أشرف الحساني
لا يعثر الدارس والباحث والعاشق للموسيقى العربية المعاصرة على متون فكرية تسعفه في قراءة مؤلفات نظرية تشرح هذا الشكل الفني وتزيده وعياً وعمقاً بذاته، وفي هذا الأمر خلل كبير داخل الثقافة العربية والطريقة التي ينظر بها إلى الموسيقى، كما لو أنها ممارسة رمزية على هامش الثقافة، على رغم أن مفهومها الأنثروبولوجي عند إدوارد تايلر مفهوم شاسع يدخل كل الممارسات الرمزية في ما يتعلق بالثقافة والفنون والعادات والتقاليد.
هذا الغياب لا يفسر الهشاشة التي تطبع الفكر العربي وتجعله فكراً يعيش على اجترار موضوعات لم تعد تنتمي إلى السياق التاريخي الذي نعيشه اليوم، كما أن هذا الفكر عبارة عن حديث كتب عن كتب، إذ يصعب العثور على مؤلف فكري يتناول الموسيقى العربية ويرصد تحولاتها التاريخية وأنماطها الغنائية ويعمل على مساءلتها من وجهة نظر فكرية، بل كل ما يطالعنا عبارة عن كتب حول القومية والنهضة واليسار والتحرر، بطريقة يبدو فيها هذا الفكر العربي المعاصر فكراً تاريخياً ينتمي إلى حقبة ماضوية، يعد أحد ينتمي إليها وجدانياً لا فيزيقياً.
لكن في مقابل هذا الشرخ الفكري، تتوفر في الثقافة الغربية نماذج كثيرة كتبت عن الموسيقى من وجهة نظر فلسفية، كما هي الحال مع رائد مدرسة فرانكفورت تيودور أدورنو، بل إن هذه الثقافة تتعامل مع الموسيقى بشكل ملتزم لأنها تعتبرها حلقة مهمة ومكملة لتكوين وتشكل الثقافة المعاصرة.
ويعثر الباحث داخل جامعات غربية على عديد من المختبرات الفكرية التي تعنى بدراسة الموسيقى المعاصرة، في وقت أدركت فيه هذه الثقافة أن الموسيقى يمكن أن تغدو مختبراً للتفكير في كثير من القضايا، انطلاقاً من مقاطع موسيقية وأنماط غنائية، والطفرة النوعية التي حققها النقد الموسيقي في الغرب هي التي أسهمت في نهضة التفكير في الموسيقى.
لا يمكن التفكير في الموسيقى فلسفياً دون تحقيق تراكم نقدي أولاً، يساير تحولاتها المعاصرة ويستوعب أنماطها الفنية وتشكلاتها الجمالية، فالنقد الموسيقي يحرك عجلة الفكر، لأنه يكون بمثابة عملية رمزية أولية تساعد المفكر على الانطلاق من تراكم معرفي تحليلي يستطيع عبره النزوع صوب التجريد الفلسفي.
ويعد التفكير في الموسيقى فكرياً، بمثابة الدخول إلى الحداثة من بابها الرسمي، بل إنه نمط من الفكر الذي يجعل التفكير حداثياً وقادراً على بناء وعي دقيق بما يحيط به. الموسيقى المعاصرة تطرح كثيراً من المفاهيم التجريبية التي مهما ظلت في عمومها تنتمي إلى الطرب والترفيه والاستهلاك، فإنها دائماً ما تنزع صوب نوع من التفكير الخلاق الذي يسهم في تهذيب ذوات الناس، وبهذه الطريقة تأخذ الموسيقى بعداً نفسياً مركباً ذا أثر بالغ في الجسد، حيث تحول العلاقة بين الآلة والجسد إلى عملية جذب وتأثير متبادل، تبدو الآلة وكأنها تنفث آهات الفنان وتحوله بشكل تلقائي إلى عملية تواصل فكري بين الطرفين.
لا يعثر المرء على مفكر واحد في العالم العربي جعل من الموسيقى والفن عموماً مدخلاً لتحليل ظواهر اجتماعية، كما فعل جيل دولوز في الصورة مع الزمن والحركة، وميشال فوكو من الكلمات والأشياء، وكذلك ناتالي إينيك الذي يعد براديغم الفن المعاصر، وتناول بيير بورديو لقواعد الفن وغيرهم من المفكرين الذين أسسوا مشاريع فكرية من وجهة نظر فنية في وقت انشغل فيه مفكرون عرب بالتأليف الفكري في الموسيقى، وهذا التشنج لا يظهر في باطنه سوى خللاً كبيراً في كيفية تراجع هذا الفكر. يقول الكاتب وسام جبران "حين نريد الحديث عن موسيقى عربية بوصفها الفضاء الأوسع لما تنتمي إليه القوميات والإثنيات المتنوعة التي عاشت وتعيش تحت المظلة الثقافية العربية، فإنه لا يكفينا النظر إلى تاريخها الذي لم يصلنا منه سوى القصص والحكايات والأخبار، كما نقرأ في كتب المسعودي والأصفهاني وسواهم، ولا من خلال المحاولات التنظيرية اليتيمة على شاكلة كتاب (الموسيقى الكبير) للفارابي و(الخُبْرُ في صناعة التأليف) للكِندي وغيرهما".
