علي عطا
لم يكن الكولومبي إكتور آباد فاسيولينسي (1958) خلال شهرين قضاهما في مصر (ديسمبر 1999 ويناير 2000)، مسافراً عادياً داخل حيزي الزمان والمكان، فعبر قراءته تجهَّز جيداً للرحلة – أو هكذا ظنَّ – وعلى أرض الواقع لمس الخلاف بين القاهرة (أو مصر عموماً) التي قرأ عنها وتشكَّلت لها صورة معينة في مخيلته، وتلك التي زارها واحتك بأهلها، بحسب ما أورده محمد الفولي في مقدمة ترجمته لكتاب "الشرق يبدأ من القاهرة" (دار صفصافة).
ومع ذلك، خالف فاسيولينسي الواقع، بأن أورد معلومات مغلوطة، مثل أنه "لكي يُنشر لك عمل أدبي في مصر لا بد وأن يمر عبر رقابة شيوخ الأزهر"، أو أن بعض كتب نجيب محفوظ ممنوع من التداول، أو أن أهم جائزة أدبية في مصر وأكبرها من الناحية المادية لا تُمنح لمؤلف رواية أو ديوان شعر، بل لأفضل شخص يتلو آيات القرآن. وربما استناداً إلى ذلك وغيره من تعميمات غير موضوعية، توقع فاسيولينسي بأن كتابه هذا "لن يترجم بالتأكيد إلى العربية" ص 234. ومعروف أن العمل الوحيد لمحفوظ الذي منع في مصر هو روايته "أولاد حارتنا"، عقب نشر فصول منها في جريدة "الأهرام"، لكن بعد محاولة اغتياله في 1994، بادرت جريدة "الأهالي" القاهرية بنشرها في ملحق طبعت منه آلاف النسخ، ثم نشرتها دار الشروق" عام القاهرية، عام 2006، علما أن طبعتها الأولى صدرت عام 1962 عن دار "الآداب" البيروتية. 
اطلع فاسيولينسي على ما كتبه هيرودوت عن مصر القديمة وعلى ما دوَّنه جوستاف فلوبير، في كتابه "رحلة إلى مصر"، المعزَّز بلوحات وصور ماكسيم دوكا، وعلى "روائح الرحلات" لروديارد كيبلينغ، ورواية "أُم" للفرنسي من أصل لبناني سليم نصيب، والتي ترجمها بسام حجَّار إلى العربية تحت عنوان "كان صرحاً من خيال"، وتتناول علاقة أم كلثوم بالشاعر أحمد رامي. وتشمل قائمة المراجع الواردة في نهاية الكتاب أعمالاً أخرى، قرأها إكتور آباد فاسيولينسي، سواء قبل أن يبدأ زيارته للقاهرة، أو خلال عمله على كتابه الذي يندرج في فئة أدب الرحلات والذي صدرت نسخته الإسبانية عام 2002 تحت العنوان التالي Oriente empieza EL CAIRO، ومنها  "تاريخ المصريين" لإسحق عظيموف، "رسائل من مصر" لهانز حورج بيرغر وهرفي بيرغر، "المسلم" لباولو برانكا، "الأدب والشعر في مصر القديمة"، و"على ضفاف النيل" و"مصر في زمن الفراعنة" لإدا بيرسياني، و"القلب السري للساعة" لإلياس كانيتي، و"المومياوات، رحلة نحو الخلود" لفرانسواز دينو وروجر ليكتنبرغ. 
وعند زيارته لمقياس النيل في جزيرة الروضة، يستدعي "نشيد النيل"، الذي كُتِب قبل أكثر من 3 آلاف عام: "رسول الطعام وميسر الأغذية، خالق كل شيء جميل، السيد الكريم طيب المياه، تباركتَ كلما جئت" ص 40، ويغلق مسترجعاً النظرة الأولى إلى النيل "من بين غمامة القاهرة المدخنة": "ليس هو نهر الكتب الرائع"، ويذكر أنه ما إن وصل فلوبير إلى القاهرة "حتى شعر بالرغبة في العودة إلى نورماندي"، بحسب ما قاله رفيق رحلته صديقه المصور ماكسيم دو كامب. ويقول  إن فلوبير وصف القاهرة أيضاً بأنها "لا ترحم الأعين"، ثم لاحقاً كتب لوالدته: "ترغبين في معرفة إذا ما كان الشرق على مستوى توقعاتي؟ هو على هذا المستوى وتخطى سعة افتراضاتي، وجدتُ ما كان بالنسبة لي أموراً ضبابية مرسوماً بكل وضوح، الأفعال التي حلت محل الأفكار، لدرجة أنه في بعض الأحيان يبدو الأمر كأنني وجدتُ نفسي مجدداً مع أحلامي القديمة" ص 51.
