغتيال" أو تحاول ملامسة بعض معضلات الوحدة الوطنية إلى آخر ما هنالك. فالحال أن هذا كله ظل "برانياً" خارج الإطار الحقيقي لشخصية الكواكبي التي تعتبر- في الحسابات جميع- واحدة من الشخصيات العربية النهضوية الأكثر إشكالية وقلقاً.

النزاهة تحقق في قضية تهريب الذهب من مطار بغداد
18-تشرين الثاني-2024
الأمن النيابية: التحدي الاقتصادي يشكل المعركة المقبلة
18-تشرين الثاني-2024
الجبوري يتوقع اقصاء الفياض من الحشد
18-تشرين الثاني-2024
نائب: الفساد وإعادة التحقيق تعرقلان اقرار «العفو العام»
18-تشرين الثاني-2024
منصة حكومية لمحاربة الشائعات وحماية «السلم الأهلي»
18-تشرين الثاني-2024
مسيحيون يعترضون على قرار حكومي بحظر الكحول في النوادي الاجتماعية
18-تشرين الثاني-2024
الموازنة الثلاثية.. بدعة حكومية أربكت المشاريع والتعيينات وشتت الإنفاق
18-تشرين الثاني-2024
النفط: مشروع FCC سيدعم الاقتصاد من استثمار مخلفات الإنتاج
18-تشرين الثاني-2024
تحديد موعد استئناف تصدير النفط من كردستان عبر ميناء جيهان التركي
18-تشرين الثاني-2024
فقير وثري ورجل عصابات تحولات «الأب الحنون» على الشاشة
18-تشرين الثاني-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech