بوتشيني صوت الأوبرا الإيطالية في كاليفورنيا البائسة
19-آذار-2023
إبراهيم العريس
قد لا تكون أوبرا "عذراء الغرب" التي لحنها الفنان الإيطالي جاكومو بوتشيني أشهر أعماله الأوبرالية بالنسبة إلى جمهوره العريض، الذي كان يؤثر أعمالاً أخرى له تبدو بالنسبة إليه أكثر رسوخاً وجاذبية بالمعنى الفني للكلمة.
غير أن هذه الأوبرا التي بدأ تقديمها على خشبة قاعة "المتروبوليتان" في نيويورك ليلة 10 ديسمبر (كانون أول) 1910، تتميز بخصائص أخرى لا يستهان بها وفي مقدمتها أن "أحداثها" تدور في أجواء الغرب الأميركي وتحديداً في كاليفورنيا التي كان من الصعب إقناع جمهور الأوبرا الكلاسيكية بأن ذلك العالم الغنائي المرتبط بالأجواء الكلاسيكية الأرستقراطية يمكن لذلك الفن الغنائي الخاص أن يعبر عنه، صحيح أن واحدة من أشهر أوبرات بوتشيني "البوهيمية" لا تتسم في أجوائها وموضوعها بأية أرستقراطية، لكن جمهور الأوبرا أحبها بالنظر إلى أنها تقدم له منطقة منمارتر الباريسية التي كانت أشبه بحلم حياة بالنسبة إلى الأوروبيين وغيرهم، وهي ليست بالطبع حالة "الغرب الأميركي" الذي تعبر عنه كاليفورنيا المرتبطة عادة بالذوق الرديء والبحث عن الذهب والأماكن المشبوهة الموضوعة في خدمة السكارى واللصوص، فمن أين واتت بوتشيني تلك الفكرة وكيف تجرأ على الدنو منها عبر ذلك الفن الموسيقي الذي يعد عادة من أرقى الفنون؟
تاريخ غير بعيد
بداية لا بد من الإشارة إلى أن أحداث "عذراء الغرب" تدور في زمن تاريخي يعود إلى نحو 60 عاماً إلى الوراء قبل عام 1910، الذي قدم فيه العمل، عثر بوتشيني على موضوع كان يحلم به في قصة عنوانها "فتاة الغرب الذهبي" للكاتب دافيد بيلاسكو تدور أحداثها بين العامين 1849 و1850، يوم وصلت حمى البحث عن الذهب إلى أوجها وامتلأت المخيمات المقامة على سفوح "كلاودي ماونتن" الكاليفورنية بجيوش من عمال المناجم المتطلعين للحصول على الثروات الموعودة من طريق التنقيب عن الذهب، وهو موضوع بدا غريباً عن الأجواء الأوبرالية وحتى عن رهافة ما اعتاد بوتشيني أن يبدعه، لكن المهم هنا هو أن الموسيقي المجدد الذي انضم في تجديداته إلى مجايله الفرنسي ديبوسي، وربما لأنه أراد الاستفادة من التجديد في الأجواء الغريبة التي تدور هذه الأوبرا في رحاها، للتحرر من أغلال معظم القواعد الأوبرالية الكلاسيكية طالما أنه تمكن من فرض هذا المكان الجديد المنفلت من كل ما هو كلاسيكي، فإن أكثر ما اهتم به بوتشيني هنا كان السعي لترسيخ تجديداته الهارمونية بشكل يلتقي مع الأجواء الموسيقية السائدة في تلك المنطقة من العالم.
من هنا تمكن في موسقته لهذا العمل المنعتق من كل قيد، من أن يغوص في حداثية غير متوقعة، بخاصة في رسمه لشخصية البطلة ميني التي تدير في بلدة صغيرة في المنطقة حانة تعيش فيها، والتي على عكس بطلات بوتشسيني المعهودات اللواتي دائماً ما ينهزمن ويفشلن في كل ما يسعين إليه، تحقق حياتها بقوتها وإرادتها وسط عالم ذكوري بالغ القسوة.
في حانة ميني هذه يتجمع كالعادة عدد من الزبائن اليوميين الذين يعيشون آملين في العثور على الذهب في بيئة بالغة القسوة وفي تتال بين التفاوت والانسجام في ما بينهم، وميني لديها بالطبع من قوة الشخصية ما يمكنها من إدارة هذا العالم بشكل يكشف خلفية كل شخص من الأشخاص المتعايشين في انتظار تحقيق الأحلام. والأكثر بروزاً وحضوراً بين الزبائن هناك والاس، الذي يغني بصورة متواصلة أغاني الحنين الى الماضي وإلى والديه، وآشبي الذي يصل المكان ليخبر بأن راميرز الخارج على القانون شوهد في الجوار، والشريف جاك رانس الذي لا يهمه إلا مغازلة ميني التي تصده.
ذات مساء لا يختلف عن كل المساءات يصل إلى الحانة شخص غريب يعلن أن اسمه ديك جونسون، لكنه ليس في حقيقته سوى اللص راميرز، الذي يكفي اسمه لإثارة الرعب في أي مكان، وتبدو ميني الأكثر اهتماماً بهذا الغريب الذي يترك لديها مشاعر متفاوتة ينتهي عليها الفصل الأول.
