إبراهيم العريس
في رسالة بعثت بها الفيلسوفة الألمانية – الأميركية #حنه_آرندت يوم 26 يونيو (حزيران) 1968، وورد نصها في كتاب نشر بعد موتها يحتوي مراسلاتها مع أستاذها السابق الفيلسوف الألماني #كارل_ياسبرز، ماذا تقول صاحبة "جذور التوتاليتارية" و"إيخمان في القدس" عن انتفاضات شبيبة هذا العام؟
تقول إن "أبناء القرن الـ21 سينظرون ذات يوم إلى أحداث ثورات الشبيبة المندلعة في هذا العام بالطريقة نفسها التي ننظر بها نحن إلى ثورات عام 1848. وأنا أعتبر نفسي على أية حال معنية بالأمر شخصياً. فداني الأحمر، دانيال كوهن – بنديت، هو ابن صديقين قريبين جداً مني، وهو ولد ممتاز".
ونعرف أن داني هذا كان واحداً من زعماء انتفاضة الشبيبة الباريسية خلال ربيع عام 1968 على رغم أنه ألماني، فهو كان يدرس في فرنسا ويتزعم مجموعة متطرفة في ماويتها – نسبة إلى الزعيم الصيني ماو تسي تونغ - وكانت آرندت قبل رسالتها إلى ياسبرز التي تعرب فيها عن هذا الرأي المبكر بالانتفاضة، قد كتبت إلى صديقتها الكاتبة الأميركية ماري ماكارثي تطلب منها أن تجد لها طريقة ما تمكنها من الاتصال بالزعيم اليساري المتطرف الذي سيقول لاحقاً إنه كان يعرف آرندت منذ صباه المبكر من خلال الزيارات المتبادلة بينها وبين والديه، وكثيراً ما ناقشها في شؤون السياسة والفلسفة.
تشجيع على الإيمان بالمستقبل
المهم أن ماكارثي عثرت لحنه على عنوان دانيال، وتلقى منها هذا على الفور رسالة تقول له فيها "إنني واثقة من أن والديك، ولا سيما والدك، كان من شأنهما أن يكونا فخورين بك إن كانا بعد على قيد الحياة. على أية حال سيمكنك دائماً أن تتكل علينا إذا كنت في حاجة إلى أية مساعدة أو إلى النقود". والحقيقة أن حنه آرندت اختصرت في تلك العبارات القصيرة، ليس فقط مشاعرها تجاه ابن صديقيها القديمين، بل بشكل أكثر تحديداً، رأيها في تلك الأحدث المهمة التي كانت تجري في العالم من حولها ومن المعروف أنها نادراً ما عبرت عن موقف تجاهها. ففي نهاية الأمر كان ما يحدث لا يزال في أوله، ولئن كانت الفيلسوفة قد دنت من تلك الأحداث من خلال ما بدا أنه تعاطف عائلي مع فتى عرفته صغيراً فإذا به يصبح زعيماً ثورياً، فإن تعبيرها كان من الدقة والحسم ما استبقت به أياً من الفلاسفة الأوروبيين والأميركيين الذين تريثوا يومها – باستثناء قلة منهم – قبل المجازفة بإعلان موقف من "ثورة" فاجأتهم وبدت جديدة الوسائل والغايات في ذلك الحين.
ولسوف تواصل آرندت موقفها ذاك على رغم الفشل الآني لتلك الانتفاضة، بل يمكننا أن نجازف هنا أكثر بتأكيد أن ما ذكرته آرندت من التشبيه بين ثورة 1948 وانتفاضة 1964، سيبدو تاريخياً دقيقاً بالنظر إلى أن الثورة والانتفاضة أسفرتا عن هزيمة كل منهما، ولكن آنياً.
مقارنة في محلها
والحقيقة أن آرندت، التي عاشت من السنوات بعد مايو (أيار) 1968 ما كفاها لتشهد هزيمة المنتفضين، لا شك أنها لو عاشت أكثر لشهدت تحققاً للمقارنة التي أجرتها في رسالتها إلى ياسبرز. فلئن كانت ثورة 1848 قد هزمت عبر تكالب الأنظمة الرجعية الأوروبية ضدها فإنها لن تلبث أن تنتصر لاحقاً إذ تواصل مفعولها في الذهنيات حتى يمكننا القول إن كل المراحل المتقدمة والتطورات الفكرية، بل حتى التبدلات الذهنية الخطرة التي عرفتها أوروبا بعد ذلك وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى على الأقل، أتت من رحمها.