وعلى أية حال يقر فاسيولينسي بأنه وجد القاهرة "أكثر أمناً من باريس ومدريد ونيويورك". ويضيف: "ربما يعد أكثر شيء لا يمكن تفسيره في أحياء القاهرة الفقيرة، هو أن سكانها ىتسمون بالمرح واللطف"، وهو الأمر الذي لاحظه كفافيس في الإسكندرية حين قال: "الشمس تحرق مصرنا الذابلة بسهامها المرة البغيضة تحرق مصرنا العطشى لكن هناك مصر أخرى، تتحدى بسعادةِ أسواقها طغيان الشمس، تبيع ببهجة لتشتري الزينة وتنسى لعنتها" ص 253. ولاحظ الكاتب الكولومبي كذلك أن القاهريين؛ "يعيشون بحالة مزاجية جيدة للغاية، كما لو أن أياً من كل الأشياء التي تضايقنا من حر وصخب وتلوث، لا تؤثر فيهم، فهم يلقون التحية ويبتسمون ويلعبون كأنهم يحتفظون داخل أنفسهم بسرٍ ما، جين سعادة لا يقبل التحول ومحصَّن ضد هجمات الواقع. الكُرات التي تقفز وترتد بين المقابر هي أفضل صورة لانتصار هذه السعادة في مساحة مخصصة في الأساس للموت".
ويضيف: "في بلادي المليئة بالمهربين وررجال المافيا، نحن خبراء في حداثة النعمة، نحن أشقاء مصر في هذا، وأيضاً في مسألة الانتماء للعالم الثالث. فقر القاهرة مثل فقر ميديين، وإن كان ما يخصها أكثر كرامة ولا يزال يحتفظ حتى في أكثر حالاته مأساوية بنوع من الاحترام. ما لا يصب في صالحنا هو مسألة العنف، إذا ما كانت الأبواق في القاهرة لا تتوقف (وهذا أمر يصيب أكثر العقول حكمة بالجنون) فإنها في ميديين لا تسمع لسبب أسوأ: الخوف من أن يقدم مجنون غاضب على قتلك إذا ما استخدمت بوق سيارتك معه". في مديين: "عمليات السرقة بالإكراه والقتل، هي الخبز اليومي الذي نتناوله". أما المراكز التجارية الحديثة في القاهرة فهي كما في أي مكان آخر في العالم، جزء من عالم يميل نحو التحول إلى مقبرة للبضائع المتماثلة الباردة.
لكن داخل إطار تلك الحملة الجديدة المدبرة التي تحدث عنها ساراماغو، يقول فاسيولينس هناك أيضا المراكز التجارية العتيقة، في منطقة القاهرة الفاطمية، مثل خان الخليلي، حيث مقهى الفيشاوي، وسوق الصاغة، ومتاهات بائعي الملابس القديمة، وأصوات سكاكين الحرفيين. لكنه يعترف بأنه مارس عملية خداع عندما تعمد شراء عمل نحتي يجسد هيئة امرأة حزينة في قلب شجرة أبنوس "لا بد أنها قديمة للغاية"، من سوق خان الخليلي بثمن بخس. لكنه شعر بعد عودته إلى الفندق بتأنيب الضمير فأعادها في اليوم التالي لصاحبها واسترد المبلغ الذي كان قد دفعه له. ومن محصلة جولة نيلية من الأقصر إلى أسوان، تتأكد قناعة فاسيولينسي بأن "ما يطلق عليه اليوم مصر، لا تربطه صلة بمصر الكتب أو مصر التي يبحث عنها الغرب ويحلم بها منذ حملة نابليون في 1798 أو إعلان جان فرانسوا شامبليون في سبتمبر 1833 أنه تمكن من فك شفرات الهيروغليفية، تلك الكتابة التي ظلت لا تنطق ولا تسمع منذ أكثر من 1500 عام. هي ليست أيضاً تلك الدولة القابعة في مخيلتنا منذ ترجمة بيرتون لـ "ألف ليلة وليلة" في 1855. لم تعد هي هذا البلد المقارب للخيال أكثر من الواقع والذي ولدت فيه الفنون والتقييمات وصنعت فيه آلهة الإغريق، وحدثت فيه معجزات موسى، وتحققت فيه نبوءات يوسف. علاقة مصر الحديثة بتلك القديمة هي مثل تلك التي تجمع إسبانيا اليوم بالحضارة التي رسمت كهف ألتاميرا، أو كولومبيا الحالية بالحضارة التي صنعت مقابر تييرادينترو". ويضيف: "نحن جميعاً نخلط الثقافة بالأرض... أروع ما في مصر هو ماضيها. كيف ستشعر بالعظمة وبائعو أوراق البردي الزائف يطاردونك ويهجمون عليك أيضاً بأهرام بلاستيكية صغيرة".  
يذكر أن إكتور آباد فاسيولينسي اشتهر بكتابه "النسيان" وهو عن حياة والده إكتور آباد غوميز. وحصل على جائزة الصين لأفضل رواية أجنبية عام 2005 عن رواية "أنغوستا"، وجائزة بيت أميركا في البرتغال عن "النسيان" والجائزة الوطنية الكولومبية للقصة. قررت إسبانيا منحه جنسيتها عام 2017 لكونه "أحد أفضل المؤلفين باللغة الإسبانية".