أما في الفصل الثاني فننتقل إلى غرفة ميني التي تفاجأ بوجود جونسون لديها، وهنا يدخل رانس ليقطع عليهما خلوتهما معلناً أن جونسون ليس في حقيقة أمره سوى اللص الشهير ويبدأ بمطاردته من ناحية كرجل قانون من واجبه اعتقال اللص المطلوب، ومن ناحية ثانية كعاشق لميني غيور عليها، وخلال المطاردة يجرح الشريف اللص بطلقة من مسدسه، أما ميني فإنها في غفلة من رجل القانون تخفي اللص في علية غرفتها، لكن نقاط دم تسيل منه وهو في مخبئه تلفت نظر رانس، وإذ يتمكن هذا من السيطرة على الوضع تقترح عليه ميني أن يلعبا بوكر والرهان إما أن يربح فيكون اللص له، وإما أن تربح هي فتتصرف باللص كام تشاء، وتنتهي اللعبة على ميني وقد كسبت رهانها.
عندما أحبت ميني
تنقلنا نهاية الفصل الثاني هنا إلى الثالث والأخير، بعدما أطلقت ميني سراح راميرز، يقبض عليه هذه المرة حقاً في غابة كان قد لجأ إليها. وعلى الفور تعقد محكمة مرتجلة لمحاكمته على جرائمه. ولكن في لحظة إصدار الحكم تصل ميني في جمع من المنقبين المهللين الصاخبين، وتبدأ مرافعة فصيحة تذكرهم فيها بلماذا هم هنا وبأن (راميرز أو جونسون) اعتاد أن يكون واحداً منهم ورفيقاً لهم قبل أن يستبد به اليأس من تحقيق أحلامه التي هي أحلامهم أيضاً. وإذ تذكر ميني الجمع بأنها هي نفسهم كانت كأخت لهم جميعاً مؤمنة لهم أحلى الأوقات، واليوم إذ باتت عاشقة لم لا يدعونها تحقق حلمها وتبارح المكان مع حبيبها وقد تمكنت أخيراً من أن تحب، وطبعاً لن نكشف ماذا ستكون عليه نهاية هذه الحكاية هنا، لكننا نشير إلى ذلك العدد الكبير من "المحظورات" التي طبعت هذا العمل وجعلته يبدو خارجاً عن العالم الأوبرالي المعتاد، بل قريباً من مناخات النهايات المشاكسة، على أنه من الواضح أن بوتشيني لم يكتف في "عذراء الغرب" بتجديدات لافتة في الأبعاد الفنية كما في الأجواء العامة، بل تجاوز ذلك إلى الأبعاد الأخلاقية، حين تنتصر المرأة على الذكور وينتصر الحب على القانون وتتحول الدوافع إلى ذاتية.
تجديدات موسيقية
أما من الناحية الموسيقية فكانت ثمة تجديدات سوف تطبع هذا الفن الغنائي عبر استحداث تلك الأساليب الهارمونية التي لا شك أنها ثورية في مجالها، لا سيما بإيقاعاتها المستقاة حقاً من إيقاعات موسيقى "الكاونتري" و"رعاة البقر" و"الغرب الأميركي" ومناخات البطولة الفردية وعالم العصابات وما شابه ذلك، ولا شك أن كل هذه التجديدات ستكون لها تأثيراتها في الإسهام في حدوث ذلك الانتقال من عالم الأوبرا إلى عالم "الميوزيكال" الذي كان ولا يزال، بصيغه "الحديثة" جنينياً، فإذا ببوتشيني ينفضه من أساسه ليخلق ذلك المزج الخلاق بين كلاسيكية الفن الأوبرالي وتحرر الفن "الميوزياكالي"، الذي سيرى كثر من المؤرخين الموسيقيين والنقاد أنه إلى حد كبير، قد حل في القرن العشرين محل الأوبرا جاعلين من جاكومو بوتشيني أحد كبار العاملين على ذلك الانتقال.
رسالة إلى الأميركيين
ولد جاكومو بوتشيني لعائلة من الموسيقيين في عام 1858، ليرحل عن عالمنا وهو في أوج عطائه الفني وشهرته عام 1924 في بروكسل، هو الذي عاش ردحاً كبيراً من حياته في بلدان متنوعة. وكان منذ راودته للمرة الأولى فكرة أن يجعل من نفسه مبدع أعمال أوبرالية، أن يبتعد قدر المستطاع من المواضيع التاريخية أو الرومنطيقية ليقترب بأكثر ما يكون من نظيرتها المعاصرة التي تموج بالحياة الواقعية الحقيقية، ونعرف أنه في معظم إنتاجه سلك بالفعل هذا السبيل، حسبنا أن نذكر هنا تحفته "مدام باترفلاي" التي تدور في الصين متناولة موضوعاً بالغ الراهنية، ومع ذلك حتى وإن كانت الأوبرا التي نتناولها هنا بقيت الأقل شهرة بين إبداعات بوتشيني، لا شك أنها كانت مهمة بالنسبة إلى النظرة التي ألقاها على الأميركيين مذكراً إياهم بجزء من واقعهم وتاريخهم الراهن وكيف أن التسامح كان جزءاً من ذلك الزمن الذي كانوا فيه شركاء في بؤسهم وآمالهم وخيباتهم، وهي رسالة التقطها الأميركيون كما يرى كاتبو سيرة بوتشيني، ولكن بالمعنى السياسي والفكري أكثر مما بالمعنى الجمالي والفني.