ويمكن قول الشيء نفسه عن مايو 1968، حيث هنا كذلك "هزمت" الثورة على المدى القصير، لكن أموراً كثيرة بالمعنى التقدمي للكلمة، وتحديداً بمعنى التبدلات الجذرية في الذهنيات على امتداد القارة الأوروبية وأبعد من ذلك، إنما أتت من رحمها كذلك. أما بالنسبة إلى "داني الأحمر" فإنه سيقول لاحقاً كم أن اتصال حنه آرندت كان من شأنه أن يعيد إليه آمالاً كانت قد بدأت تخفت. فالرسالة لم تصله في وقت كانت فيه الهزائم قد بدأت تتلاحق من براغ، حيث غزا الجيش السوفياتي تشكوسلوفاكيا واضعاً حداً لربيعها. واستعاد الجنرال ديغول السيطرة على الحكم في فرنسا وباتت ليلة المتاريس من الذكريات. وكما كان الأمر في أروربا الشرقية، حيث سجل الاحتلال السوفياتي لبراغ نوعاً من التواطؤ بين الحكام المسيطرين بأحزابهم الشيوعية باسم الطبقة العاملة، وبين القوى العمالية صاحبة المصلحة نظرياً في التغيير الثوري، شهدت أوروبا الغربية وسواها ذلك التواطؤ نفسه بين الأنظمة الرجعية والنقابات والأحزاب العمالية. وهو نفس ما سيراه فلاسفة ومفكرون من طينة آرندت على خطى كبيرهم في ذلك الحين الألماني المقيم في أميركا كآرندت بدوره، هربرت ماركوزه.
علاقات عائلية
أما بالنسبة إلى دانيال كوهن بنديت، الذي سيعبر عن سروره بمكاتبة حنه آرندت له بعد سنوات عديدة، فسيعلق على ذلك بقوله بعد ذلك في حديث أدلى به لصحيفة "ليبراسيون" الفرنسية "الحقيقة أنني أول الأمر لم أتلق تلك الرسالة، لكنني علمت بوجودها خلال قراءتي للسيرة التي وضعتها إليزلبيث يونغ – برويل لحياة آرندت في عام 1986. ولقد تعرف والداي إريك وهيرتا على حنه في باريس بارتيادهم جميعاً حلقات أصدقاء ونقاشات كان ينشطها في باريس المفكر والتر بنجامين، وتجمع من حوله مثقفون من طينة آرنولد تسفايغ وبرتولت بريخت وغيرهما من اللاجئين الألمان في وقت كانت حكومة فيشي الفرنسية بزعامة الماريشال بيتان الموالي للنازيين قد بدأت ترسل اللاجئين الألمان إلى معسكرات اعتقال بوصفهم "معادين لفرنسا"، وكان والدي قد أرسل إلى معسكر الاعتقال في فيلمالار، حيث التقى هناك زوج حنه هاينريخ بلوخر المعتقل بدوره. أما حنه نفسها فاعتقلت في معسكر في البيرينه الشرقية. ولاحقاً بما يشبه الصدفة التقى أبي وبلوخر بزوجتيهما. وبعد الحرب راح أبي (الذي سيرحل عن عالمنا عام 1950) يتراسل مع آرندت التي كانت قد توجهت لتعيش في منفاها الأميركي".
ويذكر دانيال هنا فقرة هي عبارة عن ملاحظة بعثت بها الفيلسوفة إلى والده واستعملتها في أحد فصول كتابها "جذور التوتاليتارية". أما هو فلسوف يلتقيها لاحقاً في الولايات المتحدة، لكنه كان لا يزال فتياً، ثم سيلتقيها من جديد في فرانكفورت لمناسبة تكريم كارل ياسبرز هناك. و"لكنني التقيتها كما لو كان أول لقاء بيننا".
مهما يكن، كانت آرندت بحسب ما يذكر كوهن بنديت هنا، "تعتبر يمينية بحسب تصنيفات اليسار الألماني حينها، وذلك تحديداً لأنها كانت تعتبر الستالينية شمولية كالنازية سواء بسواء، تنويعتين على المنظومة الشمولية. وكان ذلك اليسار نفسه يصنفني أنا بدوري يمينياً بالتالي آرندتياً!".
والحقيقة أن حنه آرندت رحلت عن عالمنا قبل أن يتبدل ذلك كله وتتغير التصنيفات، لكنها رحلت وهي على ثقة، كما راحت تردد وهي في آخر سنوات حياتها، بأن من الخطأ النظر إلى حراكات عام 1968 على أنها ثورة فشلت. فبالنسبة إليها - أي إلى آرندت - ليس من المنطقي اعتبار ما حدث مجرد محاولة للوصول إلى السلطة هنا أو هناك. كل ما في الأمر أن الأجيال الجديدة التي سئمت الاستماع إلى جيل الآباء والجدود يواصلون حديثهم عن أمجاد الحرب العالمية الثانية والحنين إلى الماضي في وقت راح العالم كله يتبدل، انطلاقاً مما سيعتبره ماركوزه الذي أشرنا إليه أعلاه، الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تكون غاية في الوقت نفسه، وهي التمسك بالحرية وما ينادي بها من مبدعي فنون وآداب.
ومن المؤكد أن آرندت التي شاركت ماركوزه رأيه هذا، نظرت بدورها إلى الحرية بوصفها التعويذة التي حملها منتفضو 1968، تماماً كما كان قد حملها من قبلهم ثوار 1848 وهم لا يفكرون بأن ذلك سيوصلهم إلى السلطة أو إلى تغيير العالم بشكل فوري، بل إلى إحداث ذلك التغيير في الذهنيات الذي ستكون مهمته تغيير العالم بدءاً من رفض ما تعفن من قديمه بغية فتح صفحات جديدة تمهيداً للوصول إلى مستقبل مبني على القيم لا على الأيديولوجيات.