تعيش الموسيقى العربية المعاصرة تحولات مفاهيمية كبيرة، سواء تعلق الأمر بالآلات الحديثة التي تجدد بعزفها التراث الغنائي العربي أو من جانب طريقة النظر إلى الأغنية وأهدافها وغاياتها، بل حتى الطريقة التي بها تقارب مؤسسات الإنتاج الأغنية وكيف تسعى جاهدة إلى إنتاجها والترويج لها تستدعي في مجملها تفكيراً سوسيولوجياً يموقع ويفكك علاقة الموسيقى بالمؤسسة والجمهور.
هذا التحول الأنطولوجي لم ينتبه إليه الفكر العربي المعاصر، لأنه فكر يعيش الماضي، معتقداً أن التأخر التاريخي الذي تعيشه الشعوب العربية والأعطاب والأهوال والمصائب التي استبدت بهذه البلدان تحتم التفكير للعودة إلى الماضي ومعرفة السبب.
هكذا يحلل المفكرون إشكالات اليوم بمنطق البارحة، والسبب الذي يجعل الفكر العربي الحديث منه والمعاصر لا يساير تطورات الموسيقى العربية، كامن في كونه عبارة عن تفكير تقليدي وهش، فالتكوين النظري للموسيقى غير موجود على الإطلاق داخل شعب الفلسفة والتاريخ والسوسيولوجيا.
ما يجعل أغلب الكتابات النقدية عبارة عن اجتهادات فردية تحاول تلمس حقيقة العمل الموسيقي وتفكيكه من الداخل، إما بسبب تعلق الكاتب بالموسيقى وحدسه الجمالي تجاهها، أو أنه يمارسها في حياته اليومية، فيعمد في بعض المرات إلى كتابة مقالات عامة حول الآلة وبعض الأغاني التي تستبد بوجدانه وتفكيره.
لا يمكن تأسيس مشروع فكري حول الموسيقى، إذا لم يأخذ هذا الفكر على عاتقه إمكانية تجديد نفسه، وذلك بانفتاحه على تاريخ الفنون والعيش في ذاكرتها والتفكير فيها، عبر ما تتركه من أثر على ذاكرة البلدان، وإذا كان اهتمام بعض الباحثين بالسينما من زاوية الفكر على رغم أنها تبقى مجرد محاولات لا تقترب في كتاباتها إلى النمط الفكري، فهذا راجع إلى كون الصورة تظهر بمثابة خطاب يساعد الباحث على كشف المخبوء، أي إن الصورة بحكم تسلسلها تساعد على فهم خطابها ثم العمل على تأويل وفق أشكال مختلفة من الكتابة، في حين تبقى الموسيقى تجريدية وميتافيزيقية، لا يمكن القبض عن داخل الكلمة، إلا إذا امتلك الكاتب مسبقاً حساً جمالياً وذوقاً رفيعاً في الاستماع، هذا الحدس الجمالي أو العشق المزدوج هو الذي يساعده على إقامة علاقة حميمية مع الموسيقى.
الفكر العربي حين ينظر، إذا فعل ذلك، إلى الموسيقى لا يعتقد في قرارة نفسه أنها قابلة للتفكير، فالآلات والدوزانات والأوتار والأغاني وعلاقتها بالكلمات كلها عناصر يمكن تحليلها وتضمر في ذاتها فكراً منغمساً في ثنايا الوجود.
حين نعود إلى تاريخ الفلسفة الإسلامية في العصر الوسيط نعثر على مؤلفات فكرية حول الموسيقى كتبها كل من أبي يوسف الكندي وأبي نصر الفارابي، بما يبين المكانة التي حظيت بها الموسيقى والطرف في تفكير الفلسفة الإسلامية الوسيطية، لكن كيف تأتى لهؤلاء التفكير في الموسيقى من وجهة نظر فكرية في وقت لم يخطر على المفكرين في الحقبة الحديثة والمعاصرة تأليف مشروع فكري تكون الموسيقى هاجسه الأكبر؟
يقول الكاتب محمد السيد الطناوي "يعد الكندي فيلسوف العرب وأول من وضع قواعد للموسيقى في العالم الإسلامي، وأول من دونها بالحروف الأبجدية، وابتكر سلماً موسيقياً من 12 نغمة، كما اقترح إضافة وتر خامس للعود، إذ وعى في زمنه إلى ما يغيب عن كثيرين اليوم، فسجل أن للطفولة ألحانها وللشباب ألحانه، كما للشيخوخة ألحانها أيضاً، وأن هناك ألحاناً للصباح، وأخرى للمساء ومثلها للصيف والشتاء وقسم الموسيقى، بحسب تأثيرها في النفس الطربي واللهوي والتلذذي والتنعمي".