هوفيك حبشيان 
لجنة التحكيم، التي ترأسها المخرج الكمبودي الفرنسي ريثي بان، منحت "النمر الذهبي" – أرفع جوائز المهرجان – للمخرج الياباني شو مياكي عن فيلمه الآسر "تابي تو هيبي" (أو "موسمان، غريبان" بالإنجليزية)، الذي من المرتقب أن يبدأ عرضه في الصالات اليابانية ابتداءً من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
مياكي، 41 عاماً، استلهم عمله هذا من قصص المانغا المصورة، وهو رابع مخرج ياباني يحصد هذه الجائزة المرموقة. يحمل في جعبته رصيداً متنوعاً من الأعمال التي تتوزع بين السينما الروائية والوثائقية والتلفزيون وحتى تجهيزات العرض البصري. وهذه ليست المرة الأولى التي تطأ فيها قدماه أرض لوكارنو، إذ شارك سابقاً بـ"بلايباك" (2012) ضمن المسابقة الرسمية، إلى جانب حضوره في مهرجان برلين السينمائي من خلال عملين مختلفين. نحن إذاً أمام سينمائي يمتلك خبرة راسخة في صناعة الصورة، رغم عوده الطري نسبياً، ويبدو أن مسيرته ستنقسم منذ الآن إلى ما قبل جائزة لوكارنو وما بعدها.
يروي شو مياكي، الذي يذكر اسم ريسوكي هاماغوتشي (صاحب "قد سيارتي"، المتوَّج في مهرجان كان 2021) بين الأسماء التي ألهمته، أن أول فيلم قصير شارك في صناعته مع أصدقائه عندما كان في الخامسة عشرة، حمل عنوان
1999. وعلى الرغم من أن مدته لم تتجاوز ثلاث دقائق، فإن التجربة كانت غنية وممتعة إلى حد بعيد، نابعة من شعور عميق بقدرته على توظيف جسده وعقله معاً في فعل الخلق والإبداع. يقول مياكي إنه انغمس في المشروع بحماسة جارفة، حتى استنزف كامل طاقته، وانتهى به الأمر بإصابته بنزلة برد نتيجة الإرهاق. وفي حديث له عن علاقته بالسينما، يصفها بهذه الكلمات البليغة: "لو أن الحياة تُعاد مرتين أو ثلاثاً، لما وُجدت المسرحيات، ولا الممثلون، ولا الكاميرات، ولا الأفلام. نحن نصنع الأفلام لأن كل ما يحدث في الحياة يحدث مرة واحدة فقط. ونواصل صنعها لأن دوافعنا تنبع من مشاعر لا تُحصى: فرحة العمل مع من نحب، والانزعاج الدائم الذي لا يزول مهما أخرجنا من أفلام، ودهشة المجهول، والغضب من الظلم، وتلك الرجفة التي يصعب وصفها حين تتبدل نظرتك إلى العالم من جذورها". 
الخلق الفني
استعان شو مياكي بالممثلة الكورية الجنوبية شيم أون كيونغ ليعبّر من خلالها عن تأملاته العميقة في فعل الخلق الفني، وكيف تنبع الكتابة من أعماق التجربة البشرية. تؤدي كيونغ دور كاتبة سيناريو نراها في بداية الفيلم تدوّن أفكارها في دفتر صغير، ثم تترجَم تلك الشذرات إلى صور سينمائية. في البداية، نرى شابين يلتقيان على شاطئ في فصل الصيف. وفي القسم الثاني من الفيلم، حيث ننتقل من الأحداث إلى كواليس صناعتها، تصبح كاتبة السيناريو هي الشخصية المركزية، عندما تلتقي رجلاً غريباً وسط الثلوج. لا تنتظروا حبكة مكتظة أو أحداثاً مدوّية، فكل ما يجري ليس بالشيء الكثير، إذ يتألف الفيلم من منمنمات وتفاصيل دقيقة تستدعي التأمل، وتدعونا للنظر في عمقها بعيداً من ظاهرها. ومع ذلك، يا للمفاجأة، كيف يمكن للحظة صمت أو كادر واحد – وكل الكادرات هنا مذهلة في بساطتها – أن تقول أكثر مما قد تقوله عشرات الصفحات المكتوبة. هذا العمل يمثل مثالاً نادراً على نمط معين من السينما اليابانية، تلك التي تراهن على البساطة الآسرة، وتنكب من خلالها على دراسة شخصيات قد تبدو لوهلة مألوفة، لكنها تنطوي على ما يجعلها عصية على التصنيف. شخصيات لا تشبه أحداً ممن نلقاهم يومياً، ومع ذلك، لا يختلفون في شيء عن أي أحد.
وفاز الفيلم النمسوي - الألماني "الحلزون الأبيض"، من إخراج إلسا كرمسر وليفين بيتر، بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان لوكارنو. تدور القصة حول عارضة أزياء بيلاروسية تطمح إلى بناء مستقبل مهني في الصين، غير أن لقاءها بشاب يعمل في مشرحة، يقلب عالمها رأساً على عقب. حضور هذا الرجل يوقظ في داخلها أسئلة مؤرقة عن الجسد، ومعنى الجمال وفناء الإنسان. بين ظلال الوحدة وهشاشة الوجود، تتشكل علاقة حب غير متوقعة بين غريبَين، يرى كلٌّ منهما في الآخر انعكاساً خفياً لروحه. هذا الفيلم اللافت نال أيضاً جائزة التمثيل، التي ذهبت مناصفةً إلى ماريا إمبرو وميخائيل سينكوف، اللذين تقاسما الجائزة مع مانويلا مارتيللي وآنا ماريا فيسيلتشيك، عن أدائهما في ”الله لن يساعد“ للمخرجة الكرواتية هانا يوشيك. هذا الأخير عن امرأة تشيلية تقتحم مجتمعاً جبلياً من رعاة كرواتيين خلال القرن العشرين، لتترك أثراً بالغاً في نسيجه المحافظ، وتفتح الباب أمام تحوّلات غير متوقعة.
وذهبت جائزة الإخراج إلى العراقي المقيم في لبنان، عباس فاضل، عن فيلمه الوثائقي "حكايات الأرض الجريحة"، الذي صوّره خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان ولا سيما جنوبه. يركّز الفيلم على مشاهد الدمار، لكن من دون أن يغفل عن التقاط لحظات الأمل التي تولد من رحم المأساة. يوثّق فاضل الحياة اليومية للمدنيين، مظهراً تمسّكهم بالحياة، وإصرارهم على النهوض وإعادة البناء، رغم كل ما خلّفته الكارثة من خراب. على مدى خمسة عشر شهراً، التقط فاضل مشاهد واقعية، من دون نيّة مسبقة لصناعة فيلم. استخدم معدات بسيطة، بما في ذلك كاميرا هاتفه أحياناً، ورفض الخضوع لأي قيود إنتاجية.
المخرج الجورجي ألكسندر كوبيريدز اختار أن يحكي، في فيلمه "ورقة يابسة"، عن مصورة فوتوغرافية تُدعى ليزا، اختفت أثناء توثيقها لملاعب كرة القدم الريفية في جورجيا. ينطلق والدها وصديقها في رحلة للبحث عنها، ليتحول الفيلم إلى تأمل في الغياب. رغم جودة الفيلم، اكتفت لجنة التحكيم بمنحه تنويهاً خاصاً، في حين يرى البعض أنه كان يستحق أكثر من ذلك.
إلى جانب هذه الجوائز، وُزِّع عدد كبير من الجوائز الأخرى في الأقسام التنافسية المختلفة، لكننا نكتفي هنا بما يخص المسابقة الدولية. في ختام الدورة، صرّح المدير الفني للمهرجان، جونا نازارو، قائلاً إن هذه النسخة تجاوزت كل توقعاته، وأضاف: "نحن على يقين أن هذه الأعمال ستصمد أمام اختبار الزمن، وستتحول إلى منارات أمل للمواهب الشابة التي بدأت تحلم بأفلام الغد". 
لكن، ورغم هذا الخطاب المتفائل، تبقى أمام مهرجان لوكارنو تحديات جمّة، في طليعتها المنافسة الشرسة مع مهرجانات عملاقة مثل كان والبندقية وبرلين. فأن ينجح "النمر" في التفوق على "السعفة" و"الأسد" و"الدب"، هو رهان لا يكفي فيه التاريخ المجيد وحده، بل يحتاج إلى جهد مضنٍ واستراتيجيات ذكية واقتناص فرص، وهذا هدف بعيد المنال.